أي مفاعيل لقرار المجلس الدستوري بمنح محكمة خاصة صلاحية إبطال قرار إداري؟/عصام اسماعيل
الدكتور عصام إسماعيل (استاذ القانون الإداري والدستوري في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية- الفرع الأول):
في إطار سعي المشترع إلى إصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها صدر القانون رقم 23 تاريخ 2025/8/14 الذي تضمّن نصاً خاصاً حول الطعن بقرارات الهيئة المصرفية العليا، حيث جاء في المادة 31 من هذا القانون:” تقبل جميع القرارات الصادرة عن الهيئة المصرفية العليا الطعن أمام المحكمة الخاصة المنشأة بموجب القانون رقم 110 تاريخ 1991/7/11 وتتبع أصول المحاكمات المدنية المتعلقة بمحكمة الدرجة الأولى. لا يوقف الطعن أمام المحكمة المختصة تنفيذ القرار المطعون فيه ولا يبطل القرارات المتخذة سابقاً من الهيئة المصرفية العليا – الغرفة الثانية وتقتصر الأحكام الصادرة عن المحكمة الخاصة في هذا الشأن على تحديد التعويضات المالية.
وفق هذا القانون جرى إناطة صلاحية الطعن بقرارات الهيئة المصرفية العليا بجهة قضائية محددة هي المحكمة الخاصة المنشأة بالقانون 91/110 وحصر المشترع صلاحية هذه المحكمة بالنظر في طلبات التعويض دون إبطال القرارات أو وقف تنفيذها.
إنّ هذا الموقف التشريعي منسجم كلياً مع القواعد الناظمة لعملية تعديل الاختصاص ما بين القضائين العدلي والإداري ذلك أن سلطة المشترع في قلب قواعد الاختصاص ليست سلطة مطلقة، بل هي مقيّدة بشرط أن يأتي هذا التغيير في الاختصاص لصالح حسن أداء العدالة، على أن يحصر ذلك في إطار دعاوى القضاء الشامل والعقود دون مراجعات الإبطال لتجاوز حد السلطة التي تبقى محصورة لدى القضاء الإداري(خالد قباني، “اجتهاد المجلس الدستوري والتحكيم الإلزامي في العقود الإدارية”، مجلة القضاء الإداري في لبنان، 2005، العدد السابع عشر، ص 19)، بل إن المجلس الدستوري اللبناني وإن لم يرفع مبدأ خصوصية القضاء الإداري إلى مرتبة المبدأ الدستوري إلا أنه قضى بالمقابل بأن خصوصية القضاء الاداري، فضلاً عن الاختصاص، ترتبط بعناصر متشابكة يعود بعضها الى مصدر مبادىء القانون الاداري، واخصها الاجتهاد، وقواعد القانون الاداري التي تختلف عن قواعد القانون الخاص، ويعود بعضها الآخر، الى طبيعة المنازعات التي تدخل في صلاحيات القضاء الاداري وأطرافها والامتيازات التي تتمتّع بها السلطة العامة، كما يعود الى الهدف الذي تسعى الدولة إلى تحقيقه، أيّ المصلحة العامة. وأن مبدأ خصوصية القضاء الاداري، وان كان لا يرقى الى مرتبة المبدأ الدستوري على أنّ ذلك لا يعفي المشترع من مراعاة هذا المبدأ في سنّ القوانين المتعلقة بالقضاء الاداري(المجلس الدستوري قرار رقم 2000/5 تاريخ 2000/6/27- مجموعة قرارات المجلس الدستوري 1997-2000 ص 453).
لذا كلما سكت المشترع عن تعيين المرجع الذي تناط به صلاحية النظر في مراجعات إبطال القرارات الإدارية فإنّ مجلس شورى الدولة يكون صالحاً للنظر في هذه المنازعات ما لم ينصّ قانون ما صراحة على خلاف ذلك في شأن بعض القرارات والأعمال الإدارية (م.ش. قرار رقم 397 تاريخ 1984/12/17 شكري بجاني/ بلدية بيت شباب – وقائمقام المتن ووزارة الداخلية، م.ق.إ. 1985 ص321) وهذا يعني أن حظر مراجعة الإبطال لتجاوز حد السلطة لا يستنتج استنتاجاً بل يجب إيراده صراحة لما يترتب على مراجعة الإبطال هذه من نتائج تتصل بحماية قانونية الأوضاع (مجلس القضايا قرار رقم 2020/526-2021 تاريـخ 2021/5/27 شربل عادل فريحة/ الدولة- وزارة العدل)، وهذا الأمر من المسلمات في القانون الإداري منذ القرار المبدئي (CE, Ass., 17 février 1950 Dame Lamotte ).
بالاستناد إلى هذه المبادئ، فإنّ إخراج المشترع في المادة 31 المذكورة من رقابة المحكمة الخاصة صلاحية النظر في إبطال ووقف تنفيذ قرارات الهيئة المصرفية العليا، لا يعني ولا يستنتج منه أن المشترع قد حصّن قرارات هذه الهيئة من الرقابة القضائية، بل يعني وفقاً لما أدلينا به أنها تبقى خاضعة لرقابة الجهة القضائية المختصة بمراجعات الإبطال لتجاوز حد السلطة أيّ لرقابة مجلس شورى الدولة، بخاصةٍ وأن هذا الأخير يعتبر أن اختصاص القضاء الإداري هو مبدأ ذو قيمة دستورية وفق أحكام المادة 20 من الدستور (م.ش. قرار رقم 2000/638 -2001 تاريخ 2001/7/17 الدولة/ شركة ليبانسل، والقرار الرقم 2000/639-2001 تاريخ 2001/7/17 الدولة/شركة F.T.M.L. م.ق.إ. 2004 ص 998 وص 1004).
ولهذا عندما أقرّ المشترع إخراج النظر بوقف تنفيذ وإبطال قرارات الهيئة المصرفية العليا عن صلاحية المحكمة الخاصة، فإنّه لا يستفاد من طريقة صياغة المادة أن المشترع قرر تحصين قرارات هذه الهيئة من رقابة القضاء، ذلك أن خضوع قرارات هذه الهيئة لرقابة مجلس شورى الدولة هي مسألة تتعلق بالانتظام العام لغياب نصّ مخالف. لكن المجلس الدستوري وبدلاً من تعزيز موقف المشترع والسعي لإصدار تحفظ تفسيري يعزز بمقتضاه خصوصية القضاء الإداري ومراجعة الإبطال لتجاوز حد السلطة ويقضي بأن هذه القرارات التي تصدرها الهيئة المصرفية العليا تبقى خاضعة لرقابة مجلس شورى الدولة توضيحاً منه لنية المشترع التي هي أصلاً لا تحتاج إلى توضيح.
لكن ما وجدناه أن المجلس الدستوري أخذ منحىً مغايراً، إذ بعد أن حدّد طبيعة الهيئة المصرفية العليا بأنها من نوع الهيئات الادارية المستقلّة Autorité administrative indépendante لأنه يترأسها حاكم مصرف لبنان في غرفتيها، وتمارس بشكل أساسي لمهام تنظيمية وتقريرية، فضلاً عن غياب الأصول الوجاهية وحقوق الدفاع أمامها، ما ينفي الطابع القضائي عن أعمالها، وكل ذلك اضافةً الى عنصر جوهري هو امكان الطعن بقراراتها أمام مرجع قضائي مستقل وهو المحكمة الخاصة في بيروت.
إن هذه المقدمة التي انطلق منها المجلس الدستوري هي مقدمة غير مكتملة، إذ اعتقد أن الرقابة القضائية الوحيدة التي تخضع لها الهيئة المصرفية العليا هي رقابة المحكمة الخاصة في بيروت، متجاهلاً أن الهيئة التي وصفها بأنها هيئة إدارية مستقلة وما يستتبعه ذلك من خضوع قراراتها حكماً لرقابة قاضي الإبطال لتجاوز حد السلطة، هذه المقدمة غير المكتملة أوصلته إلى نتيجة مفادها أن المشترع قد حجب صلاحية المحكمة الخاصة في بيروت بوقف تنفيذ وإبطال قرارات الهيئة المصرفية العليا وانتهى إلى اعتبار أنّ الحد من حق التقاضي بالطريقة التي ورد فيها في المادة 31 من القانون المطعون فيه بعدم الاجازة للمحكمة وقف تنفيذ القرار المطعون فيه أو إبطاله وحصر صلاحياتها بالحكم بالتعويضات المالية دون غيرها من المطالب يشكل انتقاصاً من الضمانات التي أوجبت المادة 20 من الدستور حفظها للمتقاضين، ويتعارض مع أحكام الدستور ومع المبادئ ذات القيمة الدستورية، وقضى تبعاً لذلك بابطال العبارة الواردة في ذيل المادة 31 المذكورة وهي العبارة الآتية: لا يوقف الطعن أمام المحكمة المختصة تنفيذ القرار المطعون فيه ولا يبطل القرارات المتخذة سابقاً من الهيئة المصرفية العليا – الغرفة الثانية وتقتصر الأحكام الصادرة عن المحكمة الخاصة في هذا الشأن على تحديد التعويضات المالية” وأبقى هذا الحكم على الفقرة الآتية من المادة 31: تقبل جميع القرارات الصادرة عن الهيئة المصرفية العليا الطعن أمام المحكمة الخاصة المنشأة بموجب القانون رقم 110 تاريخ 1991/7/11 وتتبع أصول المحاكمات المدنية المتعلقة بمحكمة الدرجة الأولى(المجلس الدستوري قرار رقم 2025/16 تاريخ 2025/10/3).
بحسب الحيثية والفقرة الحكمية الواردة في قرار المجلس الدستوري، فإن هذا المجلس ظّن بأن مجلس النواب حصّن قرارات الهيئة المصرفية العليا من طعن الإبطال لتجاوز حد السلطة وهو أمر غير وارد لا صراحة ولا ضمناً في هذا القانون، ورتّب نتيجة على ذلك من خلال منح صلاحية إبطال قرارات هذه الهيئة المصرفية إلى المحكمة الخاصة في بيروت بالرغم من وجود قضاء خاص للنظر في إبطال القرارات الإدارية وهو مجلس شورى الدولة.
ويكون المجلس الدستوري بهذا الحكم، قد شرّع أمراً يخالف الانتظام العام ونية المشترع وبدّل قواعد الاختصاص بين المحاكم بدون أن يملك دستورياً هذه الصلاحية.
وهذا ما يدفع لاعتبار أن ما قضى به المجلس الدستوري لهذه الناحية غير ملزمٍ لمجلس شورى الدولة بحيث إنّه إذا وردت مراجعة طعن إبطال لتجاوز حدّ السلطة ضدّ قرارات صادرة عن الهيئة المصرفية العليا، فإن مجلس شورى الدولة لن يتردد بقبول هذه المراجعة التزاماً بقواعد الصلاحية وبالنص التشريعي الصادر عن مجلس النواب الذي لم يحجب عن هذا المجلس ممارسة هذا الاختصاص، وكل ذلك بمعزلٍ عن القرار الصادر عن المجلس الدستوري المتعلق بهذه المسألة.
“محكمة” – الجمعة في 2025/10/31



