الإدارة مرآة الدولة… والمرآة مكسورة!/أنطونيو الهاشم
أنطونيو الهاشم (نقيب المحامين سابقًا):
ماذا لو قبض الموظف أجره من المواطن مباشرة؟
من يتجول في دهاليز الإدارات اللبنانية، لا يحتاج إلى مجهر لكشف عمق التدهور، ولا إلى تقرير دولي ليتيقن من فداحة الواقع. فالإدارة التي شُيّدت نظريًا على مبادئ الخدمة العامة، والعدالة، والكفاءة، باتت مرتعًا للفوضى، ومنصةً ثابتة للرشى، ومسرحًا يتكرر فيه خرق القانون .
بات الموظف العام في كثير من الإدارات أقوى من القانون نفسه، يتصرّف كأنه الآمر الناهي، يبطئ معاملات الناس أو يسرّعها بحسب مزاجه أو جيبه. المواطن، المحكوم بضرورات الحياة، يجد نفسه مضطرًا لأن يدفع “المعلوم” كي يحصل على ما هو من حقه. أصبحت الرشوة، أو ما بات يُعرف بـ”الإكرامية”، شرطًا ضمنيًا لتمرير المعاملة، فيما القانون يقف عاجزًا، والرقابة نائمة، والمحاسبة غائبة.فبات الموظف أقوى من الدولة و أقوى من القانون.
لا يعود هذا الانحدار إلى ضعف النفوس الفردية فقط، بل إلى منظومة مُمأسسة من الإهمال والتسيّب . فغياب الحوافز، وسوء الإدارة، وتدني الأجور، وعدم مساءلة الفاسدين، كلّها عوامل جعلت الوظيفة العامة ملاذًا للابتزاز، لا للخدمة.
في هذا الواقع المتهالك، اطرح ، ولو بسخرية مُرة أو بجرأة يائسة ، مقترحًا جذريًا: لماذا لا يُلغى الراتب الشهري للموظف العام، ويُستبدل بنسبة مئوية يتقاضاها مباشرة من صاحب المعاملة لقاء خدمته؟ هكذا نُضفي على الفساد طابعًا رسميًا، ونختصر مراحل الرشوة تحت مسمى “أجر خدمة”، فتُقنّن العشوائية، وتُخفّف البيروقراطية، وربما ترتفع كفاءة الأداء… أو هكذا يُظن!
بالطبع، المقترح ساخر في جوهره، لكنه يعكس عمق الإحباط ودرجة القرف من إدارة تحوّلت إلى عبء بدل أن تكون رافعة للدولة. فمن المعيب أن يتقدّم المواطن بمعاملة رسمية، ثم يجد نفسه في حالة تسوّل أمام موظف لا يرى فيه إلا مصدرًا للدخل غير الشرعي.
المطلوب: لا إصلاح فقط بل إعادة تأسيس.الإصلاح في الإدارة اللبنانية لا يكون بترقيعات خجولة، بل بإعادة تأسيس حقيقية: اختيار الكفاءات لا المحسوبيات، رقابة صارمة ومستقلة، رواتب عادلة تحصّن الموظف، وآلية شكاوى فعالة تردع الفاسدين. فالإدارة ليست جهازًا تقنيًا فقط، بل مرآة لأخلاق الدولة، وميزانًا لثقة المواطن بها.
إن لم تُنقذ الإدارة من هذا الانهيار، لن تنهض الدولة، مهما زُخرفت الخطابات أو تعددت المشاريع. وآنذاك، قد لا يبقى أمام المواطن إلا أن يدفع “ثمن الخدمة” رسميًا، لأننا لم نحسن صيانة مفهوم الدولة أصلاً.
“محكمة” – الثلاثاء في 2025/11/3



