مقالات

الإنحدار المستمرّ والطلب المستحيل والدولار الجمركي/هادي خليفة

بقلم المحامي هادي خليفة:
يتقاذف بعض من يتولّى السلطة في لبنان المسؤولية حول موضوع تحديد سعر الصرف لتعرفة الرسوم الجمركية من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية بطريقة إستعراضية لوّثوا بها مناخ بقايا مفهوم دولة القانون في الجمهورية اللبنانية،
فرئيس حكومة تصريف الأعمال ينادي بوجوب إقرار قانون من مجلس النواب لتحديد قيمة سعر الصرف،
وفي المقابل، يدلي بعض النواب لاسيما منهم أعضاء في لجنة المال والموازنة النيابية بأن مسؤولية هذا الأمر يقع على عاتق الحكومة وغير مكترثين بأن الحكومة الحالية هي حكومة مستقيلة تقوم بتصريف الأعمال.
يؤكّد هذا التقاذف أنّ الإنحدار مستمرّ في كيفية إدارة شؤون البلاد وينمّ عن خفّة ورعونة إن لم يكن جهلاّ في هذا الإطار، وهو على ما يبدو أصبح البلاء الدهري الذي سوف يلازمنا كمواطنين ملزمين أن نعيش في وطن تسوده الإضطرابات turbulence- الفكرية.
قبل التطرّق إلى المخالفات القانونية الجسيمة التي تعتري موضوع هذا التقاذف في المسؤولية، لا بدّ من تسليط الضوء حول كيف تمّ إقرار قانون الجمارك المعمول به حالياً كي يصار بعدها إلى تحديد المخالفات القانونية الجسيمة التي يقدم عليها بعض النوّاب في لجنة المال والموازنة والتي واجهها رئيس الحكومة المستقيلة بدون الإستناد إلى الأسس والمعايير القانونية الصحيحة.
صدر قانون الجمارك بمقتضى المرسوم رقم 4461 الصادر عن مجلس الوزراء بتاريخ 2000/12/15 بالإستناد إلى القانون رقم 132- تاريخ 1999/10/26 الذي فوّض بموجبه مجلس النواب الحكومة حقّ التشريع في الحقل الجمركي لمدّة زمنية محدودة لا تتخطّى الثلاث سنوات تسري إعتباراً من انتهاء المهلة المعطاة لها في ذات الميدان بموجب القانون رقم 592- تاريخ 1996/8/26 وأوجب القانون 99/132 أن يتمّ التشريع بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء، كما قضى القانون أنّ للحكومة حقّ تحديد التعرفات الجمركية بصورة مباشرة، كما لها أن تنيب المجلس الأعلى للجمارك في ممارسة هذا الحقّ، كما أنّ قانون الجمارك صدر بعد أن تمّ استشارة مجلس شورى الدولة كون مسألة استشارته تشكّل مسألة جوهرية في هذا الإطار عملاً بأحكام المادة 57 من قانون القضاء الإداري.
إستمرّ مجلس النواب، وبعد إنقضاء مهلة الثلاث سنوات الممنوحة للحكومة في القانون 132/99- على إقرار قوانين مماثلة له بصورة متعاقبة كان آخرها القانون رقم 93 تاريخ 2018/10/10 الذي عدّل المهلة الممنوحة لها في السابق واستعاض عنها بمهلة خمس سنوات تسري إعتباراً من تاريخ نشر هذا القانون في الجريدة الرسمية والذي نُشر في عددها رقم 45- تاريخ 2018/10/18، ويكون بالتالي حقّ الحكومة بالتشريع الجمركي ينتهي بتاريخ 2023/10/17.
لم يصدف أنّ أيّ من القوانين المتعاقبة الصادرة منذ العام 1996 ولغاية العام 2018 أن منح المشرّع الحكومة حقّ تحديد سعر الصرف لتعرفة الرسوم الجمركية، والحكومة لا يسعها الخروج عن نطاق قانون التفويض – loi-cadre وهي مقيّدة به، وإلاّ تُعرّض قرارها للإبطال بسبب تجاوز حدّ السلطة وهذا ما سبق وقضى به مجلس شورى الدولة بمقتضى قراره المبدئي الصادر عن مجلس القضايا بتاريخ 1992/11/19- (قرار رقم 92/14-93 منشور في مجلة القضاء الإداري العدد -7- ص:15) والذي ورد فيه:
” إنّ تجاوز حدود قانون التفويض يعتبر بحدّ ذاته اغتصاباً فادحاً للسلطة،

” إنّ المرسوم الإشتراعي كعمل تنظيمي لا يستطيع أن يضع قواعد قانونية ذات
” قوّة تشريعية إلاّ في حدود قانون التفويض…
” من المتفق عليه علماً واجتهاداً، أن تجاوز الحكومة لحدود نطاق التفويض يشكّل
” إغتصاباً للسلطة وتعدّياً من السلطة التنفيذية على صلاحيات السلطة التشريعية…
وعلى ضوء ما تقدّم،
فإنّ ما يطالب به بعض النوّاب في لجنة المال والموازنة حول مسؤولية الحكومة لتحديد سعر الصرف من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية لتعرفة الرسوم الجمركية فيه اضطراب فكري وذهول قانوني كونه يستحيل على الحكومة حتّى غير المستقيلة الخروج عن قانون التفويض، فكم بالحري بحكومة مستقيلة يفترض بها أن تقوم بتصريف الأعمال سنداً لأحكام المادة 69 من الدستور. كما نسألهم أخيراً هل تستطيع الحكومة المستقيلة التي تصرّف الأعمال ضمن المفهوم الضيّق لهذا التصريف أن تستشير مجلس شورى الدولة كي يخرج العمل الإداري المطلوب منها غير فاقد للشرعية؟
ونقول لهم في النهاية توبوا عن أفكاركم، فإنّ مراجعة الحقّ خير من التمادي في الباطل، كون ما يدمّر قلب الدولة هو التدهور الفكري عند المنافسة السياسية على ما قاله رئيس المجلس الدستوري السابق في فرنسا Jean-Louis Debré .
“محكمة” – الجمعة في 2022/8/26

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!