البيوت أسرار/أنطونيو الهاشم
أنطونيو الهاشم (نقيب المحامين سابقًا):
البيوت… تلك الأبنية الصامتة التي تنبض بحياةٍ لا يراها العابرون. نمرّ بها فنرى شبابيك مشرعة أو ستائر منسدلة، جدراناً مطلية أو متشققة، حدائق مزهرة أو أبواباً صدئة. لكننا لا نرى ما يُخبّأ في الداخل، لأنّ كل بيت، مهما بدا بسيطًا أو عظيمًا، هو كتاب مغلق لا يقرأه أحد.
في البيوت، تختبئ الحكايات. فيها تنهض الضحكة فجرًا مع رائحة الخبز، وفيها يُدفن البكاء في وسادة الليل كي لا يسمعه أحد. هناك أمّ تخبّئ وجعها بابتسامة، وأب يهرول خلف أحلامه المرهقة ليبقى واقفًا، وأطفال يرقصون فوق هشاشة المصير لأنّهم لا يعرفون شيئًا عن الغد.
كل بيتٍ يملك سره:
بيتٌ يتصدّع من الداخل رغم هندسته المتينة، لأنّ أهله فرّطوا بروحه.
وبيتٌ آخر فقير الجدران، لكنّه عامر بالمحبّة، كأنّه جنّة صغيرة على الأرض.
بيتٌ يخنقه صمت القطيعة، وآخر يفيض بكلامٍ دافئ يشبه الأمان.
البيوت أسرار لأنّها لا تكشف حالها للغريب. جارك الذي تراه مبتسمًا قد يكون قد أمضى ليلته غارقًا في دموعه. والبيت الذي تعتقد أنّه موفور الرزق قد يكون مرهونًا للديون والهموم. المال نفسه يلبس أقنعة كثيرة: يُظهر بيتًا عامرًا، بينما ينهشه الخوف من الإفلاس؛ ويُظهر بيتًا متواضعًا، بينما يفيض على أهله بالرضا والقناعة.
وفي الحبّ، للبيوت أسرار أعظم. كم من قلوبٍ تشتعل في صمت، وكم من أرواحٍ تعيش عزلةً قاتلة وهي متجاورة تحت سقف واحد. البيوت تكتب قصصاً لا تُنشَر: رسائل لم تُرسل، عتاب ابتلعته الكرامة، وأحلام مؤجّلة تنتظر يومًا أن ترى النور.
لهذا، يقال إنّ الجدران لها آذان، لكن الحقيقة أنّ لها قلوبًا أيضًا. قلوب تحفظ أسرار أهلها، تئنّ لأنينهم وتبتسم لفرحهم، ثمّ تبقى صامتة في وجه العالَم.
البيوت أسرار، لأنها مرآة أرواح ساكنيها، وحين نغادرها، لا يبقى منها في الذاكرة سوى ما عشنا فيه من دفءٍ أو برد، من أمانٍ أو خوف. أمّا أسرارها الحقيقية، فتبقى مطمورة في أعماقها، لا تبوح بها إلا لمن سكنها حقاً.
“محكمة” – السبت في 2025/10/11



