مقالات

التمانُع بين التمثيل القانوني للضحيّة وللمُتاجِر بالأشخاص/زياد مكنا

إعداد: زياد مكنّا(دكتور في الحقوق، محامٍ في نقابة المحامين في بيروت، باحث، كاتب ومستشار قانوني في العدالة الجزائيّة وحقوق الإنسان):
يعود سبب طرح مسألة التمانع في التمثيل القانوني بين من يُعتقَد أنّها ضحيّة جرم الاتجار بالأشخاص وبين الشخص المُلاحَق في ارتكاب هذا الجرم إلى وضعيّة هذه الضحيّة في قانون العقوبات؛ فعلى الرغم من أنّه يُقرّ لها هذه الصفة، يُبقي على تجريم فعلها إذا كان مخالفاً للقانون إنّما يعفيها من العقاب (المادة 586(8) عقوبات المُضافة بموجب القانون 2011/164). على سبيل المثال، إذا تمَّت المتاجرة بالضحيّة عبر استغلالها في الدعارة، تتمّ ملاحقة هذه الأخيرة بجرم تعاطي الدعارة، ويصدر حكم بإدانتها، إنّما تُعفى من العقوبة التي قُضِي بها؛ وبذلك، نكون أمام مفهوم قانوني هجين وفريد من نوعه هو “الضحيّة المجرمة”.
أدَّت ملاحقة الضحيّة، في الإجراءات عينها، مع من يُشتبَه أنّه يتاجر بها إلى وضعها في وضعيّة مساوية له ظاهريّاً، فكلاهما “مشتبه فيه” في التحقيق الأوّلي و”مدعى عليه” في التحقيق الابتدائي، بينما في الواقع تتعارض مصلحة كلّ منهما مع مصلحة الآخر بشكل كامل، إذ من مصلحة الضحيّة أن تَثبُت صفتها هذه، ما يوَفّر لها الحماية، في حين أنّ مصلحة من يُشتبَه أو يُعتقَد بأنّه يتاجر بها تتمثّل في نفي شبهة الاتجار بالأشخاص عنه. أكثر من ذلك، يُفترَض أن تكون الضحيّة في وضعيّة المدعي الشخصي المُنضَم بدعواه المدنيّة إلى الدعوى العامة للمطالبة بالحكم لها بالتعويض عن الضرر اللاحق بها على من يَثبت أنّه تاجر بها.
هذا التعارض بين المصلحتين يؤدّي حكماً إلى تمانع بين التمثيل القانوني للضحيّة وللمتاجر، فلا يُتصوَّر أن يتمكّن المحامي من الدفاع عن الضحيّة عبر إثبات صفتها هذه، وفي الوقت عينه الدفاع عمّن يُعتقَد أنّه يُتاجر بها، الذي يتطلَّب نفي صفة الضحيّة. إنّ القول بجواز هذا التمثيل، يؤدّي إلى إهدار إحدى هاتين المصلحتين، ولا شكّ في هذه الحالة أنّ مصلحة الضحيّة هي التي ستتعرَّض للخطر.
من هذا المُنطلق، أوصى الدليل المُعنون: “جريمة الاتجار بالأشخاص في لبنان: الإجراءات الخاصة بالضحايا”، الصادر عن معهد حقوق الإنسان في نقابة المحامين في بيروت في العام 2020، بأن يُمَثّل ضحيّة جرم الاتجار بالأشخاص محامٍ لا يُمَثّل المدعى عليه بهذا الجرم وغير مُكَلَّف منه، (الصفحة 23). وقد تَبَنَّت لجنة صياغة الدليل، في هذا الخصوص، ما طرحه كاتب هذا المقال في ورقة عمل قدّمها لها بتاريخ 2018/11/6، بعنوان: “ضمانات ضحيّة جرم الاتجار بالأشخاص في مرحلتي التحقيق الابتدائي والمحاكمة”.
(تمّت صياغة الدليل المشار إليه من لجنة كانت تجتمع في معهد حقوق الإنسان في نقابة المحامين في بيروت، ومؤلّفة بحسب ما هو وارد في الصفحة 3 من الدليل: عن وزارة العدل: القاضي زياد مكنّا، عن وزارة الشؤون الاجتماعيّة: السيّدة رانيا كيروز، السيّدة خديجة إبراهيم والسيّدة سناء عواضة، عن وزارة العمل: السيّدة مارلين عطا الله ، عن قيادة الجيش اللبناني: العقيد الركن زياد رزق الله، عن المديريّة العامة لقوى الأمن الداخلي: العقيد زياد قائدبيه، الرائد شربل عزيز والرائد ربيع الغصيني، وعن المديريّة العامة للأمن العام: الرائد طلال يوسف، وعن معهد حقوق الإنسان في نقابة المحامين في بيروت: المحامية إليزابيت زخريا سيوفي).
وقد وردت الإشارة أيضاً إلى حالة التمانع هذه في الكتاب الذي أَعدَدته بعنوان: “جرائم الإعتداء الجنسي والتحرّش الجنسي: العناصر وخصوصيّة التحقيق والضحايا”، الصادر عن منظّمة عدل بلا حدود، في أيلول 2022، (الصفحة 119).
بتاريخ 2022/12/27، برز تطوّر لافت في هذا الموضوع يتمثّل بصدور تعميم عن حضرة نقيب المحامين في بيروت الأستاذ ناضر كسبار، طلب فيه “من الزميلات والزملاء الامتناع عن التوكُّل في آن معاً عن المشتبه فيه أو المدعى عليه بجرم الاتجار بالبشر وعن الضحيّة المحتملة، أثناء مختلف الإجراءات القضائيّة ولا سيّما في إطار المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة، وفي خلال المحاكمة على مختلف درجاتها وأمام مختلف المراجع القضائيّة المعنيّة، حماية لحقوق الضحيّة وصوناً لها”.
هذا التعميم في استناده إلى حقوق الضحيّة، وإفساح المجال أمامها في الوصول الفعلي والفعّال إلى العدالة لإثبات صفتها هذه، يؤكّد على فكرة أساسيّة تُمَيّز إجراءات الملاحقة في جرم الاتجار بالأشخاص، وهي أنّ الضحيّة هي محوَر هذه الإجراءات، وحمايتها هي الهدف الأساس. وعلى أهميّة إقرار القانون 2011/164 لجهة تجريم فعل الاتجار بالأشخاص، فإنّه جاء مشوباً بكثير من الثغرات في ما يتعلّق بحماية الضحيّة، أهمّها تجريمها في حال ارتكبت فعلاً مخالفاً للقانون في وقت تكون خاضعة للمتاجرة.
هنا تكمن أهميّة هذا التعميم في أنّه يساهم في توفير ضمانة إجرائيّة للضحيّة التي أوجدها القانون في هذه الوضعيّة الشاذة، بحيث يُجنّبها خطر تعارض المصالح في التمثيل القانوني بينها وبين من يُعتقَد أنّه يتاجر بها، ما يرتدُّ سلباً على حقوقها.
سيُلقي هذا التعميم الضوء مجدّداً، من خلال الإشكاليّة التي يعالجها، على الخلل الكبير في النصوص القانونيّة لجهة حماية ضحيّة الاتجار بالأشخاص، وعسى أن يُشكّل ذلك دافعاً إلى الإسراع في إقرار التعديلات التشريعيّة اللازمة، خصوصاً لناحية إزالة مفهوم “الضحيّة المجرمة” الذي لا يأتلف مع أيّ منطق، لا بل يناقض الغاية الحمائيّة التي يجب على القانون توفيرها للضحيّة.
إلى أن يتحقّق ذلك، يبقى هذا التعميم مثالاً على أهميّة التدابير الداخليّة التي يمكن أن تتّخذها الهيئات المعنيّة بتطبيق القوانين المتعلّقة بحقوق الإنسان، والتي يمكن أن تُحَقّق روحيّة هذه القوانين وتخفّف من وطأة ثغراتها.
“محكمة”- الخميس في 2022/12/29

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!