مقالات

القضاء والطائفية في لبنان/ انطونيو الهاشم

انطونيو الهاشم (نقيب المحامين سابقاً):
حين يختنق العدل في ضيق الانتماء في وطنٍ خُلق ليكون رسالةً للعيش معاً ، ضاعت الرسالة بين المذاهب، وتاه العدل بين الهويّات.
صار القاضي يُسأل عمّن ينتمي إليه قبل ما يحمل من علمٍ وعدالة، وكأن الحقّ نفسه يحتاج إلى طائفةٍ تحميه.
ما زلنا نحلم بعدالةٍ تشبهنا،لا تُوزَّع بيننا.
عدالة لا تُقاس بالانتماء، ولا تُحدَّد ببطاقة الهوية ، بل بميزان الحقّ وحده.
لكن الواقع، بكل وجعه، يشي بأن العدل في لبنان يعيش تحت وصاية “الطائفية”، وأن القوس الذي رُفع رمزًا للميزان، صار مائلًا أمام سلطان الانتماء.
القضاء، في جوهره، ليس إدارةً رسمية ولا وظيفةً روتينية، بل مقامٌ أخلاقيّ، هو ضمير الدولة وميزانها الأخير.
لكن هذا الضمير خبا يومَ استُبدلت الكفاءة بالهوية، والعلم بالانتماء، وأصبح المركز القضائي يُمنح لا لمن يستحقه، بل لمن «ينتمي» إلى الطائفة التي خُصِّص لها الموقع.
كأن العدالة نفسها تحتاج إلى إذن مرورٍ مذهبيٍّ لتدخل قصورها.
أهكذا يُصان الحق؟
أهكذا يُبنى وطن القانون حين تُقسَّم مفاصل القضاء كما تُقسَّم الوزارات؟
صار القاضي يُعين في مركزٍ ما لأنه «من طائفة المركز»، لا لأنه الأكفأ فيه.
وصارت المناصب القضائية كقطعٍ على رقعة الشطرنج الطائفية، تتحرك بإشارة الزعيم، وتُبدَّل بتبدّل الولاء.
كم من قاضٍ صادقٍ وعالم همشّ لأنه بلا غطاء، وكم من مركزٍ شغله من لم يكن له من العلم سوى بركة الانتماء؟
وهكذا، يُخنق العدل بين مطرقة الانتماء وسندان الولاء، وتُصبح الكفاءة تفصيلًا، والضمير تهمة.
كفى توزيعًا للمناصب وكأنها غنائم حربٍ بين الطوائف!
كفى تسييسًا لضمير العدالة، وتخصيصًا لمواقعها كما لو كانت مقاعد في طاولة محاصصة!
فلنرفع الطائفية عن القضاء، لأن العدالة لا تُختصر بطائفة، بل هي الأفق الوحيد القادر على جمع الجميع تحت سقفٍ واحد:
سقف المساواة أمام القانون.
يجب أن يُعاد النظر في آلية توزيع المراكز القضائية بحيث تُبنى على الكفاءة والخبرة والاختصاص، لا على الانتماء الطائفي و المذهبي.
فالمبدأ الذي يجب أن يُكرَّس هو «القاضي المناسب في المركز المناسب»، أي أن يتولى كلّ قاضٍ الموقع الذي يتلاءم مع كفاءته ومساره المهني، بمعزلٍ عن طائفته أو خلفيّته.
أما حقوق الطوائف فلا تُصان بالمحاصصة داخل القضاء، بل بعدالةٍ تطبَّق على الجميع بميزانٍ واحد، وبقضاةٍ عالمين ونزيهين يمثلون القانون وحده، لا طوائفهم.
ومع كل هذا الظلم ، يبقى في لبنان قضاةٌ يشبهون الضوء.
يكتبون أحكامهم بمدادٍ من ضمير، لا من حبرٍ حزبيٍّ أو حسابٍ شخصي.
قضاةٌ يعرفون أن الحق لا يُستعار من أحد، وأن العدل لا يُقاس برضا الزعيم، بل براحة الضمير.
هم الذين يرمّمون، بصمتهم، صورة الوطن أمام نفسه، ويعيدون للعدالة ملامحها الضائعة.
لكن العدالة لا تُبنى بالقضاة وحدهم.
تُبنى بمواطنٍ يرفض أن يطلب «واسطة» قبل أن يطلب “حقّه”،
بإعلامٍ لا يصف الحكم بأنّه “ضدّ طائفةٍ” بل “من أجل القانون”،
وبجيلٍ يرى في القاضي ضمير وطن، لا ممثّل مذهب.
حين نبلغ تلك المرحلة، حين يصبح الانتماء إلى العدالة أسمى من الانتماء إلى الطائفة،
حين نكفّ عن التفاخر بعدد المراكز ،
حين يصبح العدل عنوان هويةٍ جديدة لا تحمل مذهبًا،
عندها فقط يمكن للبنان أن يرفع رأسه ويقول بكرامةٍ وصدق:
عدالتي لا طائفة لها… وميزاني لا يُقاس إلا بالحق.
“محكمة” – الخميس في 2025/10/30

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!
مجلة محكمة
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.