مقالات

القطاع المصرفي.. من سويسرا الشرق إلى الكيان المتعثّر/سابين الكك

الدكتورة سابين الكك*:
“سويسرا الشرق”، لقبٌ أطلق على منظومة المصارف اللبنانية منذ زمن بعيد، منظومةٌ عرفت نجاحات وانتصارات أبهرت الجميع وهي مبنية في معظمها على التكامل والتآلف بين الأسواق المالية والنقدية كمعقلٍ اقتصادي حرّ وقانون السرّية المصرفية كملاذٍ تشريعي آمن، واستطاع القطاع المصرفي اللبناني أن يتغلغل في جذور الاقتصاد الوطني بحيث أصبح جسر العبور الإلزامي لكلّ السياسات المالية في لبنان.
ولطالما ارتبط المفهوم اللبناني للعمل المصرفي بنجاحات باهرة وتجارب استثنائية رُدّدت على مسامعنا مراراً وتكراراً إلى درجة سلّمنا معها بأنّ القطاع المصرفي هو أحد أعمدة الكيان الوطني، لا بل أحد المقدّسات الوطنية غير القابلة للنقد أو المسّ.
وبالفعل سجّلت التجربة المصرفية اللبنانية أهمّ محطّات في تاريخ لبنان الحديث، محطّات رسمتها أحياناً مصارف اعتبرت أسطورة في حجمها، وأحياناً أخرى رجالات اختصرتها بعبقريتها.
اليوم، ونحن في خضّم أزمةٍ نقديةٍ تعصف بقوّة كبيرة قد تؤدّي نتائجها إلى ما لا تحمد عقباه، لا بدَّ من التذكير بمبادئ قانونية راسخة كان قد تناساها الكثيرون، إمّا عمداً أو إهمالاً، وهي أنّ العمل المصرفي هو عمل تجاري بطبيعته، وفقاً لأحكام المادة ٦ من قانون التجارة، وبالتالي، هو يخضع لمفهوم الأعمال التجارية لناحية المنافسة وتحقيق أكبر نسبة من الأرباح مع ما يترافق ذلك من طمع ومجازفة ومخاطرة.
وليس خافياً بأنّ العمل المصرفي التجاري يقوم في أساسه على لعبة النقود والأموال كأداة رئيسية في استثماراته، وأنّ المصارف تستعمل في تجارتها مدّخرات الشعب اللبناني المقيم والمهاجر، وهي تحتكر لصالحها صلاحية استقبال الودائع، حيث لها وحدها الحقّ بتلقّي الأموال من الجمهور بحسب نصّ المادة ١٢١ من قانون النقد والتسليف لتستعملها لحسابها الخاص في عمليات التسليف.
ولذلك، فرض المشرّع اللبناني نظاماً مصرفياً يرعى بموجبه حقوق المودعين وفرض مجموعة من القواعد القانونية على القطاع المصرفي، وأعطى لمصرف لبنان الصلاحيات التنظيمية والرقابية للحفاظ على القدرة الإئتمانية للبنوك، كما منحه أيضاً صلاحية ضبط العمليات المصرفية والنقدية بما يتلاءم مع خلق قطاع آمن ومستقرّ يضمن أموال الجمهور ومدّخراتهم.
إنّ الأزمة النقدية الحالية هي، في أساسها أزمة تعثّر مالي أدّى إلى زعزعة الثقة بالقدرة الإئتمانية للمصارف، تلك الثقة التي طالما أولاها المواطن اللبناني لعباقرة الأساطير المصرفية دون محاسبة أو مساءلة، إنسجاماً مع ثقافة عدم جواز التعرّض لمنظومة المال والأعمال، ولو من باب القانون والقضاء.
ولكنّ الغوص في خلفيات وكواليس الأزمات المصرفية اللبنانية بحثاً عن الأسباب الكامنة وراءها يقودنا في اتجاهين؛ الإتجاه الأوّل داخلي، تتدرّج فيه مخالفات الأجهزة الداخلية والمسؤولين في المصرف، من سوء الإدارة والإهمال إلى التقصير وصولاً إلى الإختلاس والأعمال المشبوهة ، والتي تؤدّي بالنتيجة إلى خللٍ في السيولة وضعف في المحفظة الإئتمانية، أمّا الإتجاه الثاني، خارجي، تتنوّع فيه مخالفات أجهزة المصرف المركزي القانونية والإدارية ولجنة الرقابة على المصارف، من اعتماد استراتيجيات مالية خاطئة إلى إحجام عن تطبيق رقابة فاعلة وصولاً إلى التغاضي عن الخلل الخطير في حجم التسليفات المصرفية والسماح باستثمارات خاطئة وأحياناً قد تصل إلى حدّ التواطؤ، والتي تنعكس دائماً نقصاً حاداً في مستوى السيولة وضآلة خطيرة في نسبة الملاءة.
هذه المخالفات القانونية وسواها من شأنها، أن تصيب الكيان المصرفي بتداعيات خطيرة وبفقدان عامل الثقة في أجهزة كيان البنوك وضرب مصداقية أجهزة الرقابة المصرفية.
ومع إعلاء راية المواطنة، حلماً عابقاً بالديمقراطية وشعار دولة القانون والمؤسّسات، نهجاً قامعاً للفساد، لا بدّ أن ندرك، بأنّ امبراطورية المصارف قصّة خرافية سقطت دون عودة، وأنّ تعزيز الكيان المصرفي يبدأ بدمج القدرات التنافسية والإدارية والتنظيمية والمالية للبنوك وأنّ تنقية القطاع المصرفي هو الممرّ الإجباري للإصلاح.
*أستاذة محاضرة ورئيسة قسم القانون الخاص في كلّية الحقوق- الجامعة اللبنانية
المصدر: مجلّة الأمن العام- كانون الأوّل 2019
“محكمة”- السبت في 2020/6/6

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!