اللامركزية الادارية في لبنان بين النظرية والتطبيق/ شيرين عبيد
د. شيرين عبيد:
لقد عرف لبنان اللامركزية الإدارية منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، في عهد الإنتداب جرى إنشاء العديد من البلديات، وقد تم التوسع في إنشاء البلديات في مختلف المناطق اللبنانية في عهد الإستقلال، وجرى الكلام على ضرورة تطوير نظام اللامركزية الإدارية في لبنان منذ الستينات، واعتماد اللامركزية الموسعة كوسيلة من وسائل تحقيق التنمية.
وقد اصدر حاكم لبنان الكبير القرار 1208 الذي احتفظ بموجبه بالاطار العام للنظام العثماني ولكن مع التقليل من اللامركزية، وبعدها صدرت قوانين عديدة تنظم عمل البلديات في لبنان، كان آخرها المرسوم الإشتراعي رقم 118 الصادر في 30 حزيران1977 وهو المعمول به حالياً، الذي عرف البلدية بموجب المادة الاولى منه: “بأنها ادارة محلية تقوم ضمن نطاقها بممارسة الصلاحيات التي يخولها اياها القانون”.
لفهم نظرية اللامركزية الادارية، يقتضي ان نتعرف على مفهومها في الفرع الاول، صورها في الثاني، تمييزها عن غيرها من الانظمة المشابهة في الثالث، والفرع الرابع والاخير لتقييمها وتطبيقها.
الفرع الاولى : ماهية اللامركزية الإدارية
سنتطرق في هذا الفرع الى مفهوم اللامركزية الادارية وصورها وذلك في الفقرتين التاليتين.
الفقرة الاولى: مفهوم اللامركزية الادارية
لقد اثار تعريف نظام اللامركزية الادارية جدلاً طويلاً بين فقهاء القانون، فقد عرفها بعض الفقهاء الفرنسيين بانها تعني نقل او تحويل سلطة اصدار الاوامر والقرارات الى مجالس محلية منتخبة، فيرى الفقيه الفرنسي لوبادير laubadere بأنها: “هيئات محلية لامركزية تمارس اختصاصات ادارية، وتتمتع بإستقلال ذاتي، وبالتالي فإنها الاعتراف بقدرة سكان الوحدات الادارية المحلية على ادارة شؤونهم الخاصة بأنفسهم من خلال المجالس المحلية المنتخبة مع بقاء هذه الوحدات المحلية مندمجة في الدولة ذاتها”.
وقد عرفها جورج فيديل georges vedel وبيار دلفولفيه pierre delvolve بأنها: “سلطات تقرير لاجهزة من غير موظفي السلطة المركزية، لا تخضع لواجب الطاعة التسلسلية وغالباً ما تنتخب من قبل المواطنين اصحاب العلاقة”.
كذلك عرفها الدكتور محمد رفعت عبد الوهاب بالقول: “يقصد باللامركزية الادارية توزيع الوظائف الإدارية في الدولة بين الحكومة المركزية، وبين أشخاص عامة اخرى محلية او مرفقية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال، ولكن مع خضوعها للوصاية الإدارية التي تمارسها الحكومة المركزية”.
وعرفها الدكتور فوزت فرحات على انها: “توزيع وظائف الدولة الإدارية بينها وبين اشخاص القانون العام الاخرى الاقليمية (اللامركزية الاقليمية)، والمرفقية (اللامركزية المرفقية) التي تتمتع بالشخصية المعنوية المستقلة”.
الفقرة الثانية: صور اللامركزية الادارية
اولاً: اللامركزية الادارية الاقليمية
وهي تعني وجود هيئات لامركزية تكون على شكل وحدات محلية على جزء من اقليم الدولة. وهذه الصورة الاولى للامركزية الادارية، وترتبط بفكرة الديمقراطية الآيلة الى منح سكان المنطقة او المحلة، قدراً كبيراً من الاستقلال في ادارة شونهم ومرافقهم الحياتية والخدماتية. وفي لبنان، تتمثل هذه الصورة بالبلديات فقط.
تقوم على مستوى جغرافي، بمعنى قيام جماعات محلية تربطها روابط اجتماعية، تاريخية، ثقافية ومصالح ذاتية مشتركة ضمن نطاق جغرافي وتكون محددة ادارة شؤونها بنقسها، عن طريق مجالس منتخبة تتمتع بالشخصية المعنوية وتستقل عن السلطة المركزية مالياً وادارياً، وتكون خاضعة لرقابته وفقاً للانظمة والقوانين مما يعني تمتع الوحدات المحلية المستقلة بالشخصية المعنوية والمعترف بها من قبل المشرع كأجزاء من اقليم الدولة، وتتمتع بقدر من الاستقلال في ادارة المرافق وشؤونها المحلية.
ويمكن تعريف اللامركزية الاقليمية بأنها تنظيم الجهاز الاداري في الدولة بشكل يسمح بتعدد اشخاصها الادارية على اساس اقليمي، اذا اللامركزية الاقليمية هي استقلال جزء من ارض الدولة بإدارة مرافقها بحيث يكون للشخص الاداري اللامركزي اختصاص عام بالنسبة لجميع المرافق هذا الجزء المحدد من ارض الدولة، حيث انها تعمل على انشاء وحدات اقليمية تتمتع بالشخصية المعنوية وتتمتع بإستقلال مالي واداري عن الدولة وذلك لإدارة جزء من اقليم الدولة مثل البلديات في لبنان.
ثانياً: اللامركزية الادارية المرفقية
ان اللامركزية الاقليمية ليس النظام الوحيد للامركزية الادارية وانما لمقتضيات المصلحة العامة والتطور وجد نظام جديد وقد عرف هذا النظام في القانون الاداري باسم اللامركزية المرفقية، اذ انها تقوم على اساس طبيعة النشاط وليس على اساس جغرافي “المصالح المستقلة، المؤسسات العامة، المرافق العامة، حيث ان اللامركزية المرفقية توجد عن طريق هيئات تختص بإدارة مرافق عامة او عدة مرافق ومنح تلك الهيئات الشخصية المعنوية وبعض الاستقلال الذاتي ومن امثلتها المؤسسات العامة كالكهرباء والجامعة اللبنانية وغيرها.
اذ ان المرافق العامة مثل الكهرباء والبريد والتلفون يفضل ان يدار بعيداً عن النظام المركزي، فيمنح هذا المرفق العام الشخصية المعنوية وذلك لضمان الكفاءة الفنية لادارته، اذ تسمى اللامركزية المرفقية بشكل عام المؤسسات العامة وهي اسلوب من اساليب ادارة المرافق العامة، يقصد بها ادارة مرفق عام او عدد من المرافق العامة ذات الاهداف الموحدة، بواسطة هيئة ادارية يمنحها القانون الشخصية المعنوية، وتكون مستقلة ادارياً مالياً وفنياً عن السلطة الادارية التي انشأتها.
وفي الغالب تلجأ الدولة الى هذا الاسلوب لغرض اشباع حاجات ضرورية ملحة للمواطنين او تنشأ هذه المرافق لغايات معينة قد تكون اجتماعية او ثقافية او تجارية حيث يتطلب هذا المشروع اختصاصات فنية تتعلق بالمصلحة العامة، فتلجأ الى انشاء هيئات عامة يعترف المشرع لمرفق عام بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والاداري في ادارة شؤونه تحت رقابة واشراف الدولة من أجل تسهيل ممارسة نشاطها وتقديم الخدمات الضرورية على نطاق الدولة والسؤال الذي يتبادر في اذهاننا هل تعتبر هذه المؤسسات هيئات لا مركزية في نطاق اللامركزي بحسب المفهوم القانوني؟
إن اللامركزية المرفقية أو الفنية أصبحت من أساليب الدول الحديثة التي تأخذ به، لكن فقهاً كثيرون من فقهاء القانون الإدراي وجهوا انتقادات شديدة لهذا النظام، حتى ان كثيراً منهم ينكر منح المؤسسات العامة الصفة اللامركزية ويعتبر الصفة الوحيدة التي تعطي اللامركزية هو شكل اللامركزية الإقليمية، لكون ان اللامركزية المرفقية تعتبر في نظرهم فرع من فروع الإدارة العامة اعطيت نوع من الإستقلال والتميز وارتباطها ارتباطاً هرمياً بالوزير المختص، ويكون على رأس سلطة هذه الإدارة في الأغلب شخص فني غير الوزير مستقل وينتمي لها موظفون لا يخضعون تسلسلياً لسلطة الوزير تسمى مؤسسات عامة، والتي لا يمكن ان تسمى مؤسسات لامركزية
الفرع الثاني: اركان اللامركزية الإدارية
تقوم نظرية اللامركزية الإدارية على مبادئ أو أركان أو عناصر أو شروط، لا تتحقق الا بتوافرها، وهي:
اولاً: الإعتراف بوجود مصالح معينة متميزة عن المصالح القومية
ان هذه المصالح قد تكون محلية او تخصصية (وظيفية)، من الافضل ان تباشرها هيئات لامركزية، فتترك لها تبعاً لعوامل عديدة، منها حسن الاداء لتحقيق النتائج المرجوة، وترك نفسه.
ومن المتعارف عليه في هذا المجال ان تحديد المصالح المحلية التي تديرها الهيئات اللامركزية المحلية لا يعود لا الى هذه الهيئات نفسها ولا الى السلطة المركزية، بل يتولى امر تحديدها المشرع عبر القانون. وينجم عن ذلك بأنه لا يجوز الانتقاص من اختصاصات الهيئات المحلية الا بقانون اخر مماثل. وبعد الاخذ بنظام اللامركزية في نظام الادارة المحلية يعني ترك الشؤون المحلية للسلطات المنتخبة المعنية، مما يسمح للحكومة المركزية بالتفرغ لادارة المرافق القمية وحدها.
ثانياً: قيام اجهزة تؤمن هذه المصالح
ان وجود المصالح المتميزة المتقدم ذكرها، لا يكفي للقول بأننا امام لامركزية ادارية طالما انه لم يجر انشاء الاجهزة او المؤسسات او الهيئات التي تتولى الاشراف على هذه المصالح.
وقد تخرج تلك الاجهزة الى حيز الوجود، بعد صدور صك الانشاء، عبر الانتخاب كالبلديات او التعيين كالمؤسسات العامة. كما ينبغي ان يكون هناك حرص على تمتع تلك الاجهزة بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والاداري، بشكل حقيقي وفعال.
يقوم نظام اللامركزية المحلية على فكرة الديمقراطية، وهذا يعني وجوب انتخاب مجالس محلية بواسطة سكان الاقليم او الوحدة المحلية لتتولى ادارة المصالح المحلية للاقليم. وهناك اجماع فقهي على حق سكان النطاق البلدي بإدارة مصالحهم المحلية عن طريق انتخاب مجالس محلية بالاقتراع العام المباشر. بيد ان بعض الدول تجيز تعيين بعض العناصر ذات الخبرة والكفاءة في المجالس المحلية شرط ان تبقى الأغلبية للعناصر المنتخبة.
ثالثاً: احتفاظ السلطة المركزية بحق الوصاية او الرقابة
ان اللامركزية الإدارية لا تعني استقلالاً تاماً عن الدولة، حتى ولو كانت نوعاً من الادارة الذاتية. بمعنى اخر ان استقلال الشخص اللامركزي لا يمكن ان يكون مطلقاً بل نسبياً. من هنا فإن الرقابة من قبل السلطة المركزية على الشخص اللامركزي ضرورية وواجبة وحتمية انما ضمن حدود وضوابط.
فالهدف من الرقابة هو الاطلاع على نشاط الشخص اللامركزي والتأكد من تطبيقه للقوانين، اما الهدف من الحدود والضوابط فهو منع السلطة المركزية من الهيمنة على الهيئة اللامركزية، والسيطرة عليها كلياً وفعلياً، بما يشلها او يجعلها في احسن الاحوال، خاضعة لارادة السلطة المركزية، الامر الذي يلغي في نهاية المطاف سبب وجودها ومبرر ظهورها على مسرح القطاع العام.
وان اصدق وادق تعبير على الوصف الصحيح لهذا الركن الجوهري، هو ما كتبه د. خالد قباني في كتابه عن اللامركزية الادارية ومسألة تطبيقها في لبنان حيث يقول: “… اللامركزية بمفهومها الصحيح ليست تبعية وليست استقلالاً. فهي ليست تبعية من حيث ان علاقتها بالسلطة المركزية ليست علاقة رئاسية ولا علاقة خضوع، بمعنى انه ليس للادارة المركزية سلطة تسلسلية على الادارة اللامركزية.
وهي ليست استقلالاً بمعنى ان الوحدات الادارية الاقليمية لا تكون كيانات مستقلة قائمة بذاتها، ولا تتمتع بسلطات الدولة الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية.
الفرع الثالث: اللامركزية الادارية وتمييزها عن غيرها من الأنظمة المشابهة لها
الفقرة الأولى: اللامركزية الإدارية واللاحصرية
إن الحديث عن التنظيم الإداري يستتبع التعرض لما يمكن تسميته باللاحصرية الإدارية، وتعني “توسيع صلاحيات ممثلي السلطة المركزية في المناطق الإدارية مع بقائهم تابعين لها ومعينين من قبلها” دون ان يؤدي ذلك الى استقلالهم عن السلطة المركزية، وذلك ان ممارستهم صلاحياتهم انما تتم تحت رقابة واشراف الوزير المختص، اي ضمن اطار السلطة التسلسلية. واللاحصرية بهذا المعنى تختلف عن اللامركزية الإدارية، فهي تبقى ضمن اطار المركزية وتعد صورة من صورها ووجهاً من وجوهها، وتقوم على توسيع سلطات واختصاصات ممثلي السلطة المركزية المحليين تخفيفاً من أعباء هذه السلطة، ومنعاً لإختناقها. وبعبارة أخرى تقوم اللاحصرية على نقل او تحويل جزء من صلاحيات السلطة الإدارية في العاصمة الى ممثليها في المناطق. لا تتضمن اللاحصرية اي شكل من اشكال الديمقراطية، فتقتصر على التعيينات، ولا يتخللها اي شكل من أشكال الإنتخابات”.
والتساؤل الذي يبقى ماثلاً امام الباحث في هذا المجال، يدور حول مدى فاعلية اللاحصرية، ومدى ما تؤمنه للمواطنين من تسهيلات، وما تخففه عن كاهلهم من مشقات الرجوع الى الإدارة المركزية في امور عديدة من حياتهم واعمالهم.
فاللاحصرية هي شكل من اشكال المركزية، فهي ليست وجهاً من وجوه اللامركزية، فهي بالتالي تؤدي الى اقتصاد في النفقات، والى وضوح في العمل وتوحيد لنمطه، كما تساعد على تنظيم افضل للمصالح العامة، ولكن خلط الكثيرون بين مفهومي اللاحصرية واللامركزية، في حين ان الفرق بينهما اساسي، فصلاحيات التقرير في النظام اللاحصري تعطى لموظفين يبقون خاضعين للسلطة المركزية، في حين ان صلاحيات التقرير في النظام اللامركزي تعطى لهيئات محلية، تتمتع بشيئ من الاستقلال الإداري والمالي عن السلطة المركزية، فاللاحصرية لا تؤدي الى إنشاء هيئات إدارية مستقلة، ولكنها تنقل فقط موقع سلطة التقرير او كما يقول اوديلون باروت انها دائماً نفس المطرقة التي تضرب، ولكن مع تقصير اليد الضاربة”.
فإن اللاحصرية قد تحصل في نظام استبدادي، وهي تختلف عن اللامركزية من حيث ان السلطات المناط بها امر اتخاذ القرارات في المناطق والاقاليم، هي معينة من قبل الحكومة المركزية، وتمثل هذه الحكومة في تلك المناطق وتعزل من قبلها، وتتخذ قرراتها بإسم الدولة، في حين ان السلطات اللامركزية إنما تمثل السكان المحليين وتعمل وتتخذ قراراتها بإسمهم.
الفقرة الثانية: اللامركزية الإدارية والمرفقية
تتمثل اللامركزية المرفقية بشكل عام بما يسمى بالمؤسسات العامة. ان اللامركزية الإقليمية او الفنية اصبحت معتمدة في عصرنا الحاضر كأسلوب من أساليب الإدارة التي تأخذ بها معظم الدول الحديثة، ولكنها تعرضت لنقد شديد من كثير من فقهاء القانون الإداري، حتى أن بعضهم ينكر إعطاء المؤسسات العامة صفة اللامركزية، ويعتبر ان الشكل الوحيد من التنظيم الإداري الذي يستحق هذه الصفة، هو شكل اللامركزية الإقليمية. إنما هو فرع من فروع الإدارة العامة أعطيت بعضاً من الإستقلال والتمييز.
ويرى بردو في انتقادات ايزنمان Eisenmann للمؤسسات العامة ما يستحق التأييد. ذلك ان اللامركزية الإقليمية وحدها، برأيه، تختص بوحدة السلطة او بتجزئتها وتتناول تنظيم السلطة العامة وهيكلية الدولة، في حين ان اللامركزية المرفقية لا تؤثر ولا تغير في وصف النظام الاداري، ولا علاقة لها بالتمييز بين الهيئات المركزية والهيئات اللامركزية، وعلاقتها بالتنظيم الإداري تقتصر على مسألة توزيع الإختصاصات المادية فقط، وهي لا تشكل في نظره بالمعنى الحصري والقانوني لهيكلية التنظيم الإداري لا مركزية حقيقية، وان كان يتسامح في اعطاء تلك المؤسسات صفة اللامركزية نظراً لما في طريقة تنظيمها من سهولة وبساطة.
الا ان هناك عدداً كبيراً من فقهاء القانون الإداري والدستوري يعترف لهذه المؤسسات بصفة اللامركزية، ولكنه يتشدد في إضفاء هذه الصفة عليها الا اذا توافر عدد من الشروط الأساسية ان في طريقة إدارتها او في أسلوب اختيار القيمين عليها.
الفقرة الثالثة: اللامركزية الادارية والفدرالية
يرى فقهاء القانون العام بأن هناك اختلافاً حول المدى القائم بين اللامركزية السياسية متجسدة بالفدرالية وبين اللامركزية الادارية، اعتبر البعض الى ان الفارق هو فارق في الدرجة والمدى وليس فارقاً في الطبيعة والجوهر، وذلك على اساس انهما مظهران لفكرة واحدة، وهي اللامركزية بما تعنيه من تعدد في مراكز السلطة، وذلك بتوزيعها بين هيئات مستقلة، فإذا تناول هذا التوزيع الوظيفة الادارية كنا امام لامركزية ادارية، واذا امتد الى سلطة الحكم اي السلطة السياسية، كنا بصدد لا مركزية سياسية.
واذا كانت اللامركزية الادارية تعني في مجملها، توزيع الوظيفة الادارية بين السلطة المركزية في العاصمة، والهيئات الاخرى المحلية او المرفقية، فإن مفهوم التوزيع يبقى في دائرة مباشرة الوظيفة الادارية، فهو نظام اداري لا يتعلق بنظام الحكم السياسي او شكل الدولة، فكما يمكن اعماله في الدولة البسيطة الموحدة، يمكن اعماله في الدولة الاتحادية ايضاً. اما نظام الاتحاد الفدرالي، فيقرر للاقاليم قسطاً وافراً من مظاهر السيادة الداخلية الى جانب الدولة الاتحادية، فهو يتعلق والحالة هذه بالحكم السياسي في الدول المركبة، الذي يعمل على توزيع الوظيفة السياسية في الدولة على سلطات عامة اتحادية واخرى سلطات محلية خاصة بكل ولاية او اقليم على حدة.
اذاً هناك فرق في طبيعة كلا النظامية، فاللامركزية الادارية ذات طبيعة ادارية بحتة تتعلق بكيفية ممارسة الوظيفة الادارية، فهي مجرد اسلوب من اساليب التنظيم الاداري. اما النظام الفدرالي، فهو ذو طبيعة سياسية تقوم على اساس توزيع مظاهر السيادة الداخلية في الدولة، حيث نجد في الولايات او الاقاليم سلطة تشريعية محلية، وسلطة تنفيذية محلية، وقضائية.
من الناحية القانونية ان اللامركزية الادارية تحكم الادارات المحلية بواسطة قانون خاص تضعه الحكومة المركزية. اما الفدرالية فإنها تحكم بواسطة دستورها الخاص بها. اما من ناحية الاستقلال، فإن اللامركزية لا تتمتع بالاستقلال عن الحكومة المركزية، بل هي خاضعة لوصاية ورقابة الحكومة المركزية. اما الفدرالية، فإنها تتمتع بإستقلال ذاتي عن الحكومة المركزية فيما يخص الادارة الذاتية، فلها دستورها الخاص وسلطتها التشريعية، ولها ايضاً نظام الحكم الخاص بها، ومن ناحية دورها في المشاركة في القرار الوطني، فاللامركزية لاتملك هذا الدور.
الفرع الرابع: ذاتية اللامركزية الادارية وتقييمها
الفقرة الاولى: وسائل تحقيق اللامركزية الإدارية
تتحقق اللامركزية الادارية بوسيلتين اثنين: الإعتراف بالشخصية المعنوية والإستقلال في الادارة.
أولاً:الاعتراف بالشخصية المعنوية
الشخصية المعنوية هي الوسيلة القانونية التي تتيح استقلالية الشخص اللامركزي عبر تحقق ادارة ذاتية له يعبر عنها المجلس الذي يديره. ان اضفاء الشخصية المعنوية على بعض الاشخاص العامة يرتب نتائج مختلفة: ذمة مالية مستقلة، موظفون عموميون لهم قواعد خاصة بهم، اهلية التصرف والحق بالتقاضي…
يضاف الى ذلك ان تحقق اللامركزية الادارية لا يمكن ان يتم الا في ظل الاعتراف بالشخصية المعنوية للوحدات الادارية الاقليمية، والا فإننا نكون ازاء عدم تركيز اداري لصالح وحدات واجهزة تابعة للحكومة المركزية، اي تابعة للشخص المعنوي الوحيد وهو الدولة.
ثانياً: الاستقلال في الإدارة
الاستقلال في الادارة هو الركن الاساسي في تأمين استقلالية الهيئات الادارية اللامركزية في مباشرة وظائفها، انه حجر الزاوية، لا بل المعيار الرئيسي لوجود اللامركزية والتي لا يرتفع بنيانها الا اذا كان استقلال مجالسها مؤمناً ومضموناً بصورة عملية. لكن هذا الاستقلال لا يصل الى حد الانفصال المطلق والى قطع كل علاقة مع الدولة، لان ذلك لا يؤدي فقط الى نشوء كيانات سياسية مستقلة عن الدولة فحسب، بل يجرد اللامركزية ايضاً من مفهومها الصحيح القائم على التبعية وعدم الاستقلالية السياسية.
فهي ليست تبعية من حيث ان علاقتها بالسلطة المركزية لا تتخذ شكل سلطة تسلسلية. وهي ليست استقلالية من حيث ان علاقتها بالسلطة المركزية لا تتصف بالصفة الدستورية. وبالتالي، فاللامركزية هي وسط بين هذين المفهومين، وتقع بين نقيضين المركزية والفدرالية. فبقدر ما يضيق استقلال الاشخاص المعنوية اللامركزية نقترب من المركزية اللاحصرية، وبقدر ما يتسع هذا الاستقلال بقدر ما نصل الى حدود الفدرالية. وللمحافظة على التوازن بين هذين المركزين اعطيت السلطة المركزية حق الرقابة الادارية على اعمال السلطات اللامركزية وهذا ما اصطلح على تسميته بالوصاية الادارية وقد وضعت ضوابط وحدود لهذه الوصايا تجعلها تختلف في الجوهر عن السلطة الرئاسية التي يمارسها الرئيس على المرؤوس في النظام المركزي، وذلك على الشكل التالي:
1- الاصل هو استقلال الشخص اللامركزي، لذلك فلا وصاية من دون نص ولا وصاية ابعد من النص، بينما تمارس السلطة الرئاسية من دون نص ولا تستبعد الا بموجب.
2- يمتنع على السلطة المركزية توجيه اوامر وتعليمات مسبقة للشخص اللامركزي، كما لا يجوز لها الحلول مكانه في عمل يدخل في صلب اختصاصه الا بموجب نص في حين يبقى نشاطة الموظفين في النظام المركزي بكامله تحت رقابة السلطة الرئاسية.
3- يعود لسلطة الوصاية حق المصادقة او رفضها كلياً على القرار المعروض عليها، ولكن ليس لها ان تخل اي تعديل عليه، في حين يبقى من حق الرئيس في السلطة الرئاسية تعديل قرارات مرؤوسيه.
الفقرة الثانية: تقييم اللامركزية الإدارية
ان نظام اللامركزية الإدارية ليس وليد ساعته، وليس نظاماً صنعته يد المشترع، او خلفته ظروف طارئة معينة. وبقدر ماهو نظام اداري متطور قائم على توزيع الوظيفة الإدارية في الدولة بين الإدارة المركزية في العاصمة والادارة المحلية في المناطق والاقاليم، بقدر ماهي جذوره بعيدة في التاريخ وعميقة في النفوس بحيث تلتقي مع المجتمعات الانسانية الاولى التي كانت تجمعها وحدة في المصالح ووحدة في الشعور ووحدة في المصير.
والنظام اللامركزي هو تكريس قانوني لهذه الجذور التاريخية المتأصلة في الشعوب عبر الأجيال، ونشأته القانونية رافقت نشأة الدولة العصرية، الدولة القانونية، اي الدولة التي يسودها القانون، في تنظيم اجهزتها وتوزيع اختصاصاتها وسائر مظاهر أعمالها ونشاطاتها. وقد اصبحت اللامركزية وجهاً من اوجه تنظيم جهاز الدولة الإداري. وهي في نفس الوقت حاجة وضرورة.
– حاجة لان الدولة الحديثة في العصر الحاضر لاتقوم الا على التنظيم. والتنظيم يعني توزيع للعمل، وتحسين لأساليب الإدارة، ومعرفة للحاجات والمتطلبات.
– وضرورة، لأن نظام اللامركزية يؤمن حدا ادنى من الحريات، وينمي الشعور بالمسؤولية وبالأهمية، ولهذا تأثيره الكبير، من الناحية النفسية على الأقل، لانه يؤدي الى إذكاء روح المشاركة في الحياة العامة، واذكاء روح التضامن، والى التفاعل بين طبقة الحكام والمحكومين ضد اطار الدولة الموحدة.
ولاعطاء تقييم واضح لنظام اللامركزية الإدارية، لا بد من النظر الى سيئات وحسنات النظامين، ان على الصعيد الإداري، او على الصعيد الإجتماعي، او على الصعيد السياسي.
أولاً: من الناحية الإدارية: ان اللامركزية تخفف من اعباء السلطة المركزية التي تؤدي كثرة اعمالها وتركيزها في هيئة واحدة الى نوع من الاختناق. وهذا ما قاله Ives Meny بقوله: “ان المركزية هي السكتة في المركز والشلل في الأطراف”، ومن جهة اخرى ان تركير سائر النشاطات في العاصمة تبعاً لوجود السلطة المركزية فيها ينعكس على مختلف اوجه الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، بحيث تنمو وتزدهر وتتطور على حساب المناطق والملحقاة وبقية اجزاء واطراف الدولة، لان بعد السلطة المركزية عن الحياة المحلية يؤدي الى اهمال حاجاتها وعدم التحسس بمشاكلها، مما يسبب هوة سحيقة في درجة النمو والحضارة في الدولة الواحدة وبين ابناء المجتمع الواحد.
والواقع ان الهيئات المحلية المنتخبة في النظام اللامركزي هي اقدر على معرفة حاجات ومتطلبات الجماعات المحلية وعملها اجدى لان وجودها على مقربة من السكان المحليين يختصر الوقت ويساعد على تبسيط المعاملات والاجراءات ويقضي على الرتابة الادارية.
هناك من يرى في اللامركزية الإدارية الإقليمية سيئات الى جانب ما فيها من حسنات، فهي قد تجر الى تغليب المصالح الاقليمية، على المصالح الوطنية، ذات الأهمية الحيوية على صعيد الوطن ككل. كما انها تؤدي الى المساس بوحدة الدولة الإدارية نظراً لتوزيع الوظيفة الادارية بين السلطة المركزية من ناحية والسلطات اللامركزية من ناحية اخرى، كما انه يخشى من اللامركزية المرفقية ان يغلب الفنيون في ادارتهم للمرافق العامة الاعتبارات الفنية على الاعتبارات المتعلقة بالصالح العام.
ولكن هذه الانتقادات، على ما فيها من وجه حق، لاتثبت امام الواقع العملي والقانوني. لان السلطة المركزية تملك من الامكانات العملية والقانونية مايجعلها في وضع متفوق تتمكن معه من ضبط التجاوزات وتوجيه السلطات المحلية والتأثير فيها، بحيث تبقى نشاطاتها منسجمة مع خطة الدولة واتجاهاتها العامة، لاسيما عن طريق الرقابة الادارية التي تمارسها على السلطات المحلية، والرقابة القضائية التي تستطيع بواسكتها ابطال اعمالها وقراراتها المخالفة للقانون.
ونرى ان اهم مايمكن ان يوجه من انتقاد لنظام اللامركزية الإدارية على الصعيد الإداري هو عدم قدرة المجالس الإدارية اللامر كزية بحجمها وامكاناتها المالية والادارية والفنية على مواكبة متطلبات الحياة العصرية، اقتصاديا واجتماعياً، والتي توجب وضع خطط انمائية شاملة، تطبق على مستويات ادارية واسعة. كما ان اهم مايوجه من انتقاد الى نظام اللامركزية المرفقية، انه يؤدي بعثرة الاموال العامة، والى زيادة النفقات الادارية، بحيث تصرف الإعتمادات المرصودة لها على النفقات الادارية وتعويضات الموظفين.
ثانياً: من الناحية الإجتماعية: تخلق اللامركزية من الناحية الإجتماعية نوعاً من التضامن بين ابناء الوحدة المحلية، كما تخلق نوع من الحياة المشتركة في ما بينهم، بحيث تتشابك المصالح وتتوحد الاتجاهات والاهداف. فضلاً عن ان اشتراك سكان الوحدات المحلية بإدارة الشؤون التي تخصهم هي فرصة للتعاون في مجال الحياة العامة، ليس بصورة مجردة ومحصورة في نطاق الاجتماعات واللجان المحلية، ولكن من خلال احتكاكهم بالمشاكل والصعوبات العملية في ادارة المرفق العام المحلي. وما من شك ان الاحتكاك بالواقع له قيمة تثقيفية وتأهيلية. وتعايش المجموعات المحلية في بيئات واطارات جغرافية ضيقة نوعاً ما، يخلق شيئاً من التآلف والعادات المشتركة المتميزة.
ولكن ما يخشى من نظام اللامركزية على الصعيد الإجتماعي، ان يؤدي نشوء المجتمعات المحلية ضمن اطارات جغرافية مغلقة الى نوع من العزلة في الحياة العامة الوطنية، وان تخلق هذه العزلة نوعاً من الجدار العالي بين المجتمعات المحلية نفسها وبينها المجتمعات الاخرى ضمن الوطن الواحد، لاسيما اذا ما ولدت التقاليد والاعراف والعادات التي تتأصل في النفوس، مع مرور الزمن، شعوراً بالتمايز، وبالتالي بعدم الرغبة في الانخراط في الحياة العامة والتعاطي مع سكان المناطق الاخرى.
ثالثاً: من الناحية السياسية: ان نظام اللامركزية، من الناحية السياسية، يكرس حرية واستقلال السلطات المحلية بإدارة نفسها بنفسها. وهو يستجيب من هذه الجهة لحاجة نفسية وحياتية لدى المواطن، هي ان يكون حراً وان يمارس هذه الحرية بصورة فعلية، بمشاركته في الحياة العامة.
فهذا النظام يرتبط اذاً ارتباطاً عضوياً بفكرة الديمقراطية السياسية التي تتجسد على صعيد الوطن بمشاركة الشعب في الحكم والحياة السياسية عن طريق اختيار ممثليه، وعلى الصعيد المحلي، بمشاركة المواطنين في ادارة شؤونهم المحلية، عن طريق انتخاب هيئاتهم المحلية. فالشعب في النظم الديمقراطية هو مصدر السلطات جميعاً.ولهذا قيل ان اللامركزية هي الديمقراطية الادارية التي تدير الشعب بواسطتها شؤونه المحلية واللامركزية تحترم الحرية لانها تضع حداً لسلطة الحكومة.
ولم تسلم اللامركزية من الانتقاد، من الناحية السياسية فهي في نظر الكثيرين، تشكل على الصعيد السياسي خطراً كبيراً لانها تضعف سلطة الدولة المركزية وتهدد وحدة الدولة، لانها تقوم على خلق مجموعة من الوحدات الادارية المستقلة داخل الدولة.
ولكن هذه الانتقادات والمخاوف تفقد كثيراً من قيمتها اذا ما فهمت اللامركزية عل حقيقتها ومورست كما ينبغي لها وفي الحدود التي ترسم لها. فاللامركزية كما نعلم هي وجه من اوجه التنظيم الإداري. فهي اولاً شأن اداري، والاستقلال فيها هو استقلال اداري، وصلاحيات الهيئات التي تقوم عليها هي صلاحيات ادارية.
وفي ظل اللامركزية الادارية، لا شك ان هناك مساوئ لا تخلو من الخطورة على الصعيد السياسي، تتجلى بنشوء الحزبيات المحلية الضيقة والخلافات العائلية التي تؤثر تأثيراً كبيراً في فعالية النظام اللامركزي، لاسيما وان الانتخابات المحلية لا تأتي عادة بالخبرة من ابناء القرى والمدن، وذلك لعدم توفر النضوج السياسي عادة لدى الجماعات المحلية، بحيث تصبح السياسة في ايديهم، عامل هدم وتخريب، وسبيلاً الى اساءة التصرف بهذه المؤسسة، التي اريد لها ان تكون نموذجاً للتنظيم الاداري ومدرسة للتاهيل السياسي.
نخلص الى القول ان اللامركزية الادارية ليست افضل الاساليب الادارية، وانما هي وسيلة لتحقيق ادارة سليمة للبلاد وتوزيع الوظيفة الادارية بحيث تعطي افضل النتائج.
وعلى هذا الاساس، يرى البعض ان اللامركزية الادارية، نظام مشكوك بنجاحه، لان الادارة في العصر الحاضر تتطلب كفاءات علمية عالية لاتتوفر عادة في المجلس المحلية ولا في المناطق النائية، ولذلك هم يفضلون استبدال اللامركزية، بنظام يمزج بين اللاحصرية واللامركزية الوظيفية او الفنية التي تؤمن عناصر بشرية على مستوى عال من التخصص والكفاءة العلمية والادارية والفنية، مع ذلك إن اغلب الدول لا تزال تعتمد نظام اللامركزية الادارية.
“محكمة” – الأحد في 2025/10/5



