أبحاث ودراسات

مدى جواز ملاحقة الوزراء أمام المحقّق العدلي في قضيّة انفجار المرفأ/هيثم عزو وحسن بزي

المحاميان هيثم عزو وحسن بزي*:
هَل يُمكِّن للقضَاء العَدلي وبالتَالي للمُحقِّق العدليّ مُلاحَقة ومُحاكمَة الوُزراء أَم يقتَضي حُكماً مُحاكمَتهم فقَط مَن قِبَل قَضاء استِثنَائي خَاص بِهم نصَّ عليهِ الدستور؟
نفيد بدايةً أنَّ هذه الدراسة اعتمدت في الوصول إلى النتيجة التي خلُصَت إليها على الحُجج القانونية التي استنتجتها في هذا الصددّ عبرَ مَلِكة تحليل النصوص الدستورية من جهةٍ أولى وعلى الحجج القانونية المستنبطة من تعليل أهمّ الأحكام القضائية الصادرة في هذا الشأن عبرَ بيان أسبابها الموجبة من جهةٍ ثانية.
للإجابة على الإشكالية القانونية المطروحة على بساط البحث موضوع التساؤل السالف الذِكر يقتضي الرجوع بدايةً إلى أحكام الدستور الذي تصدّى لهذا الأمر ومواءمتها ومضاهاتها ومقارنتها مع بعضها البعض بغية استنباط نيّة المشترع الدستوري في هذا الخصوص كي يبنى على الشيء مقتضاه ومن ثمَّ يقتضي دراسة مدى إمكانية نظر القضاء العدلي حتّى في المسائل الداخلة حكماً في اختصاص المرجع المختص بمحاكمة الوزراء في ظلّ عدم تشكيله قانوناً.
تنصُّ المادة 71 من الدستور -المعدّلة بالقانون الدستوري الصادر في 1990/9/21- على أنَّهُ: “یُحاكم رئیس مجلس الوزراء أو الوزیر المتهم أمام المجلس الأعلى”.
ولكنَّ المادة 70 التي سبقتها – المعدّلة بالقانون الدستوري الصادر في 1990/9/21 نصّت على أنَّ: “لمجلس النواب أن یتَّهم رئیس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخیانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتّبة علیهم ولا یجوز أن یصدر قرار الاتهام إلاّ بغالبیة الثلثین من مجموع أعضاء المجلس. ویحدّد قانون خاص شروط مسؤولیة رئیس مجلس الوزراء والوزراء الحقوقیة”.
إنَّ أوّل ما يلفت النظر في هاتين المادتيّن هما كلمة )متهم( الواردة في المادة 71 وكلمة )الاتهام( الواردة في نصّ المادة 70 ومَردُّ ذلكَ إلى اختصار المشترع الدستوري الإجراءات أمام القضاء الإستثنائي )المجلس الأعلى( بحيث يتمّ اتهام الوزير مباشرةً من قبل المجلس النيابي ليحاكم بمجرّد ذلك مباشرةً أمام المجلس الأعلى دون المرور بأيّ قنوات تحقيقية أخرى وهذا يعني أنّ تحريك الحقّ العام ضدّ الوزير يتمّ من قبل مجلس النوّاب الذي يلعب بذلك أيضاً دور النائب العام ودور الهيئة الاتهامية معاً وذلك لأنَّ المجلس النيابي هو من يحيل في هذه الحالة الوزير للمحاكمة أمام قضاء الحكم الاستثنائي المُتمثِّل بالمجلس الأعلى بعدَ اتهامه بالجريمة المنسوبة إليه بقرار يصدر بأغلبية الثلثين من أعضائه والذي يُعتبَر بمثابة “مضبطة الاتهام” وهذا يعني أنّهُ لا إحالة لوزير على المجلس العدلي إلاّ إذا كان يوجد اتهام من قبل المجلس النيابي.
وعلى ذلك يمكن الاستنتاج أنّهُ فقط حين يكون اتهام الوزير من قبل مجلس النوّاب تكون المحاكمة حتماً أمام المجلس الأعلى فقط والعلِّة القانونية في ذلك أنَّ الاتهام أتى في هذه الحالة من سلطة تشريعية ضدّ أحد أعضاء سلطة تنفيذية سابقة أو حالية ولذلك أشرك المشترع عضوية النوّاب في هذا القضاء الاستثنائي الخاص بموجب المادة 80 من الدستور التي نصّت على ما حرفيّته: “… یتألّف المجلس الأعلى ومهمّته محاكمة الرؤساء والوزراء، من سبعة نوّاب ینتخبهم مجلس النوّاب وثمانیة من أعلى القضاة اللبنانیین رتبة … وتصدر قرارات التجریم من المجلس الأعلى بغالبیّة عشرة أصوات”.
والسؤال الذي يطرح ذاتهُ بذاتهِ في هذه الحالة: هل يعني ذلك أنَّ اتهام الوزراء وتحريك الحقّ العام يكون حصراً من قبل مجلس النوّاب وأنّ محاكمتهم تتمّ فقط أمام المجلس الأعلى؟
للإجابة على هذا التساؤل لا بدّ من العودة مجدّداً إلى نصّ المادة 70 من الدستور والتي ابتدأ فيها النصّ بكلمة:”لمجلس النوّاب أن یتهم رئیس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخیانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتّبة علیهم…”.
وهذا يعني أنّ المشترع في النصّ المُنوّه عنه لم يستعمل في صياغته عبارة تؤكّد حصر صلاحية الاتهام بمجلس النوّاب، بل على العكس من ذلك استعمل بصورة صريحة عبارة واضحة تفيد بجواز مجلس النوّاب استعمال هذه الصلاحية دون وجود إطلاقاً ما يفيد اعتباره المرجع الوحيد على سبيل الحصر للإتهام، تماماً كما فعل بنصّ المادة 7 من قانون أصول المحاكمات التي نصّت: للمتضرّر من الجريمة أن يتخذّ صفة الادعاء الشخصي أمام قاضي التحقيق الأوّل في الجناية والجنحة …” فيُحرِّك بذلك الحقّ العام ضدّ المدعى عليه سنداً لأحكام المادة 68 منه، دون إلغاء صلاحية القضاء العدلي (النيابة العامة كسلطة ملاحقة جزائية) في هذا الصدد في تحريك الدعوى العامة ومتابعتها بكونها المرجع الأصيل والطبيعي المختص في الملاحقات الجزائية.
وتأسيساً على هذه المقاربة والمقارنة القانونية بين نصيّن قانونيّن تمّ استهلالهما بذات الصياغة الدالّة على الجواز في الملاحقة من قبل المجلس النيابي أو المتضرّر )لِمجلس النوّاب…لِلمتضرّر…(، يمكن الإستنتاج أنّ المشترع في المادة 70 من الدستور فتحَ طريقاً إضافياً لتحريك دعوى الحقّ العام ضدّ الوزير من قبل المجلس النيابي نفسهُ بكونهِ في هذه الحالة متضرّراً من إساءته للثقة البرلمانية التي سبق أن منحه إيّاها للشروع بمهامه الوزارية – تماماً كما هو الحال حينَ فتحهِ مثلاً للمجنى عليه هذا الطريق الإضافي لتحريك دعوى الحقّ العام ضدّ فاعل جريمة الاعتداء على مبلغ مالي ما سلّمهُ إيّاه على سبيل الوديعة لكونهِ في هذه الحالة متضرّراً من إساءته للأمانة التي عهدَ بها إليه – وهذه هي العلّة التشريعية التي من أجلها منحَ المشترع مجلس النوّاب حقّ ملاحقة الوزراء واتهامهم أيّ وحدة العلّة في الضرر المباشر في ما بين الحالتين المقارنتين وبدليل حصر حقّ مجلس النوّاب بملاحقتهم فقط في حالتي الخيانة العظمى والاخلال بالواجبات الوزارية المترتّبة عليهم دون الجرائم الأخرى التي لا ضرر فيها على الثقة البرلمانية التي منحها مجلس النوّاب للوزير وهو ما يؤول بالتالي وفي ظلّ هذا الحقّ الجوازي لمجلس النوّاب إلى بقاء صلاحية سلطة الملاحقة العدلية (النيابة العامة التمييزية أو المالية أو العسكرية) قائمة في تحريك الحقّ العام ضدّ الوزير في حال عدم تحريكه ضّده من قبل مجلس النواب لوحّدة العلّة المنوَّه عنها.
وغنيّ عن البيان أنَّ هذا الحقّ المبدئي والأساسي الذي هو لسلطة الملاحقة )النيابة العامة( في تحريك دعوى الحقّ العام مكرّساً أيضاً لسلطة الظنّ )قاضي التحقيق العدلي أو العسكري أو المحقّق العدلي لدى المجلس العدلي( الذي كرّس لها القانون الجزائي الاجرائي العام صلاحية توجيه التحقيق فوراً ضدّ أيّ من الأشخاص الذين تتوافر بحقّهم شبهة المساهمة في ارتكاب الجريمة المدعى بها أو جريمة متلازمة معها سواء أكانَ فاعلاً كان أم شريكاً أم متدخّلاً أم محرّضاً ولو لم يرد اسمه في عداد من ادعت عليهم النيابة العامة، أيّ دونما حاجة لادعاء مسبق ضدّه من قبل النيابة العامة وذلك لكون سلطة التحقيق والظنّ تضع يدها على الدعوى بصورة عينية موضوعية على موضوع الجريمة المدعى بها وما هو متفرّع عنها أو ما هو متلازم بها وليس بصورة شخصية على الأشخاص المدعى عليهم كما هو معمول به أمام قضاء الحكم والأساس(وهذا منصوصُ عليه في المادتين 60 و 362 أصول جزائية و39 قضاء عسكري).
وعليه، يكون مجلس النوّاب – كما المتضرّر في الجريمة العادية – غير ملزم بتحريك الحقّ العام ضدّ الوزراء، بل هو مُخيّر بممارسة هذا الحقّ القانوني الذي يبقى قائماً بالموازاة للقضاء العدلي طالما لم تنحصر صلاحية الاتهام بمجلس النوّاب وحده وفق تعابير النصّ الدستوري السالف الذكر )أيّ المادة 70 من الدستور( والتي لا تُفيد إطلاقاً بأنّ الاتهام يكون فقط وحصراً من قبل مجلس النوّاب ولم ينهض منها بتاتاً ما يدُلّ من صياغتها على هذا الأمر، وذلكَ على عكس الحالة التي لو كان النصّ فيها مصاغاً مثلاً بطريقة تؤكّد هذه الحصرية في اتهام الوزراء كما لو كانت العبارات الواردة فيه تنصّ مثلاً: على مجلس النوّاب أن يتهم الوزراء أو لا يمكن اتهام الوزراء إلاّ من قبل مجلس النوّاب أو أيّة عبارة أخرى تؤكّد على حصرية الاتهام بمجلس النوّاب فقط أو تدحض جوازية الاتهام من قبل القضاء العدلي، تماماً كما فعل المشترع الدستوري حينَ نصّ صراحةً على أنّ اتهام رئيس الجمهورية لا يكون إلاَّ من مجلس النوّاب، ومحاكمته لا تكون الاَّ أمام المجلس الأعلى وذلك بنصّ المادة 60 من الدستور التي نصّت صراحةً على أنّ :”… لا يمكن اتهامه بسبب هذه الجرائم أو لعلّتي حقّ الدستور والخيانة العظمى إلاَّ من قِبَل مجلس النوّاب بموجب قرار يصدره بغالبية ثلثي مجموع أعضائه ويحاكم أمام المجلس الأعلى…”.
كما أنَّ ما يؤكد أنَّ الدستور لم يحصر فقط بمجلس النوّاب صلاحية ملاحقة الوزراء -حتّى ولو كانت الجريمة تتعلّق بالخيانة العظمى والإخلال بالواجبات الوزارية – وأنَّ هذا الأمر ما هو سوى حقّ لمجلس النوّاب وطريق إضافي لتحريك الحقّ العام من قبله بصورة جوازية متى شاءَ ذلك هو التعابير المستعملة في النصّ الفرنسي القديم للمادة 70 من الدستور والذي هو النصّ الاصلي الذي وُضِعَ فيه في ظلّ الانتداب الفرنسي قبل ترجمته إلى العربية، وقبل تعديله في 1990/9/21 حيث جاء فيه:
“La chambre des députés a le droit de mettre les ministres en accusation pour toute trahison ou pour manquement grave aux devoirs de leur charge”.
وهو ما تعني ترجمته العربية: “لمجلس النوّاب الحق في اتهام الوزراء بأيّة خيانة أو إخلال جسيم بالواجبات الملقاة على عاتقهم”.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ هذا النصّ الذي كرّسه الدستور اللبناني في المادة 70 منه لحظة وضعه سنة 1926 كانَ قد أخذهُ من الفقرة الثانية من المادة 12 من دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة سنة 1875 والتي جاء فيها:
2 – “Les ministres peuvent être mis en accusation par la chambre des députés…”.
وهو ما ترجمته إلى العربية: “انَّ الوزراء يُمكن اتهامهم من قبل مجلس النوّاب”.
وفي هذا الصدد، جاءَ بالنسبة للفقرة الثانية من المادة 12 المذكورة في مؤلّف بيار ديموت Pierre des mottes مسؤولية الوزراء الجزائية في النظام البرلماني الفرنسي- طبعة سنة 1968 صفحة 260 ما يلي :
Le verbe pouvoir exprimant bien évidement une faculté et non une obligation; En concluant que la cour d’assises était toujours compétente …Cette solution, unanimement approuvée par la doctrine, était appliquée par la jurisprudence.
وهو ما ترجمته إلى العربية:أنّ فعل “يمكن” يعبّر بوضوح عن ملكة خيار وليس عن إلزام. نخلص إلى أنَّ محكمة الجنايات )قضاء عدلي( لا تزال مختصة. هذا الحلّ، الذي وافق عليه الفقه بالإجماع، تمّ تطبيقه من قبل الاجتهاد.
وكذلكَ جاءَ أيضاً في هذا السياق بالنسبة للفقرة الثانية من المادة 12 نفسها في مُؤَلَّف
Eugene Pierre -Traité de droit politique, Ed. 1989:
“Mais il a été entendu que cette juridiction ne supprimerait nullement la juridiction de droit commun pour les crimes et délits prévus par la loi pénale, qu’un ministre aurait connus même dans l’exercice de ses fonctions”.
وهو ما ترجمته إلى العربية: “لكن كان من المفهوم أنّ هذه الولاية القضائية لن تلغي بأيّ حال من الأحوال اختصاص القضاء العام في ما يتعلّق بالجرائم والجنح المنصوص عليها في القانون العقوبات، والتي كان الوزير يعرفها حتّى أثناء ممارسته لمهامه”.
وأيضا ًمن نفس المؤلف – رقم 618 بالنسبة للفقرة الثانية من المادة 12 ذاتها:
la chambre sait que la constitution lui donne, en effet, le droit de porter l’affaire devant le sénat, mais elle ne lui en impose pas l’obligation. Si la chambre n’use pas de son droit, si elle ne prend pas l’affaire en mains, celle-ci suivra sa cour régulière devant la justice du pays”.
وهو ما ترجمته إلى العربية: “يعلم المجلس أنّ الدستور يمنحه، في الواقع، الحقّ في رفع الأمر إلى مجلس الشيوخ، لكنّه لا يلزمه بذلك. إذا لم يمارس المجلس حقّه، وإذا لم يأخذ القضيّة في يده، فسوف تُتابَع مسارها العادي أمام قضاء البلاد”.
زدْ على ذلك، أنَّ ما يؤكّد أكثر إمكانية ملاحقة الوزراء من قبل القضاء العدلي هو أنّه ليسَ للوزير حصانة تفوق حصانة النائب ممثّل الأمة جمعاء والمنتخب مباشرة من الشعب حيث إنّ النائب يمكن ملاحقته من قبل القضاء العدلي بأيّ من الجرائم ولم يمنع الدستور سوى إقامة دعوى جزائیة عليه بسبب الآراء والأفكار التي یبدیها مدّة نیابته والمتعلّقة بها ومنع اتخاذ إجراءات جزائیة نحوه أو إلقاء القبض عليه أثناء دور الانعقاد إلاَّ بإذن المجلس أو في حالة الجرم المشهود وفقَ المادتين 39و40 من الدستور )بمعنى تنعدم الحصانة عنه متى كان اقتراف الجرم خارج دورات انعقاد المجلس النيابي أو في حالة الجريمة المشهودة(. وعليه، “فحصانة” الوزراء ليست في مرتبة أسمى من “حصانة” النوّاب الذين منحوا الثقة لهؤلاء الوزراء وأوكلوا إليهم – بما لهم من وكالة تمثيليّة مباشرة من الشعب – إدارة مرافق الدولة والإشراف عليها، إذ لا يعقل لنائب الوكيل أن يكون له حصانة تفوق الوكيل ذاته، بل أنَّ لهذا الأخير حقّاً في مقاضاة الوكيل من الباطن )أيّ الوزير( لإهداره الثقة التي وضعها فيه وألحقت الضرر بالمُوَكِّل )الشعب.( وهذا هوَ السبب الجوهري الذي من أجله أعطى المشترع الدستوري مجلس النوّاب حقّ ملاحقة الوزراء المُوكَل إليهم منهُ إدارة الدولة أمام المجلس الأعلى متى ما اقترفوا الخطأ الجسيم في هذه الإدارة على نحوٍ أساؤوا فيه للثقة البرلمانية التي من خلالها أُعطيت إليهم الإدارة الموكلين ضمنياً بها ولهذه الغاية جعلَ المشترع من المجلس النيابي مشتركاً بصورة حُكميّة في عضوية المجلس الأعلى الذي يحاكم الوزراء بناءً على اتهام المجلس النيابي دون أن يعني ذلك أبداً واطلاقاً أنَّ الاتهام يكون فقط من هذا الأخير لأنَّ صلاحيته في اتهام الوزراء ليست صلاحية نافية لغيرها كما أسلفنا، بل هي صلاحية جوازية لا تلغي صلاحية السلطة القضائية صاحبة الاختصاص الأصيل والطبيعي في تحريك الدعوى العمومية ضدّ أيّ جريمة والذي تحاكمهُ في هذا الحالة أمام قضائها العدلي لا أمام القضاء الاستثنائي) أيّ المجلس الأعلى( وذلكَ لأنّهُ كما سبقَ وأسلفنا وعطفاً على المادتين 70 و71 من الدستور السالفتي الذكر يتبيّن جلياً بأنَّ لا إحالة للوزير للمحاكمة أمام المجلس الأعلى كولاية قضائية خاصة إلاَّ إذا تمَّ اتهامه أوّلاً من قبل مجلس النوّاب، لا من قبل سلطة الملاحقة العدلية.
وعلى ذلك يُمكن القول إنَّهُ إذا مارس المجلس النيابي حقّه في اتهام الوزير فتكون المحاكمة حكماً أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بكون المجلس لا يمكنه أن يحرّك الحقّ العام إلاّ أمام هذا الأخير للأسباب السالفة الذكر، في حين أنّه إذا لم يمارس المجلس هذا الحقّ الدستوري المكرّس لهُ على سبيل الجواز فيبقى للقضاء العدلي هذا الحقّ قائماً غيرَ أنّهُ لكون الاتهام حاصلاً في هذه الحالة من قبل السلطة القضائية العدلية فتكون المحاكمة وجوباً أمام القضاء العدلي، إذ ليسَ لسلطة الملاحقة القضائية حقّ تحريك الحقّ العام ضدّ الوزير أمام المجلس الأعلى التي حصر الدستور صلاحية الإتهام والإحالة إليه من قبل مجلس النوّاب فقط وإن يكن المجلس الأعلى قضاءً استثنائياً خاصاً وبدليل أنَّ المادة 17 من قانون أصول المحاكمات الجزائية حفظت للنيابة العامة التمييزية حقّ الإدعاء أمام المجلس العدلي فقط كقضاء استثنائي ولم تكرّس لها هذا الحقّ بالنسبة للمجلس الأعلى لكون هذا الأخير ليس بقضاء عدلي.
واستطراداً، وعلى سبيل الجدل القانوني Et pour complément de droit وعلى فرض صحّة وجوب محاكمة الوزراء في هذه الجريمة من قبل المجلس الأعلى – وهو أمر ننفيه ولا نقرّ فيه – فإنَّهُ وفي ظلّ عدم تشكيله قانوناً لغاية الآن يجعل من القضاء العدلي صالحاً حكماً لمحاكمتهم ومختصاً بملاحقتهم باعتباره أوّلاً صاحب الولاية الشاملة والمرجع الأصيل والطبيعي للشروع بالملاحقات الجزائية في كلّ مرّة لا يوجد فيها مرجع خاص للملاحقة أو في حال عدم تشكيله الذي يُعادِل عدم وجوده في الواقع والقانون وخصوصاً في الحالة الراهنة والذي تثير الشكّ والالتباس لدى البعض بينَ الوجوب والجواز في ملاحقة القضاء العدلي للوزراء بالرغم من أنَّ المادة ٧٠ من الدستور لم تحصر إطلاقاً ملاحقة الوزراء الحاليين أو السابقين بالمجلس الأعلى فقط -كما سبقَ وشرحنا- لأنَّهُ لا يُستشَف منها أنّها اعتبرته المرجع الوحيد على سبيل الحصر، ولأنّهُ ثانياً وفق المنطق القانوني لا يمكن تعطيل الملاحقة لانعدام وجود المرجع المُعيّن قانوناً بالمحاكمة – لغاية تاريخه – لكوِن ذلك يشكّل استحالة لمحاكمة الوزراء وهو ما لا يأتلف مع أحكام الدستور الذي نصّ على أنّ اللبنانيين سواسية أمام القانون في نصّ المادة السابعة منه ويُعتبَر في الوقت عينهُ تهرُّباً من المسؤولية الجرمية وشبه الجرميّة والتفافاً على العدالة ومقتضياتها.
وعليه، لا يمكن للوزراء التذرُّع بعدم تشكيل المجلس الأعلى لعدم ملاحقتهم من قبل القضاء العدلي الأصيل وإلاَّ أصبح ذلك وسيلة غير مشروعة يمكن أن يستخدمها الوزير المشتبه بفساده أو بتورّطه أو بتقصيره كذريعة لتعطيل أحكام القانون في مواجهته، إذ لا يمكن إعتبار اللجوء إلى المجلس الأعلى (غير الموجود) شرطاً وجوبيّاً قبل تشكيله وذلكَ أقلّه لسببين:
 لأنّهُ من ناحية أولى، إنَّ أيّ شرط يجب ليكون معمولاً به قانوناً أن يكونَ مُمكناً وليس مستحيلاً، وهو ليس حال المسألة الراهنة كون المجلس الأعلى غير موجود في الواقع لغاية تاريخه، ممَّا يجعل اللجوء إليه شرطاً مستحيلاً.
 ولأنَّهُ من ناحية ثانية، إنَّ اعتبار اللجوء إلى هذا المجلس -غير المولود فعلاً- ضرورة واجبة حُكمية قبلَ تشكيله يؤدّي حتماً إلى نتيجة عبَثيّة قوامها اعتبار قانون العقوبات كشريعة جزائية عامة مُعلّقاً تنفيذه على تشكيل مرجع ما، وهو الأمر الذي ينسف ليس فقط جوهر العدالة، بل الشريعة الجزائية العامَّة المتمَثِّلة بالقانون المذكور والذي سيصبح -بخصوص الحالة الراهنة- نافذاً فقط في الشكل ومُعطَّلاً في المضمون وهو ما يؤول الى إعدام فاعليته في ضمان الحقّ العام الذي قد يمسّهُ الوزراء والمؤتمنة عليه النيابة العامة.
لذلك، وبما أنَّ المجلس الأعلى لمحاكمة الوزراء غير مُشكَّل لغاية تاريخه ولم يبصُر النور في الواقع بعد، فإنُّه لا مناصَ اذاً وليس ما يحول في ظلّ غيابهِ من العودة رأساً ومباشرةً إلى القضاء العدلي في تحريك الحقّ العام ضدّ الوزراء في هذه الحالة بكونه صاحب الصلاحية الطبيعية في النظر بالجرائم الجزائية، إذ يبقى هو أوّلاً وأخيراً القضاء المؤتمَن على حَسن سير العدالة في الدولة التي تفتقد أهمّ مقوِّماتها في حال تعطُّلِها، والذي نظامها يقوم على ثلاثة ركائز أساسية، الأولى الحقّ في الإدعاء، والثانية الحقّ بالمحاكمة، والثالثة الحقّ بتنفيذ الأحكام والذي بدون هذه الركائز تصبح عدالة وهميّة، فتفتقِد تبعاً لذلك دولة القانون لأهمّ خصائصها في ظِلّ عدم تحويل هذا الحقّ إلى واقع.
راجع لطفاً في هذا الصدد:
R. Alibert, Le contrôle juridictionnel de l’administration au moyen du recours pour excès de pouvoir, Payot 1926, p.30.
وعلى ذلك لا يُعقَل أن يبقى القضاء العدلي المؤتمَن على تكريس العدالة في الدولة مكتوف الأيدي متفرّجاً على وزراء مشتبه بهم بمسؤوليتهم في قضيّة ما ذات شأن عام ومنتظراً فرج تشكيل المجلس الأعلى الذي قد يأخذ سنوات وخصوصاً في ظلّ حدوث جريمة كبرى في البلاد بحجم الإنفجار “الكيماوي” الحاصل والذي أصابَ الضرر الناتج عنها قلب الدولة وعامّة المواطنين والتسليم بمنطق محاكمة الوزراء أمام مجلس غير موجود فعلاً خصوصاً وأنَّ العدالة ستصبح في هذه الحالة مبدأً فارغاً من محتواها لكونها ستبقى دونَ تنفيذ في الوقت الذي يجب فيه أن تنحني أمامها كلّ المبادئ.
نخلُص إلى القول بأنَهُ طالما أنَّ المجلس الأعلى الذي ينتزع مواضيع محدّدة من اختصاص القضاء العدلي لينظر هوَ بها حصراً، يبقى مع ذلك القضاء العدلي مستمرّاً باختصاصه وصلاحياته بها حرصاً على حسن سير العدالة طالما أنّ المجلس الأعلى لم يولد ويتشكّل بعد، إذ لا يتمتّع من هو في الرحم سوى بأهلية تمتُّع بحقّ صلاحية النظر باختصاصٍ ما دون أهلية الأداء الذي تمكِّنه من ممارسة هذا الحقّ والبتّ في النزاع موضوعه إلاَّ حين ولادته بتشكيله القانوني والذي يبقى المرجع الطبيعي مختصاً بنظره بِحُكم ولايته الجبرية على كلّ ما هو قاصر عن التنفيذ لعدم البلوغ -الذي معهُ فقط تنتقل الصلاحية منهُ للمرجع ذي أهلية التمتُّع بهذه الصلاحية -والذي يستمدُّها من ولايته العامة الطبيعية على القضايا الجزائية عامةً بما فيها القضايا التي كرّس القانون حقّ تمتّع المجلس الأعلى بنظرها وذلك لحين بلوغ هذا المجلس سنّ الرشد الذي يعطيه أهلية التصرّف حين اكتمال تشكيله.
وعلى كلّ حال، وإثباتاً منا لصوابية هذا الإستنتاج القانوني، نُحيل في هذا الصدد على العديد من اجتهادات القضاء الاداري الذي اعتبرَ -وفي العديد من القرارات -بأنَّهُ يبقى مختصاً بنظر المراجعات أمامه في ظلّ عدم إنشاء وتشكيل هيئات مختصّة بالفصل في بعض المنازعات -كالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد مثلاً- مُعتبِراً أنًّهُ يبقى المرجع الطبيعي للفصل في المنازعات الإدارية قبل تشكيل هذه الهيئات المختصّة بمواضيع معيّنة وذلكَ حمايةً للحقوق وتكريساً للعدالة.
نخلُص إلى القول بأنَّ العدالة المجتزأة أو الناقصة ليست بعدالة، بل هي شبيهٌ لها، وهناك فرق شاسع بين الأصالة والشَبَه. وعليه، لا يمكن حصر مجريات العدالة بقضيّة بحجم انفجار العاصمة بفئة الصفّ الثاني فقط (مدراء عامين) وتجهيل واستبعاد فئة الصفّ الأوّل (وزراء) وخاصةً متى ما كانت هذه الفئة تتصف بسلطة الرقابة والوصاية ولاسيَّما أنّهُ متى ما توافرت أدلَّة على تورُّط فئة الصفّ الثاني تتوافر -وفقَ منطق التسلسل الطبيعي للأمور- قرينة على تورّط فئة الصفّ الأوّل، إنطلاقاً من مفهوم سلطة الرقابة والوصاية التي لها على فئة الصفّ الثاني.
*قدّمت الدائرة القانونية لمجموعة “الشعب يريد إصلاح النظام” هذه الدراسة القانونية للمحقّق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت فادي صوان.
**ملاحظة هامّة: هذه الدراسة المبدئية ستتبعها دراسة لاحقة مُتمِّمة وُمكمّلة لها تُثبت أيضاً خروج أفعال الفساد والإهمال من مفهوم الإخلال بالواجبات الوزارية الدستورية -كجريمة أعطى الدستور للمجلس الأعلى صلاحية النظر بها إذا ما ارتأى مجلس النوّاب ممارسة حقّه الجوازي بملاحقة الوزراء أمامه – وبالتالي بقاء النظر فيها من صلاحية القضاء العدلي.
“محكمة” – الخميس في 2020/8/27
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!