مقالات

المجلس الدستوري أخطأ إذ اجتهد في معرض النصّ الصريح بخصوص موازنة 2025/عصام إسماعيل

الدكتور عصام نعمة إسماعيل:
في معرض النظر في مراجعة الطعن بالمرسوم رقم 2025/56 تاريخ 2025/3/11 والرامي إلى اعتبار مشروع موازنة العام 2025 موضوع مشروع القانون المحال على مجلس النواب، بموجب رقم 14076 تاريخ 2024/10/4 مرعياً ومعمولاً به، قضى المجلس الدستوري بإعلان صلاحيته للنظر في هذا الطعن مستنداً بذلك إلى المادة الأولى من قانون إنشائه رقم 250 الصادر بتاريخ 1993/7/14 التي تنص على ما يلي: “تنفيذاً لأحكام المادة 19 من الدستور يُنشأ مجلس يُسمى المجلس الدستوري مهمته مراقبة دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون”، وعلّل المجلس أن النصوص التي لها قوّة القانون هي تلك التي تضطلع بها السلطة التنفيذية، إمّا بناء على تفويض من قبل السلطة التشريعية – أي المراسيم التشريعية – وإمّا لتلافي تلكؤ المجلس النيابي في القيام بدوره كما في المادة 86 من الدستور التي تشكل استثناءً للمواد 16 و18 و51 من الدستور، وإنّ صلاحية إقرار الموازنة تعود من حيث مضمونها ومن حيث صراحة مواد الدستور التي تنظّم مالية الدولة إلى السلطة التشريعية بموجب قانون، وإنّ إعمال أحكام المادة 86 من الدستور من شأنه نقل هذه الصلاحية إلى السلطة التنفيذية، وإنّ اللجوء إلى الإجراء الاستثنائي المذكور الذي يتجاوز دور البرلمان في تنظيم مالية الدولة لا يمكن أن يتوازى مع الإفلات من رقابة دستورية الموازنة، الامر الذي يدخل في صلب مهام المجلس الدستوري، علماً ان عدم الرقابة يؤدي الى استئثار السلطة التنفيذية بمالية الدولة ما قد يؤدي الى الاخلال بمبدأ التوازن بين السلطات، وحيث إنّ النّص الذي ينظّم مالية الدولة، كما هو الحال بالنسبة لموازنة 2025، تكون له قوّة القانون من حيث مضمونه كونه محفوظاً أساساً للتشريع في المجلس النيابي، وتعود تبعاً لكل ما تقدّم للمجلس الدستوري سلطة الرقابة على دستوريته (م.د. قرار رقم 2025/3 تاريخ 2025/5/2).
خالف عضوا المجلس الدستوري (د. البرت سرحان ود. فوزت فرحات) هذا القرار مستندين في ذلك إلى أن الدستور منح المجلس الدستوري سلطة دستورية pouvoir constitué محفوظ لها اختصاصها بشكل محدّد صراحةً في الدستور compétence attribution constitutionnelle وبشكل يستحيل المساس بها، وتعديلها أو التنازل عنها إلا بتعديل دستوري ، … إلا أن المادة الأولى من القانون… وحيث إنّ المادة 19 من الدستور حدّدت بشكل واضح وصريح صلاحية المجلس الدستوري بمراقبة دستورية القوانين والبت بالنزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية ما يعني حكماً عدم اختصاص المجلس الدستوري بالنظر في مشروعية أعمال إدارية وإن كانت موضوعاتها تتناول مادة تشريعية، وبالتالي فإن القول بأن المرسوم الذي وضع موضع التنفيذ قانون موازنة عام 2025 هو نص له قوة القانون ويدخل ضمن نطاق اختصاص المجلس الدستوري هو قول لا يستقيم لأن التمادي في منح المجلس الدستوري صلاحيات بموجب قوانين عادية أو بالقياس على اجتهادات قضائية قد يطيح باستقلالية هذا المجلس، ويجعله تابعاً وخاضعاً لمزاجية التعديلات التي تقررها السلطة التشريعية، والتي هي من المفترض أنها خاضعة لرقابة المجلس الدستوري.
في هذا الحكم، وقع المجلس الدستوري في مصيدة عدم متابعة المسار القانوني ومحاضر مجلس النواب ذات الصلة بالتشريعات الناظمة لعمله، إذ لو تمّت متابعة هذه القوانين وكيفية اقرارها لما وصل إلى هذه النتيجة بإعلان صلاحيته للنظر في الطعن بالمرسوم الرامي إلى اعتبار موازنة العام 2025 مرعية ومعمولاً بها. وبمعزل عن البحث في معنى” مرعي ومعمول به ” إذ ليس شرطاً أن ما هو مرعي ومعمولٌ به له صفة أو قوة القانون، فالأمر يحتمل التأويل والاجتهاد.
إلا أن ما لا يحتمل هذا التأويل هو مسألة تنازع القوانين في الزمان حيث إنّ القاعدة الراسخة أنّ القانون اللاحق زمنياً له الأولوية في التطبيق ويلغي ضمنياً القانون السابق. وتطبيقاً لهذا المبدأ فإنه لم يكن جائزاً للمجلس الدستوري أن يستند لإعلان صلاحيته إلى المادة الأولى من قانون إنشائه رقم 250 تاريخ 1993/7/14 وذلك بعد أن صدر النظام الداخلي الجديد للمجلس الدستوري بموجب القانون رقم 243 تاريخ 2000/8/7 الذي نصّ في مادته الأولى على أن المجلس الدستوري هيئة دستورية مستقلة ذات صفة قضائية تتولى مراقبة دستورية القوانين. والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية، ثم نصّت المادة 62 منه على أن تلغى جميع النصوص المخالفة لأحكام هذا القانون او المتعارضة معه.
بحسب النص الجديد لم تعد المادة الأولى من القانون 93/250 موجودة ضمن المنتظم القانوني لكي يعمد المجلس الدستوري إلى تطبيقها، أو يسعى للبحث في تفسير مدى هذا النص. فالنص الوحيد الذي يرعى تحديد اختصاص المجلس الدستوري هو النص الأخير الوارد في المادة الأولى من القانون 2000/243، وما يؤكد ذلك نيّة المشترع الواضحة والصريحة والمبيّنة في الأسباب الموجبة للنص، إذ بالعودة إلى محاضر مجلس النواب (مراجعة الدور التشريعي التاسع عشر-19-العقد الاستثنائي الثالث- محضر الجلسة الثالثة – الجلسة المنعقدة بتاريخ 25 و26 تموز 2000)، في هذه الجلسة طُرِحَ مشروع القانون الوارد بالمرسوم رقم 2825 المتعلق بالنظام الداخلي للمجلس الدستوري، وتضمّنت المادة الأولى من هذا المشروع ما يأتي: المجلس الدستوري هيئة دستورية مستقلة ذات صفة قضائية تولى مراقبة دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون….. : فأخذ الكلام النائب نقولا فتوش: “في الحقيقة أنا مستغرب كيف أن هذا القانون موجود في نظام المجلس الدستوري. وأستغرب كيفية تضمنه نصوصاً تعود للمجلس الدستوري، تقول المادة الأولى: «تتولى مراقبة دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون» فلا يجوز إبقاء عبارة «وسائر النصوص التي لها قوة القانون»، لماذا؟ لأن في التشريع يوجد الدستور والقانون والمرسوم والقرار، والمرسوم والقرار يطعن بهما أمام مجلس شورى الدولة وليس أمام المجلس الدستوري، فأجابه الرئيس: المقصود هنا المراسيم الاشتراعية، فردّ عليه: عفواً، فليوضع إذاً يا دولة الرئيس، دستورية القوانين والمراسيم الاشتراعية فقط، لماذا؟ لأننا سنقع إمّا تنازع في الصلاحيات في ما بين مجلس شورى الدولة والمجلس الدستوري، هنا تدخل النائب بطرس حرب: النص هنا أتى شاملاً، لماذا نقول المراسيم الاشتراعية؟ كنا قد تفاهمنا في المجلس على عدم إعطاء صلاحيات من قبل المجلس النيابي لمجلس الوزراء لإصدار مراسيم اشتراعية، فلماذا نعود لتكريسها في نص؟ الاتجاه يسير نحو الخلاص منها، كما هي عليه هو الأفضل. ثمّ أدلى النائب حسين الحسيني بأنه طالما أن هناك نصاً دستورياً، فلا يمكننا إضافة شيء عليه فضلاً عن الموضوع الذي أثاره بطرس حرب. المجلس الدستوري مختص بكل النصوص التي لها قوة التشريع أو قوة الصفة التشريعية، وعندما نقول مراسيم اشتراعية يعني أننا ناقضنا أنفسنا بروحية الدستور لأننا بالدستور رفضنا رفضاً قاطعاً أي تفويض تشريعي للحكومة. إذا منذ إقرار الدستور إلى اليوم ليس هناك شيء اسمه مراسيم اشتراعية. واختتم النقاش بمداخلة النائب نقولا فتوش أنه وفق النص دستوري لا يجوز أن نضمن نصاً عادياً أكثر مما يتضمن النص الدستوري. فالدستور لم يأتِ على ذكر المراسيم الاشتراعية والنصوص التي لها مفعول القانون. هنا وافق رئيس المجلس على ما أنّ يقوله النائب فتوش ينطبق مع الدستور. فلنقل نحن: «تتولى مراقبة دستورية القوانين». لماذا نقول أكثر من ذلك، لماذا سندخل في شيء آخر فنبدو وكأننا نسمح بوجود نصوص أخرى. أنا مع الشيء الذي تفضلت به يا أستاذ بطرس لنبق على هذا الأساس «مراقبة دستورية القوانين فقط».
فوافقت الهيئة العامة على اعتماد النص الوارد في الدستور بحصر صلاحية المجلس الدستوري بمراقبة دستورية القوانين، حاسمةً بصورة قطعية الدلالة أي إمكانية ليتولى هذا المجلس النظر في دستورية النصوص الأخرى التي لها قوة القانون، لكن ما حصل أن هذا المجلس الدستوري اجتهد مع وجود النص الصريح.
“محكمة” – الأربعاء في 2025/6/11

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!
مجلة محكمة
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.