مقالات

المسؤولون عن تبدّد ودائع المودعين بالعملة الصعبة المودعة في المصارف/فرانسوا ضاهر

القاضي السابق والمحامي فرانسوا ضاهر:
الأول: الدولة اللبنانية، لأنّها استباحت لنفسها إقتراض أموال المودعين بالعملات الأجنبية وهي تعلم أن لا مداخيل لها بتلك العملات من مواردها الطبيعية، وهي ليست بدولة مُنتجة بل مُنفقة ومُبذّرة وفاسدة. وقد استخدمت هذه الأموال المستدانة في مهارب رئيسة ثلاثة:
1- الكلفة التشغيلية لمؤسّسة كهرباء لبنان ولمؤسّسات الدولة عامةً وصناديقها الثلاثة وما رافقها من سمسرات وفساد وغشّ وتجاوزات في عقود الصيانة والتلزيم والتعهّدات وغيرها.
2- وسياسة الدعم العشوائي واللامحدود للسلع الإستهلاكية والمحروقات،
3- وسياسة تثبيت سعر صرف العملة الوطنية، دونما الأخذ في الاعتبار معدّلات التضخّم السنوية، ممّا فاقم من كلفة عملية التثبيت.
الثاني: مصرف لبنان، لأنّه موّل الدولة اللبنانية بالعملة الصعبة ليس فقط من إحتياطاته الخاصة كشخص معنوي، بل خصوصاً من ودائع المودعين المودعة من المصارف لديه. وذلك بدون أيّة سقوف وبدون أية ضمانات لردّ تلك المديونية. مع علمه بأنه ليس للدولة اللبنانية أيّة موارد طبيعية لردّها، كما أسلفنا، وأن طبيعة مديونيتها ولو السياديّة لا تشكّل بذاتها ضمانةً لعملية الردود تلك.
كما وأنّ تلطّيه وراء قوانين الإقتراض التي كان يقرّها المجلس النيابي ويجيز بموجبها للحكومة بواسطة وزير المالية الإقتراض (من مصرف لبنان وسواه) لتسديد عجوزات الموازنة السنوية على مدى عقود، لا تبرّر له، وفق أحكام قانون النقد والتسليف، وضع يده، عنوةً أو حتّى رضاءً، على ودائع المودعين في المصارف، المودعة لديه، ليستجرّ منها السيولة التي تموّل تلك القروض.
بل كان يتعيّن عليه أن يرفض تمويل تلك القروض من ودائع المودعين حتى تُحمل الدولة على الإقتراض بمقدار احتياجاتها من خارج تلك الودائع.
الثالث: المصارف، لأنّها عمدت إلى توظيف ودائع المودعين بالعملة الصعبة المودعة لديها، إمّا لدى مصرف لبنان وإمّا لدى الدولة اللبنانية ممثّلةً بوزير المالية، خلافاً لأحكام قانون النقد والتسليف، بدون أيّة سقوف وبدون أيّة ضمانة فعلية للردود، مستسهلةً لنفسها هذه التوظيفات كونها كانت تدرّ عليها فوائد بالمليارات الدولاريّة تستوفيها سيولةً نقدية من صناديقها وتوزّعها على مساهميها وكبار إداريّيها، أرباحاً صافية، فيقومون بإخراجها إلى خارج البلاد.
وما يضاعف مسؤولية تلك المصارف حتّى القول بخطئها الجسيم وتواطئها على مصير ودائع المودعين لديها، بالتنسيق والتفاهم مع أركان الدولة ومصرف لبنان، هو أنها كانت تعلم تمام العلم أنّ تلك القروض تحمل أقصى درجات المخاطر حول المؤونات المتوافرة لها وحول إمكانية إيفائها. لأنّ الدولة ومصرف لبنان هما في حالة عجز تراكميّة وتصاعديّة منذ عقود ومن دون أيّ أفق للمعالجة. وإن قولها، بأن ديونها لهما هي سياديّة ومبرّرة من هذه الزاوية، فإنّه لا يستقيم إطلاقاً لعلم تلك المصارف تمام المعرفة بأن الدولة اللبنانية ومصرف لبنان قد امتهنا على مدى عقود الإقتراض من المؤسّسات الدولية دون أن يتمكّنا يوماً من الإيفاء بإلتزاماتهما تجاهها (باريس واحد وإثنان وثلاثة).
الرابع: القضاء، لأنّه أباح للمدينين المقترضين من المصارف بالعملة الصعبة أن يسدّدوا ديونهم بالعملة الوطنية على سعر صرفها الأساسي (1507 لل./د.أ.). الأمر الذي أوقع تلك المصارف في خسائر إرتدّت شحّاً في سيولتها بتلك العملة الصعبة تجاه المودعين لديها. ذلك أنّ الأموال التي تقوم المصارف بإقراضها هي تلك التي يكون قد تمّ إيداعها لديها. وإنه إذا كانت تتحمّل هي الخسائر بين عمليتيْ الإيداع والإقتراض، غير أن تلك الخسائر تتحوّل بحدّ ذاتها الى شحٍّ في سيولتها تجاه مودعيها وتعثّرٍ في الإيفاء بالتزاماتها تجاههم.
في حين أنّ هذا المنحى الإجتهادي يكتنز أخطاءً جسيمة في علم القانون، ولا سيما مخالفة لأحكام قانون الموجبات والعقود وقانون النقد والتسليف وقانون التجارة وشرعة المتعاقدين، كذلك لمرتكزات الإجتهاد السابق. وهو يجافي قواعد الإنصاف، إذ يُثري المدين السيء النيّة بصورة غير مشروعة على حساب الدائن الذي يُلحق به غبن فاحش، كما ويضرب مرتكزات الإقتصاد الوطني ويعيق إعادة التوظيفات المالية في البلاد.
الخامس: أما المودعون، فلم يتلمّسوا بعد الإستراتيجية المتكاملة الواجب إتباعها حتى يعزّزوا حظوظ ردّ ودائعهم إليهم. فحصروا مواجهتهم بالمصارف وبالإدعاء عليها الخاوي من النتائج المثمرة الفعلية. لأنّ سيولتها النقدية المتبقية والقيم المالية الناتجة عن تصفية أصولها، التي قد تستغرق سنوات طويلة بل عقوداً لإنجازها، من خلال المؤسّسة الوطنية لضمان الودائع (كما هو حاصل نسبةً الى عدد من المصارف التي وُضعت قيد التصفية منذ سنة 1990 والتي لم تنجز تصفيتها بعد)، لن توازي، في أحسن حال، أكثر من خمسة بالماية (5%) من قيمة ودائعهم لديها.
وقد أغفلوا مداعاة مصرف لبنان أمام القضاء العدلي لإبطال تعاميم مصرف لبنان، التي تناولت أحجام وسقوف وكيفية احتساب سحوباتهم النقدية من ودائعهم (ولا سيّما التعاميم رقم 151 و158 و161)، وتناولت أيضاً كيفية تسديد القروض المصرفية المدينة، لمخالفتها، على حدٍّ سواء، قانون النقد والتسليف وقانون التجارة وشرعة المتعاقدين وقواعد الإنتظام العام المالي.
كما أغفلوا، حتى تاريخه، التصدّي لمشاريع القوانين التي أعدّها المجلس النيابي والتي ترمي إلى تصفير ودائعهم، كما إلى تنصّل الدولة من مديونيتها العامة وتبرّوئها منها ورفضها المشاركة في أيّ صندوق سياديّ لإيفائها.
حتّى بات يصحّ القول بأن حقوق المودعين لن تكون مصانة أو محمية أو مؤهّلة للردود والإيفاء، حتى بالحدّ المقبول، إلاّ إذا وسّع المودعون رقعة تحرّكهم ومداعاتهم لتشمل مصرف لبنان والدولة اللبنانية، على حدٍّ سواء، حتّى يضمنوا يإيرادات أصولهما ردّ ودائعهم المشروعة، وفق برنامج زمني يوازن بين احتياجاتهم وتدفّق تلك الإيرادات.
“محكمة” – السبت في 2023/3/11

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!