أبحاث ودراسات

تعليق على قرار بقبول الدفع بسبق الادعاء الدولي لصالح محكمة العائلة بباريس بدعوى طلاق بين متنازعين/المحامي جان تابت

المحامي جان تابت:
أوّلاً- في صدور حكم عن محكمة البداية في المتن:
1. بتاريخ 22 شباط 2024، أصدرت الغرفة الخامسة للمحكمة الابتدائية في جبل لبنان الناظرة في قضايا الاحوال الشخصية برئاسة القاضي الياس ريشا، قراراً بموضوع قبول الدفع بسبق الادعاء امام المحكمة الفرنسية، كخطوة اساسية نحو تطبيق قواعد القانون الدولي الخاص اللبناني، وقد اوجد الحكم قاعدة قد تصلح بأن تكون بمثابة القرار المبدئي (Arrêt de principe) بتبني المذهب الاجتهادي الذي يأخذ بقاعدة سبق الادعاء الدولي طالما ان الحكم الذي سيصدر في الخارج قابلاً للاستحصال على الصيغة التنفيذية لاحقاً في لبنان، على عكس ما كان يعمل به من قبل مدارس إجتهادية أخرى تخالف هذا الرأي(1) ، ما يشكل تقدّماً جديراً بالتوقف عنده في مسار العدالة المحلية وتواصلها مع العدالة الدولية، كونها هي واحدة وتهدف الى ارساء الحقوق والعدل بين الناس.
2. تجدر الاشارة الى ان القاعدة المستمدة من المادة /74/ من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني هي قاعدة مبدئية مفادها أنّ قواعد الاختصاص الدولي للمحاكم اللبنانية هي مبدئياً تلك المتعلقة بالاختصاص الداخلي دون تمييز بين لبناني وأجنبي، وان عبارة مبدئياً تركت مجال الاجتهاد مفتوحاً، فمنهم من تنازل عن اختصاصه لمصلحة المحكمة الاجنبية، ومنهم من توانى عن ذلك.
3. شكّل الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية المشار اليه خطوة مهمة في مسار احترام العدالة الدولية، ووضع سياقاً واضحاً في ما يتعلق بالدعاوى التي تتقدم، فيلبسها المتقاضون لباساً آخر وكأنها غير تلك المقامة في بلد آخر، في سعي منهم الى ربط اختصاص محكمة اخرى، في وقت كانوا قد وافقوا على ان التقاضي في البلد الآخر.
ثانياً- في وقائع القضية موضوع الحكم:
1. تزوج زوجان يحملان جنسيتين (لبنانية وفرنسية) في فرنسا وعاشا في فرنسا حتى العام 2005. واعتباراً من العام 2020، نشأت خلافات بينهما، ما أدى إلى بدء دعوى طلاق امام نفس محكمة العائلة في باريس.
2. وبالفعل، بتاريخ 16 حزيران 2020، تقدم الزوج بدعوى طلاق على أساس الخداع أمام المحكمة المختصة في باريس، الا انه رجع عنها في 17 آذار 2021. وقد تقدمت الزوجة بتاريخ 3 آذار 2021، بدعوى مقابلة في فرنسا، أمام محاكم باريس أيضًا، وطالبت بالنفقة في اطار اجراءات الطلاق.
3. بتاريخ 15 آذار 2022، اصدرت المحكمة الفرنسية قراراً أكدت فيه على اختصاصها للنظر في القضية، مستندة في قرارها إلى الجنسية الفرنسية للطرفين ومقامهما في فرنسا.
4. عاد الزوج وتقدم باستحضار دعوى امام المحاكم اللبنانية رغم تبلغه القرار الفرنسي، وذلك من اجل التهرب من القضاء الفرنسي والاجراءات في فرنسا.
5. طالب الزوج بإصدار حكم لصالحه، إلا أن الزوجة في لبنان، وهي المدعية في فرنسا، أثارت ضمن الاجراءات في لبنان الدفع الإجرائي التالي: طلبت رد الدعوى في لبنان مستندة الى أحكام المادتين /54/ و /74/ من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني وهي قاعدة سبق الادعاء.
ثالثاً- في المسألة القانونية التي طرحتها المحكمة الابتدائية في جبل لبنان:
1. عالجت الغرفة الخامسة في محكمة الدرجة الأولى في جبل لبنان، التي نظرت في القضية، المسألة القانونية التالية: هل يمكن لزوجين يحملان الجنسية الفرنسية، وقد عقدا زواجهما في فرنسا وباشرا إجراءات التقاضي في باريس، أن يباشرا إجراءات جديدة في لبنان تحت اسباب اخرى وردت في نفس الفصل المتعلق بدعوى الطلاق في فرنسا؟ وهل يقتضي رد الدعوى الجديدة في لبنان على أساس الدفع بسبق الادعاء الدولي؟
2. ان الدفع بسبق الادعاء، هو في مفهومه القانوني دفع إجرائي(2)، يؤدي الى رد الدعوى في الشكل عندما تُرفع القضية نفسها أمام محكمتين مختلفتين، لكل منهما اختصاص الفصل في النزاع. وهذا المفهوم منصوص عليه صراحةً في المادة /54/ من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني في السياق المحلي وليس الدولي. وقد اعتبرت محكمة البداية في المتن ان هذا الدفع الإجرائي يمكن أن يكون له تأثير في سياق نزاعٍ دولي .
3. وبما ان المادة /74/ اصول مدنية تنص على التالي:
يخضع الاختصاص الدولي للمحاكم اللبنانية مبدئياً للأحكام المتعلقة بالاختصاص الداخلي دون تمييز بين لبناني وأجنبي.
4. ان عبارة مبدئياً الواردة في نص المادة /74/ تركت مجال الاجتهاد مفتوحاً حيث اخذ قسم منه بالمذهب القائل بعدم قبول الدفع بسبق الادعاء الدولي وصولاً الى الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية في المتن الذي تبنى المذهب الاخر، وهو الاقرب الى العدالة الدولية، كون هي واحدة في تطبيق القانون، ولا يجب التفريق بين الانظمة القانونية بين بلد وآخر واتاحة المجال للخصوم بارهاق المحاكم بعدة دعاوى.
رابعاً- في أن تبني المحكمة الابتدائية في جبل لبنان الدفع بسبق الادعاء بمجراه الدولي وكون الموضوع يشكل تقدماً حاسماً للقانون الدولي الخاص اللبناني، ويعزز الاتساق القضائي ويمنع المتقاضين من اقامة الدعاوى نفسها في بلدين مختلفين، ويثبت في الوقت نفسه الالتزام بالتعاون القضائي الدولي مع الدول الاجنبية ويعزز استقرار النظام القضائي الوطني والدولي والحفاظ على الحقوق المكتسبة في اجراءات بدأ البت فيها قي الخارج:
1. في القضية التي نُظر فيها بتاريخ 22 شباط 2024، قبلت الغرفة الخامسة في المحكمة الابتدائية في جبل لبنان الدفع بسبق الادعاء في مجاله الدولي. ولهذا القرار أهمية كبيرة في تطوير المسار الاجتهادي تطبيقاً للقانون الدولي الخاص في لبنان . فقبول هذا الدفع يشكل انضماماً من لبنان للعدالة الدولية، وهذا القرار يجب ان يندرج ضمن القرارات المبدئية.
2. تجدر الاشارة الى ان تنازل المحكمة اللبنانية عن اختصاصها لصالح محكمة أجنبية تكون قد جنبت القاضي اللبناني خطر صدور قرارات متناقضة بين النظامين القانونيين الفرنسي واللبناني، وبالتالي يحافظ على سلامة وموثوقية إقامة العدالة الدولية(3)، حافظاً الحق بالاقرار بمفاعيل الحكم الاجنبي من خلال منح القرار الذي يصدر في الخارج الصيغة التنفيذية في لبنان.
3. إضافةً إلى ذلك، يشكّل هذا الاستثناء وسيلة فعّالة لمنع تعددية الدعاوى، وهي ممارسات تضرّ بالمتقاضين انفسهم ومن خلال رفض الحكم في النزاع لصالح محكمة سبق أن نظرت في القضية ولا زالت تنظر فيها، يمنع القاضي اللبناني الفرقاء من تعمّد اختيار المحكمة الأكثر ملاءمة لمصالحهم، وبالتالي تعزيز مصداقية العملية القضائية ونزاهتها.
4. وأخيراً، فان القرار يثبت انفتاح القضاء اللبناني ورغبته في تعزيز التعاون القضائي الدولي والاحترام المتبادل بين الأنظمة القانونية المختلفة. ومن خلال تنازل محكمة البداية عن اختصاصها لصالح المحكمة الأجنبية الفرنسية، يُظهر القاضي اللبناني التزامه بمبادئ المعاملة بالمثل في العلاقات القانونية الدولية بين لبنان وفرنسا.
5. في الختام، يشكّل قبول الاستثناء الدولي المتعلق في هذه القضية تقدمًا مهمًا للقانون اللبناني، ما يعزز الاستقرار والثقة في إقامة العدل على المستويين الوطني والدولي على حد سواء.
خامساً- في ان القرار المشار اليه أسند تطبيق هذا الدفع على شرط وجوب منح الحكم الذي سوف يصدر في الخارج على الصيغة التنفيذية في لبنان:
1. ولكن، كأيّ قاعدة أخرى، فقد اشترط تطبيقها بأن يكون للقرار المحتمل الذي سينتج عن الإجراءات التي بدأت بالفعل في الخارج إمكانية تنفيذه في لبنان بمجرد صدوره. يبدو هذا الشرط منطقيًّا جدًّا، لأنّه إذا كان القرار المحتمل الصادر عن المحكمة الأجنبية لا يمكن تنفيذه في لبنان بأي قدر من اليقين، فلن تكون هناك أيّة ميزة في رفض الاختصاص لصالح المحكمة الأجنبية. وبالفعل، هذا يدلّ على أنّ علة وجود قاعدة سبق الادعاء هي حسن إدارة العدالة الدولية واحترام فعالية الاجراءات الأجنبية والحقوق المكتسبة الصادرة في الخارج قبل النطق بها في لبنان(4). فإذا كانت هذه الحقوق المكتسبة في هذه الاجراءات لا يمكن أن يكون لها أي أثر في لبنان، فإن ذلك يشكك في علة وجود الدفع المذكور.
2. ومع ذلك، يبرز السؤال التالي: كيف يمكننا تقييم ما إذا كان القرار المحتمل في الاجراءات الاجنبية قابلاً للتنفيذ في لبنان؟ تجدر الإشارة إلى أن معاملة الاستحصال على الصيغة التنفيذية المحتملة في لبنان والمعروفة أيضًا باسم مراجعة الاختصاص الغير المباشر، وكما هو معلوم، فإن هذه المراجعة، مثلها مثل جميع المراجعات القانونية، تتم على أساس كل حالة على حدة ووفقاً لشروط حددها القانون، فاذا كانت شروط الاستحصال على الصيغة التنفيذية متوفرة، فان المحكمة المختصة في لبنان تمنح الصيغة التنفيذية ويصبح الحكم الصادر في الخارج مثله مثل الاحكام النافذة في لبنان.
3. وإن الشرط الثاني المنصوص عنه في الحكم لتطبيق دفع سبق الادعاء في المسائل الدولية مستمد مباشرة من المادتين /54/ و /74/ من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني وان تطبيق نص المادتين مشروط ولا يطبق الا في وجود دعويين متشابهتين “يتوافر الدفع بسبق الادعاء عندما تقام الدعوى نفسها امام محكمتين مختلفتين كلتهما مختصتان بنظرها” . ان محاولة ايجاد اساس قانوني لدعوى غير تلك المحددة في الدعوى المقامة في باريس لم يكن موفقاً سيما وان اعتداد الزوج على الاساس المذكور تنبهت له المحكمة واعتبرت انها تندرج ضمن نفس الفصل المتعلق بالطلاق المنصوص عنه في قانون العائلة.
4. يعكس حل محكمة البداية في المتن برئاسة القاضي الياس ريشا تطبيق مبدأ دولي عام الا وهو وحدة الدعوى القضائية المتعلقة بالاحوال الشخصية الامر الذي يقتضي ان يتوقف القانونيون عنده وقد اقر الاجتهاد بالدفع بسبق الادعاء الدولي، كما هو منصوص عليه لاول مرة في الحكم الصادر في قضية مينييرا دي فراين Miniera di Fragne بتاريخ 26 تشرين الثاني1974(5). ويعكس هذا النهج اهمية التعاون الدولي وذلك من اجل حسن سير العدالة الدولية.
ويبقى أن نرى مستقبل الدفع بسبق الادعاء الدولي في لبنان: هل يشكل الحكم الصادر عن محكمة البداية حاجزاً يحول دون تعددية الانظمة القانونية التي يرتداها المتقاضون في سبيل تقديم نفس الدعاوى؟ وهل يخفف القرار من انهاك القضاء بدعاوى بدأ المتقاضون بشأنها باجراءات امام محكمة اجنبية اخرى؟
الحكم الصادر هو خطوة اساسية نحو عدالة دولية منتظمة (…).

هوامش:

(1) قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز الصادر في 15 كانون الأول 2008 برفض قبول سبق الادعاء في المجال الدولي وحكم محكمة الاستئناف في بيروت الصادر في 13 كانون الثاني 2009 الذي أيّد القرار نفسه، مذكّرًا بحكم الهيئة العامة الصادر في العام 2008.

(2)Anne-Lise Lonné-Clément, Les exceptions de procédure dans le cadre du divorce (1/2) : les exceptions d’incompétence et de litispendance — Compte rendu de la réunion du 2 février 2016 de la Commission, Famille du barreau de Paris, Lexbase Hebdo, édition privée n˚647, 17 mars 2016, Pages 1 et 2 :
« Il convient avant tout de définir brièvement ces notions procédurales. Concernant l’exception de procédure l’article 73 du Code de procédure civile (N° Lexbase : L1290H4K) la définit comme “tout moyen qui tend soit à faire déclarer la procédure irrégulière ou éteinte, soit à en suspendre le cours”. Le Code de procédure civile en énonce cinq catégories : l’exception d’incompétence ; l’exception de litispendance ; l’exception de connexité ; l’exception dilatoire et l’exception de nullité. A priori, cette liste donnée par le code n’est pas limitative, mais la présente intervention se limitera à celle-ci, à quelques exceptions près. Il est important de souligner que les exceptions de procédure doivent en principe être invoquées toutes simultanément, et in limine litis, soit avant toute défense au fond ou fin de non-recevoir. A défaut, le moyen est irrecevable. Il existe toutefois des tempéraments à cette règle. »
(3) P. Mayer, Droit international privé, 5e édition, Delta, No. 439 : « (…) Ce serait d’ailleurs encourager les conflits de procédures, que l’on se donne précisément pour but d’éviter ».
(4) P. Mayer, Droit international privé, 5e édition, Delta, No 438 : « Il faut respecter les droits acquis. Ce principe général du droit international privé, qui est à l’origine de quelques solutions en matière de conflits de loi de qui domine toute la matière de l’effet des jugements étrangers impose de faire application de la maxime prior tempore potior jure : la décision rendue la premier l’emporte (…) Si l’on veut d’ailleurs que les procès aient une fin, il faut refuser l’efficacité à toute décision qui remettrait en cause une solution déjà acquise ».
(5) Civ. 26 novembre 1974, J.D.I. 1975.108, note Ponsard, Rev. Crit. 1975.491, note Holleaux.

“محكمة” – السبت في 2024/3/16

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!