تعليق على قرار المجلس الدستوري المتعلق بالطعن بعدم دستورية قانون إصلاح المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها/امين صليبا
أ.د امين عاطف صليبا (عميد معهد العلوم السياسية في جامعة الجنان):
بالمجمل هو قرار مبدئي حمل الرقم 2025/16 تاريخ 2025/10/3، أكّد ثوابت الإجتهاد الحديث للقاضي الدستوري لينتهي الطعن بإبطال جزئي لفقرات واردة في المواد 31،29،16،11،1 من هذا القانون الذي يحمل الرقم 23.وتصنيفي له بالمبدئي يستند الى انه أثبت صلاحياته بالنظر بكافة مواد القانون عملاً بتقنية ( Ultra Petita) أي انه لا يتقيد بمطالب الجهة الطاعنة،وابطل فقرات واردة في المادتين 11 و16 من القانون لم تتطرق اليها الجهة الطاعنة! لكن رغم هذا التقييم، يبقى لدينا ملاحظتان على هذا القرار،الأولى إيجابية والثانية سلبية:
أما ما يخص الملاحظة الايجابية: أتمنى على من له الحق بالطعن امام المجلس الدستوري بأن يتقيد بهذا الإجتهاد المُلزِم لكل من يُريد الطعن بدستورية قانون مستقبلاً، والعمل على عدم التطرق الى هذا السبب مرة اخرى،عنيت بذلك عندما تطرق المجلس في الفقرة (ب) من القرار الى مسألة التناقض ما بين الأسباب الموجبة للقانون وما ورد في المادة 3 من القانون عينه،حيث ذكّر المجلس الجهة الطاعنة بقراره(رقم 2025/1 تاريخ 2025/1/7) الذي يؤكد فيه بأن التناقض بين الأسباب الموجبة للقانون التي تُعتمد فقط لتفسير القانون، والغاية منه لا تعتبر مسألة دستورية، وبالتالي لا تخضع – (الأسباب الموجبة) – لرقابة المجلس الدستوري، الذي تنحصر رقابته بالقانون للتأكد من خلّوه من أي مخالفة دستورية،لأن الأسباب الموجبة لا تتمتّع بأي قيمة قانونية – الأصح بأي قيمة دستورية – علّه بهذا التأكيد للمرة الثانية خلال سنة، يتقيد اي جهة طاعنة باحترام هذه القاعدة الإجتهادية، والإحجام عن التطرق اليها مستقبلاً، ضناً بمصداقيتها القانونية ولكي لا يكون الرد مُكرراً!
أما ما يخص الملاحظة السلبية: ربما الاصح القول بأنها ملاحظة تتعلق بتقصير كان من الاجدى تداركه من قبل المجلس، لكي يفرض دوره في حماية حقوق الانسان بسبب وجود مخالفات دستورية في النصوص القديمة او التي لم يُطعن بها امامه! عنيت بذلك ما ورد في الفقرة (أ) تحت عنوان “الخلط المشوه لمفاهيم قانونية عدة”،إذ عند تطرقه الى الوضع القانوني لكل من اصحاب الودائع الاستثمارية والمودعين العاديين،واستناده الى المادة 123 من قانون النقد والتسليف التي تحيل الأمر الى نص المادة 307 من القانون التجاري (الصادر عام 1943) التالي نصّها:”ان المصرف الذي يتلقى على سبيل الوديعة مبلغاً من النقود يصبح مالكاً له ويجب عليه أن يرّده بقيمة تعادله دفعة واحدة او عدة دفعات عند اول طلب من المودع……..”. هنا كنت أتمنى ان يطبق المجلس الدستوري إجتهاد نظيره الفرنسي المستقر منذ سبعينات القرن الماضي، والذي مفاده أن القوانين القديمة وإن كانت محصنة بعدم صلاحية النظر بدستوريتها – في مرحلة ما قبل تعديل الدستور الفرنسي لعام 2008 وإعطاء المواطن الفرنسي حق الدفع بعدم دستورية القانون المُراد تطبيقه عليه بدءاً من عام 2012 – إذ بمُجرد ان يرد اي مادة من القانون القديم في معرض قانون جديد طُعِنَ بدستوريته يحق للقاضي الدستوري النظر بالنص وإبطاله أو تفسيره بصورة بنّاءة ( Interpretation constructive) لكي يُصبح مطابقاً للدستور! اقول ذلك لأنه من المستغرب ان لا يتوقف المجلس الدستوري،امام هذا النص القديم، الذي ينطبق عليه مبدأ غموض النص وإبهامه،إذ كيف تتحول الوديعة الى ملك للمصرف،وكيف يلزمه القانون رغم ملكيته لها بإعادتها الى المودع.هذا من جهة،
ومن جهة أخرى قد حوّلَ النص الوديعة ( Dépôt او Deposit) الى ملكية للمصرف ضارباً بعرض الحائط بنص المادة 15 من الدستور، والوديعة هي أمانة يضعها المودع بعهدة المصرف المؤتمن عليها ولا يمكن ان تكون ملكاً له، والأمانة لها موقع رباني لجهة الحفاظ عليها وإعادتها الى صاحبها، فالإنجيل المقدس جعل الامانة ثمرة من ثمار الروح القدس (انجيل متى)، كذلك ورد في القرآن الكريم سورة الاحزاب 72″ بـ(انا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين ان يحملنها واشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوماً جهولاً)،بحيث وضع الله ثقته بالانسان للحفاظ عليها كونه واثقاً منه! وجاءت الآية 58 من سورة النساءء لتؤكد ” ان الله يأمركم ان تؤدّوا الامانات لأهلها”.
لهذه الأسباب والموجبات الربانية وما وصل اليه واقع غالبية شرائح المجتمع اللبناني من جراء نهب ودائعهم التي جمعوها من عرق الجبين والغربة، نؤكد بأن هذا المخرج الذي دبَّجَه هذا القانون من خلال التلاعب على المعاني للوصول الى جعل الوديعة من انها ملك للمصرف وجوازية تطبيق نص المادة 15 من الدستور لجهة نزعها من صاحبها لِما فيه المصلحة العامة هو بمثابة حق يُراد به باطل!!! فرغم هذا التلاعب بنص القانون على مفهوم الملكية،أسأل اين هو التعويض الذي فرضه الدستور لنزع الملكية – غير المنقولة التي يسري عليها النص الدستوري – التي تمّ تفسيرها بالمطلق وشموليتها لكل انواع الملكية حتى الفكرية منها، وهذا ما يجعلني أتحفظ على هذه المسألة،لأن ودائع الناس تتحصن بحماية ربانية وبنص دستوري واضح.
فالمصلحة العامة في هذه المسألة تتأمن من خلال قضاء مستقل يُحقِّق مع كافة المسؤولين المصرفيين والسياسيين والقيمين على مصرف لبنان،من أجل إسترجاع ما نهب بتواطؤ واضح طيلة العقود التي سبقت الانهيار،وإحجام المشرع عن عدم وضع قانون “الهير كات او الكابيتال كونترول” بالصورة الفورية،للمحافظة على الكتلة النقدية التي هرِّبت في وضح النهار لخدمة مصالح هذه الطبقة التي أجرمت بحق شعبها! تُرى لماذا لم يقتدوا بما قامت به السلطة السياسية إثر حرب 1967 عندما أصدرت قرارها المتعلق بالكابيتال كونترول وحظّرت سحب الاموال من المصارف إلاّ ضمن سقف حدّده القرار،الذي انتهى بعد انتهاء تلك الحرب!هكذا تكون السلطة السياسية مؤتمنة على مصالح الناس وعلى المصلحة العليا!
رأي متواضع اضعه بتصرف المتعمقين بدراسة حقوق الانسان والاجتهاد الدستوري،واختم بتقديري لِما ورد في هذا القرار باستثناء هذه المسألة المتعلقة بالودائع المجبولة بعرق الجبين والسهر وركوب المخاطر حيث يقتضي حمايتها وإعادتها الى اصحابها،ومن الطبيعي ان لا يسري هذا الأمرعلى الودائع الملوثة والمشكوك في مصادرها لجهة تبييض الأموال والجرائم المنظمة العابرة للقارات وكلها ودائع معروفة بالإسم والمصدر إن من قبل السلطات المحلية وعلى رأسها مصرف لبنان، كما ان هذه المعلومات لم تكن خافية عن البنك الدولي وصندوق النقد والغريب سكوت الجهات الدولية عن هذا الواقع،إلاّ اذا كانا شريكين مع السلطات اللبنانية ووصول الأمر الى ما نحن عليه!
“محكمة” – الثلاثاء في 2025/10/7



