حريّة التعبير وحدود القانون/زينب حمزة

زينب حمزة:
في عصر أصبح فيه لكل فرد منبره الخاص على مواقع التواصل، وغدت الكلمة تنتشر في ثوانٍ وتصل إلى الآلاف بل الملايين من الناس، تحوّلت حرية التعبير إلى سلاحٍ ذي حدّين: من جهة أساس الديمقراطية وحقّ إنساني أصيل، ومن جهة أخرى قد تُستغل للإساءة، التحريض، أو حتى لزعزعة الأمن المجتمعي.

حرية التعبير هي إحدى الأساسيات في المجتمعات الديمقراطية، وهي حق مكفول في دساتير وقوانين معظم الدول، إذ تتيح للفرد التعبير عن آرائه وأفكاره دون خوف من العقوبة. لكن في الوقت نفسه، قد تتحول الكلمات إلى أداة أذى، تحريض، أو تشهير، ما يفرض تدخل القانون لتحديد الحدود بين الرأي الحر والتعبير المجرَّم.
من هنا، أين يقع الخط الفاصل بين حرية التعبير والقول المجرّم قانونًا، وكيف يمكننا ممارسة هذا الحق دون انتهاك لحقوق الآخرين أو تعريض أنفسنا للمساءلة.
ما هي حرية التعبير؟
حرية التعبير تُعرّف بأنها حق الإنسان في التعبير عن أفكاره وآرائه بالقول أو الكتابة أو أي وسيلة أخرى، بشرط ألا يعتدي على حقوق الآخرين أو يقوّض النظام العام.
وقد كفلتها المواثيق الدولية، مثل المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي تنص على أن “لكل إنسان الحق في اعتناق آراء دون مضايقة، والحق في حرية التعبير.”
حرية التعبير حق مطلق
لا تعتبر حرية التعبير حقًا مطلقًا، إذ إن القوانين والمواثيق الدولية تُقرّ أن حرية التعبير مقيدة بقيود مشروعة، لحماية الأمن القومي، والنظام العام، والصحة العامة، والآداب العامة، كما وحقوق الآخرين (مثل السمعة، الخصوصية، الكرامة)
يضاف الى ذلك، فإن أشكال التعبير المجرّم قانونًا تنخرط تحت إطار التحريض على العنف أو الكراهية، مثل الدعوة إلى قتل فئة معيّنة أو بث الكراهية ضد طائفة أو مذهب. أو كالتشهير والسب والقذف، مثل نشر معلومات كاذبة تسيء لسمعة شخص أو مؤسسة يُعد جريمة يعاقب عليها القانون في أغلب الدول.
كما وتعتبر الإساءة إلى الرموز الدينية أو الوطنية شكلًا من أشكال التعبير المجرّم، إذ في بعض الدول، يُجرَّم انتقاد الرموز الدينية أو السياسية بشكل يُعد إهانة. ففي كثير من الدول العربية، توجد نصوص قانونية تعاقب على إهانة الأديان أو التقليل من شأن العقائد.
كما وأن نشر الأخبار الكاذبة أو المضللة، خاصة إذا أدت إلى بلبلة أو ضرر بالمصلحة العامة.
هذا وأن الإضرار بالأمن العام أو التحريض على قلب نظام الحكم يُعد تجاوزًا للحدود المشروعة لحرية التعبير.
ففي جمهورية مصر العربيّة، ينص الدستور على حماية حرية التعبير، لكن قانون العقوبات يفرض قيودًا على النشر إذا ترتب عليه إشاعة أخبار كاذبة أو إهانة مؤسسات الدولة.
أمّا في المملكة العربيّة السعوديّة، فتراقب هيئة الإعلام الإلكتروني المحتوى الرقمي، ويُعاقب على التعبير الذي يخلّ بالنظام العام أو يمسّ بالدين أو القيادة.
وفي المملكة الأردنيّة الهاشميّة، يعتبر قانون الجرائم الإلكترونية أداة رئيسية لملاحقة التعبير الضار، مثل خطاب الكراهية أو التشهير عبر الإنترنت.
الوعي القانوني
يجب على الأفراد الإدراك بأنّ لكلّ حرّية مسؤولية، وأن تجاوزها قد يعرّضهم للمساءلة، وبالتالي يجب تحقيق التوازن بين الحرية والمسؤولية من خلال نصّ التشريعات المتوازنة، والتي بدورها يجب أن تكون واضحة، لا تُستخدم كأدوات لتكميم الأفواه، بل لحماية الحقوق والكرامة.
هذا وعلى الدولة حماية حرية الصحافة، من خلال دعم الإعلام الحرّ بما يعزّز المناخ الديمقراطي، لكنه لا يعني التساهل مع الأخبار الكاذبة أو التحريض. فالسلطة القضائية هي الحكم العادل بين الحرية والتجريم، ويجب أن تكون محايدة ومستقلة عن التأثيرات السياسية.
في زمنٍ كثرت فيه المنصات، وتنوعت فيه وسائل التعبير، لم تعد حرية الكلمة مجرد امتياز. فإن الوعي بالقانون، والتمييز بين النقد البنّاء والإساءة، والالتزام بالضوابط الأخلاقية، لم يعد خيارًا، بل ضرورة ملحّة.
لقد أصبح من الضروري أن نُعيد النظر في مفهوم حرية التعبير، لا بوصفها مجرد حق مطلق، بل كواجب اجتماعي يقتضي التزامًا أخلاقيًا وقانونيًا. حرية التعبير ليست شعارًا يُرفع، بل حقّ جوهري لا تكتمل العدالة بدونه، لكنّه ليس مطلقًا ولا فوضويًا. فعندما تتحول الكلمة إلى أداة إساءة أو تهديد أو فتنة، يتحتم على القانون التدخل لحماية المجتمع والأفراد.
إنّ الخط الرفيع بين التعبير والرأي المجرَّم ليس دائمًا واضحًا، لذا فإن الوعي، والاعتدال، والتزام القوانين هي السبيل لضمان ممارسة هذا الحق دون الوقوع في المحظور. فالحرية الحقيقية لا تعني الانفلات، بل القدرة على أن تقول ما تريد دون أن تضرّ، ةدون أن تسيء، ودون أن تهدم ما تبنيه الكلمة ذاتها من قيم.
ليست كل كلمة تُكتب حرية… وليست كل محاسبة قمعًا. فالعدالة تكمن في التوازن، والقانون وُجد ليحفظ هذا التوازن.
“محكمة” – الاثنين في 2025/5/19