مقالات

رسالة إلى بسام الداية بحبر غير ملموس/رشيد درباس

بقلم الوزير والنقيب رشيد درباس:
يوم الأحد مشت مسيرة خلف المسيرة…
تجمّع المحامون بسوادهم والمحبون بحدادهم، والقادرون الفضلَ بأعدادِهم، وسعَوا جميعًا إلى حيث يودعون ويعاينون كيف تتكفَّنُ البسمةُ بالكتّانِ والتراب، حيث يرقد بسام داية، وسنرقد نحن أيضًا بعد أحيان أو حين.
كلما قرأت عمري رأيت الغد ماضيًا مؤجَّلًا. لكنني لم أحسب أبدًا أن غد بسام داية سيسرع هكذا، إلى الهجوع في ماضيه الثريِّ الذي لم يُتَمَّم بعد بما يستحق، إلا إذا فهِمنا الغياب كمالًا مطلقًا، فيه استراح جسده من أدوائه، وتحررت نفسه من معاناة الدورة الدموية، ومن خفقان القلب وتصلب الشرايين وارتفاع السكري والضغط، ومن أثقال الحياة وصروفها، ومن القلق المستدام الذي ربما تمادى إلى ما بعد إغماضه في ذلك الصباح من الأضحى.
بسام مسيرة وضيئة الوجوه أيَّةً سلك، مذ كان طالبًا في كلية الحقوق ومتعاقدًا مع وزارة الإعلام في الوقت عينه، ليخفف عن والده العصامي بعض أعبائه. ثمَّ صار محاميًا متدرجًا، فأمسك بالزمام منذ همزةِ جوادِه الأولى، من غير أن يشق له أحد غبارًا. ولقد نماني وإياه في التدرج موضعٌ واحد هو مكتب الأستاذ رشيد فهمي كرامي الذي أخذنا عنه الكثير من العلم والأدب. وحين استقلَّ بسامٌ عملًا لبث وَفِيًّا لمن تعلم معهم ومنهم، دقيقًا مثابرًا يقاس الاحتراف على مقاسه، وسمْحًا لا يترك للخلاف مكانًا، يتقي العاديات بالبشاشة والمرض بالصبر والخطر بالحنكة، حتى غدا منذ شبابه محط ثقة الشهيد رشيد كرامي في أعقد الظروف وأشدها، ينتدبه إلى أصعب المهام قائلًا:” أرسل حكيمًا ولا توصِهِ”، وفي كل مرة كانت الحكمة تفخر به، كما الشجاعة الأدبية، فصار متمرِّسًا بالسياسة التي أخفقت في الإفادة منه، لأنها رقطاء وهو مسالم.
أحاول أن أتمالكَ روعَ قلمي وأجعلَه حذِرًا إلى أبعد حد، خشية أن يُقحمني في كلِّ ما أقول في النقيب، لشدة تداخل أخوَّتنا وتشعُّبِها. إنها لا تبدأ بالقضايا المهنية، ولا تنتهي بالأمور الشخصية والعائلية والاهتمامات السياسية. ولعلّي في كل ما أكتب عنه شريكُ جمعٍ لا يُعَدُّ من الذين ارتبطوا به صحبةً أو حاجةً، فاتكأوا على همته ونخوته وكرمه، لأنه المبادر من غير طلب، بالتدخل الأنيس والوساطة اللطيفة والرأي الحازم، كأنَّ خيرًا دائمًا معقودٌ عندوه بين رشاقة الأنامل وطلاوة الكلام.
جهر بهويته الوطنية في المحافل واليوميات، لكنه كان فريدًا من نوعه في العبورِ بين الآراء والاتجاهات، فهو المحامي الحاذق الصارم في قضية استشهاد الرئيس رشيد كرامي، وهو أيضًا المحاور بين الأطراف؛ يدخل على المجالس دخول النسيم من الكوى الحارة، فيرطب جوًّا ويخمد جمرًا، ويصدر أمرًا تتلقَّفُه الأسماعُ بالرِّضا والقبول. فلما صار نقيبًا بأكثرية كبيرة، التفت إلى من لم يؤيده فأدخلهم في حميميته، وزاد النقابة مهابةً، ووقف وقفته الشهيرة في قصر العدل ببيروت يوم افتتاح السنة القضائية ملقيًا في حضرة رؤساء الجمهورية والمجلس والحكومة والوزراء والقضاة خطاب نقابة محامي طرابلس، الذي لو التقطت قاعة الخطوات الضائعة أصداء معانيه، لما ضاع حق ولا مال عدل.
وكان طوال ولايته منصرفًا بالكلِّيَّةِ إلى تولي شؤوننا، ولهذا استودع زملاءه وتلامذته الميامين أمور ملفاته، وتفرغ للإدارة فأحكم ضبطها، ولمصالح المحامين رعاية وتعليماً، وابتكار فرص. وفي حقيبةٍ من استقامته الشفافةِ حتى البلّورية، أرسل لبعض كليات الحقوق رسالة حازمة مفادها أن النقابة لن تقبل في صفوفها من لم يتلقَّ علمًا رصينًا، وذلك بأن أعلن أن نتائج امتحانات الدخول أسفرت عن نجاح أربعة أشخاص فقط من أصل ما يزيد على مئتي متقدم للانتساب، فكان بهذا يعدل الميزان ويستنقذ تعليم الحقوق من آثار حقبة معروفة. وعلى الرغم من قوة شكيمته وحزمه، أحاط نفسه بالنقباء السابقين، واستمسك بالمشورة عاصمًا من الزلل، وفعَّلَ عمل المجلس… لكن الإنصاف يقتضي أن ألفت إلى ما نجم عن حضوره الشخصي الباذخ، من دور مرموق أدته نقابة طرابلس على صعيد لجنة الإدارة والعدل، والمواقف المشتركة مع نقابة بيروت مع الصديقين النقيبين أمل حداد ونهاد جبر، وكذلك في اتحاد المحامين العرب الذي استضاف مكتبه الدائم في طرابلس، واستصدر منه قرارًا بانتخاب الزميل عمر زين أولَ أمين عام لبناني لهذا الاتحاد. أما ما مارسه لدى الاتحاد الدولي للمحامين، والعلاقة التي متنها مع نقابة باريس، والإسهام الكبير في إنشاء وأعمال المحكمة الدولية الخاصة للبنان في قضية اغتيال الشهيد رفيق الحريري، فبعض من علامات مقدرته، وامتداد حيويته الخلاقة في كل موضوع، وكل مجال.
تواضعه المورث عن أبيه الذي تقمص سجاياه الغزيرة أمَّرَه على تقاطع طرق كثيرة، ضمانًا للعبور الآمن؛ وكما كان عشير الداية -وحسبه باسمه لقباً- مثالاً في الإدارة والصداقة والحصافة والبشاشة والعصامية، كان بسام وإخوته جِبِلَّةً فائقة الرقي، رعتها أم فائقة الرقي أيضًاً وفائضة الحنان. وكما اعتزَّ الوالد باسم “أبي بسام” ازدهى بسام بلقب “أبي عشير” فلما آثر الرحيل أوى إلى صلاة عشيرة العمر”أم عشير” وابنتهما دامو وأخيه الدكتور نبيل تبركًا بالكلام القدسي، واغتسالًا بنبع العاطفة المتدفق منهم.
قال الجواهري عن صديقه عمر فاخوري، حين زاره في أيامه الأخيرة:
يُزَمُّ فمٌ، فما تُفْضي شِفاهٌ                   وَيْخفى السِرُّ لولا الـمُقلتانِ
على مُؤَقَيْهِما مَرَحٌ ولُطْفٌ                   وإنْساناهُما بكَ مُتْعبانِ
تَفيضُ طَلاقةً وتذوبُ رِفْقًا                    ووحْدَكَ أنْتَ تدري ما تُعاني
أخي بسام…
أتُراك تدري ما نحن نعاني؟ أتُبْصِرُ الفرحَ الذي أخذتَه منّا معك؟ ووالله، لئن قَصَّرت عن الارتقاء إلى عتبة الجواهري، فإنني مقصر أيضاً عن الإحاطة بفسيح عتباتك. وكيف لي أن أتقي ذلك، والجوهر لا يحتاج إلى قلادة لأنَّ بريقه دالٌّ عليه؟ لم يبقَ لي إذًا إلا أن أكتب بحبر غير ملموس هذه النجوى، التي حاولت أن أجنب سطورها تفشي الدمع في الحروف، لأرسلها على زاجل من حزني، ببريد ممهور بختم الوصول، يفيد بأن المستلم قرأها وابتسم، كما كانت عادته، لأنه فريد بين المتألمين يعبر عن أوجاعه بالابتسامة لا بالآه…
فآهٍ يا بسام … آهٍ… ثمَّ آهْ!!!
“محكمة” – الجمعة في 2022/7/15

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!