علم وخبر

زواج القاصرات في لبنان بين القانون وسطوة العادات/زينب حمزة

زينب حمزة:
رغم التطور القانوني الذي شهدته العديد من الدول في ما يخص حقوق المرأة والطفل، لا يزال زواج القاصرات في لبنان يمثّل مشكلة اجتماعية عميقة، تتداخل فيها عوامل دينية، وقانونية، واقتصادية، وتُسلّط الضوء على الهوة بين الواقع الاجتماعي والتشريعات العصرية.
ومع ظهور العديد من حملات التوعية التي تطلقها منظمات المجتمع المدني في لبنان، ومشاريع القوانين التي طُرحت في مجلس النواب، لا يزال الفراغ التشريعي قائمًا.
عام 2017، قُدّم اقتراح قانون لتحديد سن الزواج بـ18 عامًا، مع استثناءات خاضعة لرقابة قضائية صارمة، لكنه لم يُقر حتى الآن. ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى حساسية الموضوع الطائفي، إذ ترفض المرجعيات الدينية أي تدخّل تشريعي في قوانين الأحوال الشخصية.

زينب حمزة

واقع غياب سن قانوني موحّد للزواج
يُعتبر لبنان من الدول التي لا تعتمد سنًا قانونية موحدة للزواج، بل تُرك هذا الأمر للطوائف الدينية المختلفة التي يتجاوز عددها 15 طائفة، ولكلٍ منها قوانين الأحوال الشخصية الخاصة بها. وبموجب بعض هذه القوانين، يمكن تزويج الفتاة في سن التاسعة أو العاشرة، إذا وافق الأهل والمرجعية الدينية. فالقانون اللبناني لا ينصّ على سنّ موحدة للزواج، بل تخضع المسألة لقوانين الأحوال الشخصية الخاصة بكل طائفة دينية.
في بلد تتعدّد فيه الطوائف وتختلف فيه القوانين باختلاف المرجعيات الدينية، تبقى الطفلة اللبنانية رهينة منظومة قانونية غير موحدة تسمح بزواجها في سنّ قد لا تتجاوز العاشرة. وبينما تغيب التشريعات المدنية الملزمة، تتغوّل العادات الاجتماعية والضغوط الاقتصادية على طفولة الفتيات، وتحوّل الزواج المبكر إلى حلّ يُسَوَّق إليه في شريعة العادات والتقاليد على أنه حماية للأسرة والفتاة، “الشرف والعرض ” – حسب ما يقولون.
ففي المناطق الريفية والمجتمعات المهمشة، يُنظر إلى زواج الفتاة المبكر على أنه وسيلة لحمايتها من “العار” أو لتخفيف الأعباء الاقتصادية عن العائلة، خصوصًا في ظل الانهيار المالي الحاد الذي يمر به لبنان منذ العام 2019، والذي تسبّب بأزمة إقتصادية حادة عصفت البلاد مع ما رافقها من انهيار للعملة وارتفاع معدلات البطالة.
تُظهر الدراسات أن القاصرات اللواتي يُجبرن على الزواج يعانين من ارتفاع معدلات العنف الأسري، الحرمان من التعليم، العزلة الاجتماعية، والانهيار النفسي. كما يزيد الحمل المبكر من احتمالات المضاعفات الصحية الخطيرة على الأم والطفل على حد سواء. هذا فضلًا عن الآثار بعيدة المدى مثل فقدان الاستقلالية وانعدام فرص التمكين الاقتصادي.
الحاجة إلى الحلّ الشجاع
لا تملك القاصرات، في الغالب، أي قدرة على رفض الزواج، ولا يدركن ما ينتظرهنّ من مسؤوليات تفوق أعمارهن. دراسات محلية ودولية تشير إلى ارتفاع معدلات العنف الأسري والطلاق والانقطاع عن التعليم في أوساط المتزوجات الصغيرات. كما ترتفع نسبة وفيات الأمهات والأطفال في حالات الحمل المبكر. هؤلاء الفتيات لا يخسرن فقط تعليمهن، بل يُنتزع منهن حقهن في النمو الطبيعي والحياة الكريمة.
لا يكمن الحل فقط في إصدار قانون يحدد السن الأدنى للزواج، بل يتطلب إرادة سياسية وشراكة حقيقية بين السلطات الدينية والمدنية، بما يضمن احترام التعددية من جهة، وحماية القاصرات من الظلم والتهميش من جهة أخرى. كما يجب تعزيز الوعي المجتمعي حول مخاطر الزواج المبكر وتوفير الدعم النفسي والاقتصادي للأسر التي تقبل بهذا الزواج بدافع الفقر أو الجهل.
خاتمة
في غياب قانون مدني موحّد للأحوال الشخصية، وفي ظل تفشّي الفقر وتراجع الخدمات الاجتماعية، تظلّ الطفلة اللبنانية في خطر دائم.
إن زواج القاصرات في لبنان ليس مجرّد ظاهرة فردية. فبين نصوص دينية غير موحدة، ومجتمع محافظ، ودولة عاجزة عن سن قانون موحد للأحوال الشخصية. لا يكفي تعديل القوانين فحسب، بل المطلوب إرادة سياسية حقيقية وشراكة مجتمعية واسعة تقف في وجه العادات التي تشرّع انتهاك الطفولة باسم السترة والحماية من العار والفقر.
“محكمة” – الاربعاء في 2025/6/4

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!
مجلة محكمة
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.