مقالات

شاكر أبو سليمان.. محاورٌ سياسي لمع في سماء المحاماة/فادي مصري

النقيب فادي مصري*:
الحضور الكريم،
أيها الأحباء،
تحار عندما تُزمع ان تتحدّث عن شاكر ابو سليمان ان كنت تتوقف عند رجل السياسي أو المحامي أو الوطني اللبناني الصميم.
كان من المنطقي والبديهي لنقيب المحامين أن يتكلم في يوم شاكر ابو سليمان عن المحامي، إلا انني وجدت نفسي أمام شبه استحالة بأن أُفرق بين الأوجه المختلفة والمتعدّدة لهذه الشخصية الفذّة والغنّية، فارتأيت، أن أتطرق إلى شاكر الإنسان الذي يشمل المفكّر والحقوقي والسياسي والرجل الوطني، وقبل كل شيء الإنسان الإنساني (Humaniste).
فالمحاماة في دولة القانون لا طريق لها إلا اثنين:
– طريق العلم والثقافة حيث للقانون حرمة ومجالات خلق واجتهاد.
– طريق القلم والصوت حيث للمحامي الدور الوطني في صيانة القانون، وفي الدفاع عن حرية الوطن وسيادته، وحقوق الإنسان وكرامته.
وشاكر أبو سليمان كان للإثنين معا،ً ومن خلالهما نفذ إلى المحاماة بمعناها الشامل.
تخرّج زميلُنا، الراحل الكبير، من جامعة القديس يوسف في بيروت حيث نال إجازة الحقوق سنة 1947، وانتسب فوراً إلى نقابة المحامين متدرّجاً في مكتب العلامة الأستاذ ادمون رباط، ثم قيّد في الجدول العام سنة 1951.
أقبل على المهنة بشغف ومارسها بفرح وقدّس قيّمها فكان فارساً شهماً من فرسانها وأميراً على منابرها، فما صعبت عليه دروب الحق الوعرة، ولا ضاقت به مسالك المسؤولية والنضال.
لو عدنا إلى بستان المحاماة، هذا البستان الخصيب، الذي أعطى كبار الرجالات، لبدا لنا إسم شاكر أبو سليمان متألقاً وسط كوكبة من الأسماء الكبيرة التي لمعت في سماء المحاماة، من نقباء وأعضاء مجلس نقابة ومحامين يحدثنا أصحابها عن أمجاد المهنة وعظمتها منذ البدايات.
ولم أجد اليوم أدق وأعمق وأبلغ في وصف شاكر ابو سليمان المحامي، من كلمات الزميل النقيب الأمير سمير ابي اللمع في يوم وداعه في المتين، حيث رثاه باسم نقابة المحامين قائلاً:
” شاكر ابو سليمان مات كما أراد…
مات في المحاماة في العمل التشريعي، في الإباء والأَنَفَه، في السخاء والأريَحية، في البذل والعطاء والتقى.
مات في العدالة والحق والضمير، في راحتي ميزان ما استلهم غير السماء.
مات في لبنان، في عبادة الوطن، في شلح أرزة، في ترابه تقدس، في مصير يزاد عنه، في مشارف تُشَرّع لها آفاق الحق”.
أسس مكتباً ما زال قائماً ومزدهراً إلى اليوم، شعلته مضاءة بفضل ابنه زميلنا الأستاذ كميل الذي لمع نجمه في لبنان والخارج، كما عيّن وزيراً للعمل في حكومة الرئيس سعد الدين الحريري، وابنته زميلتنا الأستاذة رنده المثابرة، النشيطة، والمتجليّة، وهما خير من يمثل روح شاكر ابو سليمان ويحافظ على إرثه الحقوقي. إذ في المحاماة تقليدٌ في مواصلة البنيان الحقوقي، حجراً إثر حجر، ومدماكاً فوق مدماك، تحت قبة عالية لا تدركها الأنظار، ما دام البنيان ملازماً للحق وما دام المؤتمنون عليه مؤتمنين على أغلى ما في تعاقب الحضارات والأجيال.
أما إرثه الوطني، فإننا نتشارك مع العائلة في مسؤولية حمله وتطويره، نحن كنقابة محامين، وأبناء الجبل اللبناني والرابطة المارونية وجميع اللبنانيين.
إن تكريم شاكر ابو سليمان ليس حدثاً عابراً، انه تكريم للفكرة اللبنانية التي تجّلت في نضاله الوطني بمختلف مراحله:
– في جبهة الحرية والإنسان مع شارل مالك وجواد بولس وفؤاد افرام البستاني وسعيد عقل.
– في خلفية الجبهة اللبنانية وفلسفة وجودها، مع كميل شمعون وبيار الجميل وشربل قسيس.
– في الرابطة المارونية كرئيس لها وكأبرز من يجسّد روحها ونبضها.
– في الندوة النيابية كنائب عن المتن وكرئيس للجنة الإدارة والعدل النيابية.
– وقبل كل شيء، وأهم من كل شيء، في النضال الدائم من أجل لبنان وطناً للحرية والإنسان.
وإذا كانت المحاماة سفراً مفتوحاً، يُقبل على قراءته طلائع المجتمع، كتب لهم أن ينخرطوا في دورة الحياة، حتى الأعماق، فكيف لنا أن نحيد عن ساح العدل، إذا أقبلوا على ساح العدل، عن ساح الحوار، إذا دقت ساعة الحوار؟
فصحيح أنه عرف كمحاور، لا كمحارب، لكنه كان محاوراً مؤمناً بقضية، لديه موقف على عكس فئة الــ ” لا لون ولا طعم ولا موقف”، هذه الفئة التي ما فتئت تتسع اليوم وتشكّل خطراً على المؤسسات الدستورية والهيئات المنتخبة وعلى النقابات، ولا سيما نقابة المحامين، نقابة الموقف والكلمة الحرة الجريئة.
لم يكن وسيطاً ناجحاً محترفاً فحسب، بل كان وسيطاً صاحب رؤية ومبدأ يؤثر على القرار ويشارك في صناعته ولا يصادق على أي موقف يخالف قناعاته والمبادئ العليا والمصلحة الوطنية العليا.
كان لشاكر ابو سليمان صبغة مارونية دامغة، إلا أنّ مارونيته لم تخفف من لبنانيته ولم تُسِئ إليها بل عزّزتها.
كان لشاكر ابو سليمان صبغة يمينية واضحة، إلا أن يمينيته لم تؤثر على تفاعله مع كل مظلوم أو صاحب قضية محقة، ولم تمنعه من التحاور العميق مع تيارات فكرية في الجهة المقابلة ومع منظمات يسارية في عز الصراع السياسي والمواجهة العسكرية.
هكذا بقي شاكر ابو سليمان على الدوام يشبه نفسه، متصالحاً مع ذاته، مؤمناً بقضية واحدة هي قضية الإنسان ومناضلاً في سبيل حبّه الأول والأخير: لبنان.
وفي ذكرى رحيله ويوم تكريمه، كانت لنا في حياته عبرٌ ومآثر وعظات، إنه باقٍ في خواطرنا. رجاؤنا أن تبقى سيرته مدرسة لزملائه المحامين كما ولسائر مواطنيه في حمل كلمة الحق التي لا تهادن ظالماً ولا تغفل عن نصرة مظلوم، فينهض جنود الحق والحرية لحماية وطنهم في وجه الأخطار المحدقة.
نتأمل ملّياً في الأمثولة والمثال اللذين تركهما لنا آملين ألا نحرم من رجال ونساء من طينة شاكر ابو سليمان.
نحيّي روح الأستاذ شاكر أبو سليمان تحية وفاء وإكبار، زميلاً كبيراً في رعيله، وواحداً ممّن كلما ذكر مجد المحاماة يذكرون.
* ألقى نقيب المحامين في بيروت فادي مصري كلمة النقابة في الحفل التكريمي الذي دعت إليه الرابطة المارونية، بمناسبة مرور 25 عاماً على رحيل المحامي المرحوم شاكر ابو سليمان، وذلك في مركز لقاء في الربوة. وتحدّث في المناسبة كلّ من: رئيس الرابطة المارونية المهندس مارون حلو، والنائب والوزير السابق المحامي بطرس حرب، والكاتب الصحفي سركيس نعوم، والسيد حبيب افرام، ونجل الفقيد الوزير السابق المحامي كميل ابو سليمان، وقدّم الحفل الإعلامي ماجد بو هدير.
“محكمة” – السبت في 2025/11/1

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!
مجلة محكمة
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.