قامات

خاص”محكمة”: عبد اللطيف الحسيني قاض لكلّ لبنان بدماثته ولطافته وغزارة علمه وحبّه للناس/علي الموسوي

كتب علي الموسوي:
ولد في مدينة بعلبك، ودرس في مدينة صيدا، وعاش بين مدينتي النبطية وبيروت، وترأس منصبه القضائي الأرفع في القضاء العدلي في مدينة طرابلس، ولم يوفّر جبل لبنان من عطاءاته الحقوقية، فكان قاضياً لكلّ لبنان، إنّه باختصار الدكتور عبد اللطيف الحسيني الذي ختم مسيرته القضائية في القضاء الإداري بتولّي منصب مفوّض الحكومة لدى مجلس شورى الدولة تاركاً أثراً قانونياً طيّباً لن يمحى من الذاكرة القضائية الفردية والجماعية على حدّ سواء.
وبموازاة ذلك، فإنّ الحسيني من الرعيل المجتهد في المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية الأمّ، والذي أثبت على مرّ السنوات في ما وصله من مناصب ومستويات، أنّ التعليم الرسمي لا يقلّ شأناً عن التعليم الخاص، بل يفوقه في بعض الأحيان، وخصوصاً في تشدّده في التنشئة والتدريس قبل أن تأتي الحرب اللبنانية على الكثير من مجده كما فعلت بالوطن برمّته.
أطلّ عبداللطيف الحسيني على الدنيا في “بلاد بعلبك” في 27 آب من العام 1948 في منزل والديه السيّد مصطفى الحسيني والسيّدة فاطمة الحسيني كريمة السيّد محمّد الحسيني وشقيقة القاضي شريف الحسيني من بلدة مشغرة الواقعة في البقاع الغربي، ليجمع في شخصيته خصال هاتين المنطقتين الممتدتين على جزء كبير من مساحة لبنان بما فيها من عزّة نفس، ودماثة خلقية، وأنفة، وشهامة، ولطافة في المعشر، تفصح عنها إبتسامة محبّبة رافقته في حياته أينما حلّ وأينما وصل، وفي محبّته للناس، وفي حُسْن استقباله لهم في منزله وفي مكان عمله، وفي أيّ مكان التقى بهم فيه.
درجتان فوق القمّة
تأثّر عبد اللطيف الحسيني بخاله القاضي شريف محمّد الحسيني(1911-2012) الذي تقاعد في العام 1975 برتبة مفتّش عام قضائي، فارتفع لديه منسوب الرغبة في الإنضمام إلى الجسم القضائي، ولذلك فإنّه لم يتأخّر في الإنتساب عندما سنحت له الفرصة في سبعينات القرن العشرين وتحديداً في العام 1973، وثابر على العطاء بهمّة عالية ونشاط غير محدود، وهو المعروف عنه ولعه بالعمل المكثّف حتّى النَفَس الأخير دون اكتراث لما يسبّبه من إرهاق، لأنّ العمل عطاء وحياة، حتّى وصل إلى الدرجة الرابعة والعشرين في القضاء، أيّ بزيادة درجتين فوق القمّة بحسب التراتبية المعمول بها على الصعيد القضائي.
دكتوراه بإشراف النقيب والعوجي وطبّارة
درس الحسيني المرحلة الثانوية في ثانوية الزعتري الرسمية في مدينة صيدا الجنوبية، ونهل علومه الجامعية من كلّيّة الحقوق في الجامعة اللبنانية يوم كانت في محلّة الصنائع في بيروت حيث خرّجت أجيالاً من المثقّفين والمتعلّمين والمحامين وكتّاب العدل والقضاة والسفراء والدكاترة الحقوقيين، ولم يكتف عبد اللطيف الحسيني بالإجازة، بل وضع نصب عينيه الظفر بشهادتي دراسات عليا في القانون الخاص في العام 1979، وفي القانون العام في العام 1980، ثمّ أتبعهما بشهادة دكتوراه دولة في الحقوق من الكلّيّة نفسها في العام 1986 عن أطروحته المعنونة “المسؤولية المدنية عن الأخطاء المهنية للمحامي والطبيب والمهندس”، وتألّفت اللجنة المشرفة على هذه الأطروحة المتقدّمة في مجالها آنذاك، من رئيس مجلس القضاء الأعلى لاحقاً القاضي عاطف النقيب، والقاضي مصطفى العوجي الذي لا يزال كتابه “القانون المدني- العقد” يدرّس في الجامعات لأهمّيته القصوى، والدكتور بهيج طبّارة الذي تسلّم حقيبة وزارة العدل أربع مرّات. وتكفي أسماء هؤلاء الثلاثة للدلالة على نُضْج هذه الأطروحة وتقدّمها العلمي، وثقلها القانوني المعنوي الذي أعطى الحسيني دفعاً كبيراً في ممارسته للعمل القضائي طوال إثنين وأربعين عاماً متواصلاً.
زملاء وأساتذة الحقوق
ومن زملاء الحسيني في الدراسة، حقوقيون بارزون بعضهم ترك بصمات في القضاء والخدمة العامة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، القاضي الدكتور محفوظ حسين سكينة(توفّي في العام 2014) الذي انتقل من القضاء الإداري إلى رئاسة مجلس إدارة شركة “إنترا للإستثمار”، فمركز النائب الأوّل لحاكم مصرف لبنان حيث طرّز اسمه على العملة اللبنانية، والقاضي سهيل بوجي (مواليد بيروت في العام 1947) الذي لمع نجمه في منصب أمين عام مجلس الوزراء منذ العام 2000 وحتّى تقاعده في العام 2015، والقاضي عوني رمضان الذي ترأس ديوان المحاسبة منذ تعيينه في 3 آذار من العام 2010 وحتّى تقاعده في 10 كانون الثاني من العام 2014، والقاضي وليد عاكوم الذي بعدما عرفته العدليات قاضياً في غير مركز، عُيّن عضواً في الغرفة الابتدائية في المحكمة الخاصة بلبنان الناظرة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط من العام 2005.
ودرس الحسيني في الجامعة اللبنانية على أيدي نخبة من الأساتذة الضالعين بالمعرفة القانونية العميقة والمعاملة الطيّبة واللائقة، نذكر منهم على سبيل المثال كلاً من: النائب الدكتور إدمون نعيم(1918-2006)، والقاضي عاطف النقيب، وإدمون ربّاط(1904-1991)، والقاضي مصطفى العوجي( توفّي في العام 2012)، والقاضي شفيق حاتم، والقاضي الدكتور صبحي المحمصاني(1909-1986)، والقاضي سميح فيّاض( توفّي في العام 2012)، والقاضي الدكتور حسن عواضة.
الدخول إلى القضاء
تقدّم عبد اللطيف الحسيني لمباراة الدخول إلى القضاء العدلي وكان في عداد الناجحين وذلك في 16 تموز من العام 1973 ونال شهادة معهد الدروس القضائية مع مجموعة من القضاة منهم غالب غانم الذي وصل إلى منصب رئيس مجلس القضاء الأعلى، وشكري صادر الذي عيّن رئيساً لمجلس شورى الدولة، وأكرم بعاصيري الذي اختير لمنصب رئيس هيئة التفتيش القضائي، وميسم النويري التي حظيت بمنصب مدير عام وزارة العدل، وأليس شبطيني التي اختارتها السياسة وزيرة في حكومة تمام سلام الأولى والأخيرة في عهد الرئيس ميشال سليمان في العام 2014، وأرليت الطويل، وحبيب حدثي، والياس بو ناصيف، ورشيد مزهر، وخالد حمود، إلاّ أنّ مرسوم تعيين هذه الدفعة تأخّر فترة من الزمن بسبب اندلاع الحرب اللبنانية يوم الأحد الواقع فيه 13 نيسان من العام 1975.
المناصب القضائية
شغل الحسيني مناصب قضائية مختلفة هي: مستشار في محكمة الاستئناف في بيروت الناظرة في الأحوال الشخصية برئاسة جوزف جريصاتي في العام 1981، وقاضي تحقيق في بيروت في العام 1990، ورئيس الغرفة التاسعة لمحكمة الاستئناف في جبل لبنان وهي محكمة استئناف الجنح في العام 1994، وقاضي تحقيق في بيروت مرّة ثانية في العام 1997، ورئيس الغرفة الأولى لمحكمة الاستئناف في الشمال، وبالتالي الرئيس الأوّل لمحاكم الاستئناف في الشمال إلى حين تعيينه مفوّضاً للحكومة لدى مجلس شورى الدولة في العام 2010، وبقي في هذا المنصب الموازي لمنصب النائب العام التمييزي لغاية إحالته على التقاعد في 27 آب من العام 2016.
كما عيّن الحسيني عضواً في مجلس القضاء الأعلى بموجب المرسوم رقم 17142 الصادر في 12 حزيران من العام 2006، وبقي مدّة ثلاث سنوات، وترأس مجلس إدارة صندوق تعاضد القضاة بين العامين 2009 و2010.
أمّا المراكز الأخرى التي آلت إلى الحسيني فمنها رئاسة لجنة الاعتراضات على ضريبتي الأملاك المبنية ورسم الانتقال في محافظة لبنان الشمالي، ورئاسة لجنة إمتحانات نقابة المحاسبين المجازين لسنوات عديدة، ورئاسة وفد لبنان إلى المؤتمر الخامس لرؤساء المحاكم الإدارية في الدول العربية الذي عقد في العاصمة اللبنانية بيروت في شهر أيلول من العام 2015، وفي العاصمة المصرية القاهرة في شهر أيّار من العام 2016.
عندما ترك القاضي الحسيني منطقة الشمال، أقام له مفتي الشمال الشيخ مالك الشعّار حفلاً تكريمياً بحضور شخصيات سياسية وقضائية وحقوقية، وذلك عربون شكر ووفاء على ما بذله من جهود مضنية في خدمة العدالة والطرابلسيين وأهل الشمال برمّته من دون تفرقة أو تمييز بين هذا وذاك، فهمّه الأوّل والأخير هو الإنسان وإحقاق الحقّ.
حادثة وحكمة
لا يزال القاضي الحسيني يذكر حادثة طريفة لا تخلو من الحكمة حصلت معه عندما كان رئيساً لمحكمة استئناف الجنح في بعبدا حيث استدعى إمرأة كبيرة في السنّ كشاهدة في إحدى الدعاوى، ولدى مثولها أمامه وهو جالس “على القوس” سألها عن اسمها وشهرتها فأخبرته، ولمّا وصلت إلى ذكر عمرها خفضت صوتها واحمرّت خجلاً وحاولت الاقتراب من منصّة الرئاسة لكي تقول عمرها الحقيقي، فما كان منه إلاّ أن طلب منها البقاء في مكانها والتصريح عن عمرها بصوت عال، غير أنّها رفضت، وقالت بسلبية: “لا أعرف ولم أعد أذكر” وسط دهشة الحاضرين في قاعة المحكمة، فقرّر الاستغناء عن شهادتها، فاعترضت على ذلك، فقال لها:” إذا كان العمر لا تذكرين، فأنّى لك أن تذكري حوادث تشهدين عليها؟”.
طلعت منها بكرامة
ولم تخلُ حقبة استلام الحسيني منصب قاضي التحقيق في بيروت في العام 1997 من الملفّات الضخمة ذات النكهة السياسية العاصفة، إذ صودف أن كان قاضي التحقيق الأوّل عبد الرحيم شهاب مريضاً وغير قادر على القيام بدوره كما تقتضي الأصول بالنظر في الملفّات الحسّاسة المحالة عليه في عزّ احتدام الكباش السياسي في أوّل عهد رئيس الجمهورية العماد إميل لحود في سنة 1999، فآلت إلى الحسيني الأعلى درجةً بين زملائه من قضاة التحقيق آنذاك، ويقول عن هذه المرحلة:” تصرّفت في الملفّات كقاضٍ وطلعت منها بكرامة”.
إلى جانب العمل القضائي، مارس الحسيني بدءاً من العام 1979، التدريس الجامعي في مواد قانون الموجبات والعقود، وقانون العقوبات، وقانون أصول المحاكمات الجزائية، والقانون الجوّي، وقانون التجارة البحري، وأصول التنفيذ، وذلك في الجامعة اللبنانية وفي الجامعة الإسلامية، ودرّس مادة علاقة الإدارة بالقضاء خلال الدورة التدريبية العليا الأولى لعام 2007 والثانية لعام 2008 لموظّفي الفئة الثالثة في المعهد الوطني للإدارة لدى مجلس الخدمة المدنية، فضلاً عن كونه حاضر في قسم القضاء الإداري في معهد الدروس القضائية.
تأهّل القاضي الحسيني من فاطمة نصّار، ولهما ولد وبنت هما: المحاميان ديالا ونائل.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 11 – تشرين الثاني 2016).

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!