علم وخبر

قرار قضائي غير مسبوق في لبنان يعترف بشرعية طفلة ولدت خارج إطار الزواج المدني/سماهر برهان

المحامية سماهر برهان الطويل:
في مشهد قانوني نادر، أصدر القضاء اللبناني قراراً إعترف فيه بشرعية بنوة طفلة ولدت خارج إطار الزواج، استناداً إلى القانون المدني القبرصي، وهو قانون عقد الزواج الذي اتجهت إليه إرادة الوالدين، أو بالأحرى فرض عليهما اللجوء إليه بسبب اختلاف الدين الذي يمنعهما من الزواج في لبنان، ومن دون لجوء أي من الطرفين لعملية إبدال الدين والإحتيال على القوانين لعقد زواج ديني على الأراضي اللبنانية.
القرار يعتبر سابقة قانونية لافتة للنظر، إذ يشكل خرقاً للتقاليد الطائفية التي تحكم قوانين الأحوال الشخصية في لبنان، والتي غالباً ما تعتبر أنّ كل مولود خارج إطار الزواج هو طفل غير شرعي حكماً حتى لو اعترف به والداه، وحتى لو تزوّجا في وقت لاحق، في هذه الحالة فقط يمكنهما تسجيله على إسمهما ولكن كطفل غير شرعي.
صحيح أنّ القانون لطّف الأمر بعدم ذكره كلمة طفل غير شرعي على هويته، ولكن تبقى هذه الكلمة موجودة في القيود الداخلية في دوائر الأحوال الشخصية ولا تقف عند الكلمة وأثرها على الطفل فقط، بل أيضاً ينتج عنها مفاعيل قانونية، ومنها مثلاً الحرمان من الإرث أي حرمان طفل يحمل دم والديه من إمكانية الحصول على إرث منهما كون القانون في لبنان يحكم بالإرث تبعاً لطائفة الفرد.
هذا التوجه الإجتهادي يعتبر تطوراً هاماً في الفكر القضائي اللبناني، إذ إنّه يفتح الباب أمام التفسير المرن للقوانين بما يتوافق مع ما ينصف الطفل الذي لا ذنب له في شكل العلاقة التي ربطت والديه، ووضع مصلحة الطفل فوق كل إعتبار كونه الحلقة الأضعف والتي دائماً يجب الوقوف معها، وهي مبادئ قانونية فضلى تسعى معظم الدول لتطبيقها في القانون الدولي الخاص.
فتطبيق القاضي لقانون العائلة المتعلق بحقوق الطفل في قبرص والذي هو قانون عقد الزواج، ما هو إلاّ تكريس لمبدأ مهم في القانون الدولي الخاص ألا وهو “المكان يسود العقد”، كونه القانون الذي له أوثق الروابط بالعقد وبآثاره ومفاعيله على العلاقة من جهة، ومن جهة أخرى لافتقادنا لقانون مدني لبناني يحكم هذه الحالات. وتطبيق المادة 13 من قانون حقوق الطفل القبرصي رقم 91/187 التي تنص في فقرتها الأولى أنّ: ” الطفل الذي ولد دون زواج والديه يكتسب بأثر رجعي منذ لحظة ولادته الحالة القانونية وحقوق الطفل المولود من زواج بين والديه بالنسبة للوالدين وأقاربهم إذا تزوج الوالدان في وقت لاحق من بعضهما البعض وكان الطفل قد تمّ الإعتراف به..”، يظهر إنفتاح القضاء اللبناني على النظم القانونية الأخرى عند الإقتضاء ويستجيب لإلتزامات لبنان الدولية بموجب إتفاقية حقوق الطفل.
وطائفة الطرفين هنا درزي وشيعية، تمنعهما طائفتهما من الزواج لاختلاف المذهب والدين، وإرادة بقاء كل طرف على دينه لاعتبارات عقائدية دون الإحتيال على القوانين وتبديل الطائفة من أجل عقد زواج ديني وتسجيل طفلتهما، ما هو إلا تكريس لمبدأ دستوري مقدّس ألا وهو حرية المعتقد.
ويمثل هذا الإجتهاد القضائي تحوّلاً نوعياً في التعاطي مع قضايا الأحوال الشخصية في لبنان، ويعيد فتح النقاش حول الحاجة الماسة لقانون مدني على الأقل إختياري، يواكب تطور المجتمع ويحمي الحقوق الفردية، خاصة حقوق الأطفال.
“محكمة” تتفرّد بنشر هذا القرار الصادر برقم 2025/11، وبتاريخ 2025/3/13 عن الغرفة الإبتدائية في جبل لبنان المؤلّفة من القضاة لبيب سلهب رئيسًا وكارمن مشلب ونور القعقور عضوين، وذلك على الشكل التالي:
إنّ الغرفة الإبتدائية الرابعة في جبل لبنان الناظرة في قضايا الأحوال الشخصية، لدى التدقيق والمداولة،
تبين أنّ المستدعيين (…) وكيلتهما المحامية سماهر برهان تقدّما بتاريخ 2025/2/4 بطلب تشريع بنوة وعرضا: أن المستدعي درزي المذهب والمستدعية من الطائفة الشيعية وبسبب عدم إمكانية زواجهما أمام المراجع الطائفية التي تمنع الزواج المختلط، قررا الزواج مدنياً في قبرص، ولكن بسبب أزمة كورونا حصل تأخر في إتمام الأوراق المطلوبة إلى أن تمّ هذا الزواج في قبرص وفقاً للإجراءات القانونية. ولكن في الفترة التي سبقت الزواج حصل حمل ووضعت المستدعية طفلتها .(…)، فقاما بتسجيل الطفلة في دائرة الأجانب كون الأب يحمل الجنسية الكندية. لكن لاحقاً صدر قرار عن دائرة الأجانب بأن تسجيلها غير قانوني لأنّ الأب يحمل الجنسية اللبنانية أيضاً. فتقدّما بتسجيلها لدى دائر الأحوال الشخصية تبعاً للزواج المدني فجاء الردّ بأنّ الطفلة أتت قبل الزواج المدني وبالتالي لا يمكن تسجيلها. وإنهما تقدّما بطلب رجائي أمام القاضي المنفرد المدني لتسجيل الطفلة على إسم والديها واعتبارها شرعية، وتطبيق القانون القبرصي على زواجهما والذي يعتبر الطفل المولود خارج إطار الزواج شرعياً إذا اعترف به الوالدان، وإنّه تمّ تقديم كافّة المستندات وإتمام فحص الـDNA الذي أثبت أنّ الطفلة هي ابنتهما وبعد أن أبدت دائرة نفوس حمّانا رأيها باعتبار أنّ لا مانع من تسجيل الطفلة على إسم والديها كطفلة شرعية تبعاً لعقد الزواج القبرصي، وكون طائفة الطرفين لا تعترف بزواجهما، صدر قرار عن القاضي المنفرد اعتبر فيه أنّ تسجيل الطفلة من صلاحيته لكن اعتبارها شرعية يخرج عن نطاق صلاحيته وتمّ تكليفها بمراجعة الغرفة الإبتدائية بالنسبة لاعتبار الطفلة مولودة شرعية أم لا قبل البت بموضوع التسجيل.
وأدليا:
– بانعقاد صلاحية هذه المحكمة للبت بشرعية بنوة طفلة سنداً للمادتين 79 و90 أ.م.م. والمادة 25 من القرار 60 ل.ر. الصادر عام 1936 وان طائفة الزوج الدرزي في الحالة الحاضرة لا تقبل لا بالزواج المختلط ولا بشكل الزواج المدني، كما أن طائفة الزوجة الشيعية تمنع الزواج بين الشيعة والدروز.
– بوجوب اعتبار الطفلة شرعية وتطبيق قانون العائلة القبرصي الذي نصّت المادة 13 منه في فصل حقوق الطفل، على أنه في حالة الإعتراف الطوعي بالأبوة أو الإعتراف بالأبوة بإعلان قضائي يكتسب الطفل بأثر رجعي منذ يوم ولادته الوضع القانوني للطفل المولود في الزواج وحقوقه في ما يتعلق بوالديه وقرابتهما، وانهما معترفان بطفلتهما، وطلبا قبول الإستدعاء شكلاً لانعقاد صلاحية هذه المحكمة وقبوله أساساً وإصدار قرار يمكّن من تسجيل الطفلة كطفلة شرعية واكتساب كافّة حقوقها اتجاه والديها تطبيقاً لقانون العائلة القبرصي.
وأنّه بتاريخ 2025/3/6 قدّم المستدعيان لائحة تنفيذ قرار إعدادي صادر بتاريخ 2025/2/26.
بناءً عليه
حيث يتبين من أوراق الملف أنّ المستدعيين لبنانيان (درزي وشيعية) وقد رزقا بطفلة بتاريخ 2019/11/27 سمياها (…) ثمّ تزوجا زواجاً مدنياً في قبرص بتاريخ 2022/12/19 ويطلبان اعتبار الطفلة المذكورة ابنتهما الشرعية سنداً للمادة 13 من قانون العائلة القبرصي الفصل المتعلق بحقوق الطفل.
وحيث إنّ المادة 79 أ.م.م. تنص على أنّ “تختص المحاكم اللبنانية المدنية بالنظر في المنازعات الناشئة عن عقد الزواج الذي تم في بلد أجنبي بين لبنانيين أو بين لبناني وأجنبي بالشكل المدني المقرر في قانون ذلك البلد، وتراعى أحكام القوانين المتعلّقة باختصاص المحاكم الشرعية والدرزية اذا كان كلا الزوجين من الطوائف المحمدية وأحدهما على الأقل لبنانياً”.
وحيث عملاً بالمادة 16 المعدلة من قانون الأحوال الشخصية لطائفة الموحدين الدروز الصادر بتاريخ 1984/2/24 والتي نصّت على أنه ” لا يكون عقد الزواج صحيحاً إلاّ إذا أجراه شيخ العقل أو قاضي المذهب أو من أنابه عنه لإجرائه”.
وعملاً بالتقاليد الدرزية التي تطبقها المحاكم المذهبية الدرزية (بمقتضى المادتين 8 و 9 من قانون تنظيم القضاء الدرزي تاريخ 1960/9/5) والتي تمنع الزواج بين درزي وغير درزي، يكون عقد الزواج المدني المذكور غير معترف به من قبل المحكمة المذهبية الدرزية، وبالتالي يكون نظر المحكمة اللبنانية المدنية في النزاعات الناشئة عنه متوافقاً مع الشق الأول من المادة 79 أ.م.م. وغير متعارض مع واجب مراعاة اختصاص المحاكم الدرزية المنصوص عليه في الشّق الثاني من المادة عينها طالما القانون والتقاليد التي تطبقها هذه المحاكم لا تعترف بالزواج المدني كما أسلفنا، مع الإشارة إلى أنّ الإٍستدعاء الحاضر يعدّ من الدعاوى الناشئة عن الزواج المدني كونه يستند إلى هذا الزواج توصلاً لتشريع الطفلة المولودة قبل عقده.
وحيث إذا كان طلب تسجيل المولود في سجلات النفوس يعد من دعاوى النفوس التي يختص بها القاضي المنفرد عملاً بالمادة 86/2 أ.م.م. فإنّ طلب اثبات النسب الشرعي لا يندرج ضمن دعاوى النفوس ولا ضمن أي من الدعاوى التي أعطي القاضي المنفرد قانوناً اختصاص النظر فيها. وبالتالي تكون الغرفة الإبتدائية – باعتبارها المحكمة العادية ذات الإختصاص العام في القضايا المدنية والتجارية عملاً بالمادة 90 أ.م.م.- هي المختصة للنظر في الإستدعاء الحاضر ويقتضي بالتالي حفظ اختصاص هذه المحكمة لرؤية الطلب موضوع الإستدعاء.
وحيث في ظل عدم اعتراف نظام الأحوال الشخصية الذي يتبع له الزوج بشكل ومفاعيل الزواج المدني يكون هذا الزواج خاضعاً للقانون المدني.
وحيث في ظل غياب قانون مدني لبناني يرعى مسألة البنوة الشرعية يقتضي تطبيق القانون المدني القبرصي باعتباره القانون الذي اتجهت إليه إرادة الفريقين، والذي عقد زواجهما في ظلّه، إلى الخضوع لأحكامه.
وحيث يتبين من المادة 13 من القانون القبرصي الرقم 91/187 (المبرزة صورتها في الملف) أنّها تنص في فقرتها الأولى “أنّ الطفل الذي ولد دون زواج والديه يكتسب بأثر رجعي منذ لحظة ولادته الحالة القانونية وحقوق الطفل المولود من زواج بين والديه بالنسبة للوالدين وأقاربهم إذا تزوج الوالدان في وقت لاحق من بعضهما البعض وكان الطفل قد تمّ الإعتراف به أو سيتم الإعتراف به بعد الزواج طوعاً أو قضائياً كابن للزوج…”
وحيث ثبت من فحص الحمض النووي DNA المجرى بتاريخ 2024/7/31 أنّ المستدعيين هما الوالدان البيولوجيان للطفلة (…).
وحيث من الثابت بموجب الإستدعاء الحاضر إعتراف المستدعيين بطفلتهما المذكورة.
وحيث يقتضي استناداً لما تقدّم اعتبار الطفلة (…) ابنة شرعية للمستدعيين.
لذلك
تقرر بالإجماع:
أولاً: حفظ اختصاص هذه المحكمة للنظر بالإستدعاء الحاضر.
ثانياً: اعتبار الطفلة “…” المولودة في بيروت بتاريخ 27\11\2019 ابنة شرعية للمستدعيين (…).
ثالثاً: إبقاء النفقات على عاتق من عجلها.
بعبدا في 2025/3/13.
“محكمة” – الجمعة في 2025/7/4
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمنشورات والمكتبات الحقوقية وغير الحقوقية منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر أو النصّ، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)،
كما يمنع نشر وتصوير أيّ خبر أو نصّ بطريقة الـ”screenshot” وتبادله عبر مواقع التواصل الإجتماعي وتحديدًا منها “الفايسبوك”، و”الواتساب”، و”اكس”، و”الإنستغرام”، و”التلغرام”، ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر.
ويحظّر إجراء أيّ تعديل أو تحريف في النصوص وخصوصًا تلك المتعلّقة بالأحكام والقرارات القضائية، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!
مجلة محكمة
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.