مقالات

كلمة نقيب المحامين فادي مصري في حفل تكريم النقيب الراحل ريمون شديد:ذكريات شخصية وصفات مهنية ومؤهلات نقابية

فادي خليل مصري(نقيب المحامين في بيروت):
الحضور الكريم،
عندما فاتحني صديقي وزميلي الياس ريمون شديد بفكرة تراوده منذ مدة وهي تكريم ذكرى والده النقيب الراحل ريمون شديد مضيفاً انه يتمنى ان يحصل ذلك في رحاب نقابة المحامين وخلال ولايتي كنقيب، رحبّت بالفكرة وأجبته دون تردد أن المكان الطبيعي لتكريم أحد كبار النقابة هو في دارها وأنه يشرفني ان أكون النقيب الذي يشرف على إقامة هذا الحفل ويدعو إليه.
عرفت ريمون شديد قبل ان أكون محامياً وذلك من خلال صداقة جمعته بوالدي بدأت بعلاقة مهنية ثم تطوّرت إلى علاقة شخصية متينة وإعجاب متبادل.
وعندما انتسبت إلى نقابة المحامين وبدأت مزاولة المهنة متدرّجاً في مكتب الأستاذ فادي زيادة، صرت اسمع عن الأستاذ شديد حينذاك كمحامٍ ناجح ومهني مميّز وصاحب مكتب يمثّل شركات كبيرة ومؤسسات هامة وخاصة من خلال ما كان يخبره العديد من الزملاء الذين كنت ألتقيهم ومنهم النائب الراحل كميل زياده شقيق مدرجي والأستاذ رينيه ابي راشد اللذان تدرجا في مكتب واحد معه.
وقد لفتتني علاقته الطويلة والعميقة بمدرجه- وشريكه في المكتب فيما بعد- المحامي الكبير فارس الزغبي وتأثّره بثقافته الواسعة وهو الرجل الذي آمن بلبنان وطناً للإنسان ولحوار الحضارات قبل ان تُطلق هذه الشعارات وتتعمم.
وعندما انتخب فقيدنا الكبير نقيباً للمحامين، كنت في سنتي التاسعة في المهنة فتابعته عن بُعْد متألقاً في كل شيء وأميناً على كل شيء. وتعمقت علاقتنا في ما بعد وتطورت بفضل صداقة متينة ربطتني منذ حوالي 20 عاماً مع نجله الزميل الياس الذي أكن له ولشقيقته زميلتنا زينة محبة موروثة من الأبوين الحبيبين، مع عمق الإحترام والتقدير بطبيعة الحال لقرينة النقيب شديد السيدة سوزان كرم وكريمتيهما ندى وريما.
ومن الذكريات التي لا يمكن ان أنساها، يوم اتصلت به في ربيع سنة 2020 لأستأنس برأيه واحظى بدعمه بخصوص ترشحي لمركز عضو مجلس نقابة المحامين- وكان من غير المستحسن وشبه ممنوع حينذاك القيام بالزيارات بسبب وباء كورونا الذي كان يفتك في تلك السنة المشؤومة بالبشر عشوائياً دون تمييز أو رحمة- حيث أجابني عفوياً: “إبن خليل، إبن خيي، بكفي تكون واصل لنص بيّك … روح الله يوفقك”. واكتفيت حينها بهذا القدر لأن الشهادة البليغة فاقت الدعم المطلوب والتأثّر غلب على أي موقف أو كلام آخر.
والحادثة الثانية حصلت في بلدته الحبيبة حمانا في صيف سنة 2021، وكنت برفقة صديقي العزيز زميلنا حبيب رزق، حيث التقيت بالنقيب شديد صدفة يمشي متأبطاً ذراع زوجته سوزان في أحد الشوارع العتيقة قرب منزله العائلي الصيفي حيث قال لي في ختام لقائنا القصير والأخير: ” خليك مع الياس مثل الأخوة. يا لطيف شو بحبك!”
وكان ان اشتد عليه المرض بعدذاك وأتت تلك الساعة … وفي الوداع الأخير في حمانا، بتاريخ 13 آب 2022، قدّر لي ان أحمل نعشه، في تقليدٍ نقابي عزيز، إلى جانب النقيب وزملائي أعضاء مجلس النقابة من كنيسة مار رومانوس إلى مثواه الأخير.
بالعودة إلى ريمون شديد النقيب، فقد تبوأ سدة المســؤولية في نهاية سنة 2001 في فترة شديدة الدقة والحساسية. ذلك أن سنة 2000 شكلّت عاماً مفصليأً شهد انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان وبدء المطالبة الجدّية بانسحاب الجيش السوري والإنتخابات النيابية التي أنتج نواة معارضة نيابية واكبها لاحقاً لقاء “قرنة شهوان” بمبادرة ودعم وتوجيهات البطريرك الكيير واب الإستقلال الثاني مار نصرالله بطرس صفير.
في هذا الجو الواعد، ولكن المحفوف بالأخطار، عمل ريمون شديد على تطوير النقابة وعصرنتها، وهو الآتٍ من صلب المهنة، وانكب أيضاً على تمتين علاقات النقابة الدولية وتوسيعها، من دون ان يغفل عن مواكبة الجو التحرري الناشئ فكان نقابياً بامتياز وسيادياً بامتياز ووطنياً صاحب الموقف الشجاع وإنسانياً قبل كل شيء.
وكم مرة اخبرني الزميل العزيز فادي بويز كيف جنّد النقيب شديد نفسه شخصياً لجمع التبرعات لإنقاذ حياة زميلنا الأستاذ طوني الندّاف إلا أن الموت خطفه بسرعة قبل خضوعه للعملية الجراحية التي كان من المفترض ان تنقذ حياته.
كما يقتضي التنويه ان اعمال انجاز هذا الصرح الذي يجمعنا اليوم لتكريمه تمت في ولايته وقد افتتحه بتاريخ الأول من تموز 2003 بحضور رئيس الجمهورية آنذاك العماد اميل لحود.
واستذكارنا لمزايا النقيب الراحل يدفعنا إلى استخلاص مواصفات نقيب المحامين كما كان يجسّدها النقيب الراحل.
أولى هذه الخصائل أن يكون النقيب محامياً مارس المهنة يعرفها ويدرك حاجاتها وتحدياتها متسلحاً بالعلم ومواكبة التطوّر الدائم.
وثانيها، ان يكون قيادياً بحق؛ فالصفات القيادية عندما تكون غير متوفرة تصبح النقابة من دون رأس.
وثالثها، قربه من المحامين قرب من دون تكلّف وتصنّع ولكن أيضاً دون رفع كلفة مبالغ فيها.
ورابعها، ان يكون النقيب مستقلاً بحق، مقتنعاً باستقلاليته، لا يدين بشيء لأحد خارج الجمعية العامة للمحامين وان كان مديناً أن يمنّ الله عليه بنعمة النسيان ونكران الجميل.
أما الصفة الخامسة، فهي مجموعة خصال اضعها تحت عنوان كبير هو الحكمة: النقيب الحكيم، صاحب الرؤيا الواضحة المتسم بالموضوعية والتجرد ونسيان الذات والتنكر للأهواء والدوس على الأحقاد وبعض الجحود تجاه الحلفاء والأصدقاء وإبعاد الطموحات الشخصية المستقبلية عن المركز الحالي والعمل بجهد وعلم وصدق ونزاهة وتجرّد دون كلل أو ملل، وان يواجه بالحق دون خوف أو يأس أو تردد مؤمناً بانه إذا كان لدولة الباطل ساعة فإن دولة الحق إلى قيام الساعة.
زملائي الأحباء،
إن حفاظنا على نقابتنا، على تراثها وقيّمها وتمسكنا برسالتها الحقوقية والإنسانية واقتناعنا بدورنا الوطني الفريد وبتميّزنا عن الجميع ووعينا لأهمية المعايير الموضوعة أعلاه وحسن الإختيار بناء على ما يخدم المصلحة العليا، هو الضمان لإستمرار نقابتنا وديمومتها وعزتها وريادتها وهو أيضاً التكريم الأكبر والأجدى للنقيب ريمون شديد ولرفاقه النقباء الراحلين ولكبارنا الذين سبقونا على دروب المهنة والنقابة والوطن الحبيب.
دمتم.
دامت نقابتنا.
عاش لبنان.
* ألقى نقيب المحامين في بيروت فادي مصري هذه الكلمة في حفل تأبين نقيب المحامين سابقاً المرحوم ريمون شديد، والذي أقامته النقابة في ” بيت المحامي” في 3 تموز 2025 بحضور حشد سياسي واجتماعي وقضائي وحقوقي ومحامين وفاعليات.
“محكمة” – السبت في 2025/7/5

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!
مجلة محكمة
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.