مقالات

ليتني كنتُ جاهلًا/أنطونيو الهاشم

أنطونيو الهاشم (نقيب المحامين سابقاً):
ليتني كنتُ جاهلًا!
ليتني ما عرفتُ شيئًا عن هذا العالم، ولا قرأت كتابًا، ولا فهمتُ معنى العدالة، ولا عرفتُ ما هو القهر!
ليتني كنتُ أمشي في الطرقات خفيفًا، لا يعنيني من سُحق، ولا من جاع، ولا من احترق في لعبة الأمم.
ليتني كنتُ من أولئك الذين لا تُوقظهم الأخبار، ولا تجرحهم المجازر، ولا يُزعجهم سقوط وطن، أو انهيار فكرة، أو موت حلم.
من قال إن الفكر نعمة؟ ومن سوّق للمعرفة كأنّها باب إلى الخلاص؟
أنا لم أجد فيها إلا وجعًا ثقيلًا، يقضّ مضجعي كلما قرأتُ عن شعب يُباد، أو عن طاغية يُصفّق له جمهورُه، أو عن وطنٍ يُباع على مراحل.
كم أشتهي لحظة بلادة!
لحظة لا أفهم فيها شيئًا ممّا يجري!
أجلس فيها أمام التلفاز، أضحك على برنامج تافه، وأتناول وجبتي كأن لا دماء تُراق في الخليقة.
ليتني لم أتعلّم معنى “القيم”
ليتني لم أفهم ما هي الكرامة، ولا العدالة، ولا الحرية.
ليتني لم أعرف أن الإنسان يمكن أن يُسحق في وطنه، ويُصفّق لذلك السحق.
الجاهل لا يسهر الليل قلقًا على مصير العالم.
الجاهل لا يقرأ التاريخ فيرتعب من تكراره.
الجاهل لا يشعر بجوع الأطفال ، ولا صراخ الأمهات ، ولا أنين المهاجرين على سواحل التيه.
الجاهل لا يُدرك أن البشرية تُعيد أخطاءها كل يوم، بأشكال أنيقة وخطابات باهتة.
أما المثقف الحر ، فيموت كل ليلة.
يموت عندما يرى النور يُطفأ في العيون، والحق يُذبح، والحقيقة تُباع بأبخس الأثمان.
أشتاق إلى غفلة البسطاء.
أشتاق إلى من لا يطرحون الأسئلة، ولا يتعذبون بالأجوبة.
أشتاق إلى من لا تلسعهم الكلمات، ولا يخنقهم الصمت.
كم أتمنى لو كنتُ منهم، عابرًا بين يومين، لا أعرف من الحياة إلا قوتي، ولا أطلب منها إلا فراشًا دافئًا ونومًا بلا كوابيس.
لكن هيهات…
من تذوّق الوعي لا يعود.
من قرأ، لا ينسى.
من عرف، لا يستطيع أن يُغمض عينيه دون أن يرى.
وها أنا ذا، أدفع ثمن المعرفة في كل سطر،
أحمل لعناتها في ذاكرتي، وأمشي بها كمن يحمل جراحه كوسام لا يستطيع التخلّي عنه.
ليتني كنتُ جاهلًا،
فقد يكون الجهل، في هذا الزمن، هو أعلى درجات النجاة.
بالرغم من كل ذلك شكراً يا الله ليقظة ضميري وإنْ أتعبني الوعي.
“محكمة” – الاثنين في 2025/6/16

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!
مجلة محكمة
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.