مقالات

أولى كتاباتي: عرفان بالجميل لقامتين مهنيتين.. عبد السلام شعيب وعصام كرم/جاد طعمه

المحامي الدكتور جاد طعمه:
باكورة ما سأسطّره بعد نيل شهادة الدكتوراه في القانون من الجامعة اللبنانية بتقدير جيّد جدّاً، لن يكون بحثاً علمياً أو دراسةً قانونية، بل سيكون إقراراً بوجود أصحاب فضل لما وصلت إليه من مرتبة أكاديمية ضمن مشوار صعب وعناد اقترن بتحدّي الذات.
هناك شخصيتان مهنيتان غادرتانا وقد لعبتا دوراً محورياً في مسيرة حياتي المهنية والأكاديمية، ولا يسعني اليوم إلا أن أذكرهما من باب الوفاء والعرفان بالجميل لأنّهما قامتان من الطراز النادر.
الشكر الأوّل، أوّجهه لروح المحامي الدكتور عبد السلام شعيب، الذي لطالما شحن نفسي بالمعنويات منذ إبلاغه قراري بخوض غمار متابعة الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية، فكان مُشرفاً على رسالة الماجستير ومن ثمّ وحتّى اللحظات الأخيرة على أطروحة الدكتوراه. لولا مؤازرة الدكتور شعيب لي في أيّام الإحباط التي لا بدّ وأن يمرّ بها أيّ طالب لكنت وبصدق، رفعت الرايات البيضاء متحجّجاً بالمسؤوليات العديدة التي تبرّر الإستسلام.
الدكتور شعيب ظلّ عطاؤه العلمي متدفقاً لإفادة الجميع وبمحبّة صادقة اقترنت بإنكار تام للذات حتّى اللحظات الأخيرة من حياته، مثابراً على الحضور إلى مكتبه في عزّ أيّام المرض الخبيث حُبّاً بالعلم وبطلّابه، وأيضاً بمهنة المحاماة والجامعة اللبنانية.
خبر رحيله فاجأنا جميعاً وكان درساً جديداً لنتعلّم منه مرّة من جديد كيف يتجاسر الكبار على الأوجاع. قلّة من دكاترة الجامعات يجسّدون بأدائهم اليومي وعطائهم غير المحدود إنعكاساً لما يجب أن تحمله نفوس أهل العلم من حرصٍ على متابعة الطلاب بشغف ودون إهمال.
أمّا الشكر الثاني، فأوجّهه لروح النقيب المحامي عصام كرم، وهو الشخص الذي لا زلت أفتقده بشدّة رغم مرور أيام طوال على رحيله. كان النقيب كرم خير جليس وخير أنيس لأنّه كان موسوعة كتب متنقّلة، كنت أزوره في مكتبه بشكل شبه يومي زهاء مدّة عامين لأحصل على تدّرج جديد في مهنة المحاماة، لكنّني أعترف بأنّني لم أرتوِ من نبع علومه وثقافته العامة.
شخصية النقيب عصام كرم كانت تتضمّن مناهج حول أصول التعاطي برفعة وأخلاق وبكيفية نُصرة الحقّ بأدب وحزم وفيها مُجّلدات من إستخلاص العبر الإنسانية نتيجة الأحداث التاريخية.
كان النقيب كرم يمتلك أسرار رفعة الإنسان وسمّوه فوق صغائر الأمور، كان يُدرك كيف يكون الإنسان نبيلاً ونزيهاً. زوّار النقيب كرم خلال عامين من الزمن، يشهدون على الأوسمة التي زرعها على صدري وهو من لا يعرف التملّق ولا المحاباة، وكانت وصيته لي بأن أتمّيز دوماً “لأنّ إشعاع المعدن النفيس لا بدّ وأن يظهر عاجلاً أم آجلاً لكنّه سيكون أبهى وأكثر قيمة ان إنصهر بالتواضع”. حين كنت أشكو هموم الحياة أمامه، كان يُذكّرني بمضمون بيت من الشعر العربي الأصيل، مُردّداً “وليس على الإرادة من مستحيل …… ولكن نحن تنقصنا الإرادة”. هكذا علّمني أن أدّرب الإرادة الذاتية لتتمرّد على كلّ المستحيلات وحتّى لا أرضى بما دون النجوم.
كان النقيب كرم نموذجاً يُحتذى، وهو من تعّرض لحادثة أدّت لإصابته بكسر في وركه قبل عام من رحيله، واستطاع، وهو الطاعن في السن، أن يتجاسر على الأوجاع ليعود ويمشي بكلّ عنفوان، لا بل ويصعد وحيداً درج مكتبه عند انقطاع الكهرباء بعد تماثله للشفاء، وحرص على حضور خلوة جرت دعوته إليها حُبّاً بنقابته قبل يومين من وفاته.
فرحتي بما حقّقت كانت تنقص أن أضع عيناي في عيون هاتين القامتين لأشعر بالرضا ولأقول لهما أنّني نهلت علوم الحياة منهما، كما أدبيات مواجهة الصعاب، وهما وإن غابا جسداً لكنّهما يحضران روحاً في كثير من تفاصيل تصرّفات وأداء أشخاص تتلمذوا على يديهما، وكان لي كلّ الفخر بأن أكون أحد هؤلاء التلاميذ.
الإنجاز الأكاديمي المحقّق أهديه لروحهما، وأينما كانا اليوم، فهما في رعاية ربّ قدّوس، رحمن ورحيم ولتكن ذكراهما دائمة.
“محكمة” – الأحد في 2022/10/23

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!