مشروع قانون إستقلالية القضاء في لبنان: تقدّم جزئي وخطوة ناقصة/رامي شاهين

المحامي رامي شاهين:
أقرت الحكومة اللبنانية مؤخراً مشروع قانون “تنظيم القضاء العدلي” الذي يُروّج له كخطوة أولى في مسار إصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته، بعد سنوات من الشلل القضائي والتدخلات السياسية الفجّة.
وقد تضمّن المشروع سلسلة من التعديلات البنيوية تتعلق بتأليف مجلس القضاء الأعلى، تنظيم التشكيلات القضائية، استقلالية القاضي، حرية التعبير، والتقييم القضائي. ورغم أن المشروع يُعتبر تقدمًا ملحوظًا مقارنةً بالقوانين السابقة، إلا أن قراءته النقدية تظهر استمرار خلل بنيوي يُبقي على القضاء رهينة للسلطة السياسية، ما يُقلّص من فرص تحقيق استقلال فعلي وفاعل.
أبرز ايجابيات المشروع
1. جزئية الانتخاب في مجلس القضاء الأعلى: استُبدل التعيين الكامل للأعضاء من مجلس الوزراء بآلية انتخاب، مع الإبقاء على الأعضاء الحكميين المعيّنين من قبل السلطة السياسية كالرئيس الأول لمحكمة التمييز (رئيسًا)، النائب العام لدى محكمة التمييز (نائبًا للرئيس)، رئيس هيئة التفتيش القضائي (عضوًا). الأمر الذي يُعدّ تحسّنًا نسبيًا نحو ديمقراطية قضائية داخلية بنّاءة.
2. نقل التشكيلات القضائية من قبضة السلطة السياسية: لأول مرة، يصبح قرار التشكيلات القضائية نافذًا حتى لو لم يوقّع من قبل الوزراء المعنيين وذلك خلال مهلة شهر من تاريخ ورود المشروع إلى ديوان وزارة العدل، ما يقلّص قدرة السلطة التنفيذية على عرقلتها.
3. تحصين القاضي في مركزه: اعتماد قاعدة الثبات لخمس سنوات ومنع النقل التعسفي، مع تحديد أسباب النقل الاستثنائي، يعزّز من حماية استقلالية القاضي.
4. حرية تعبير القضاة: بعد جدل طويل حول الظهور الإعلامي للقضاة وإحالة بعض القضاة إلى المجلس التأديبي من قبل وزير العدل السابق (هنري الخوري) بصورة تعسفية، أتاح المشروع الجديد لهم حق الظهور دون إذن مسبق، مع الالتزام بالحفاظ على هيبة وحياد القضاء. ويُلزم القاضي بإبلاغ رئيس مجلس القضاء الأعلى قبل 48 ساعة، ويُمنع عليه الانخراط في العمل السياسي أو جمعيات تخالف حقوق الإنسان. الأمر الذي يُعدّ خطوة في الاتجاه الصحيح بعد سنوات من الكبت المُغرض.
5. اعتماد معايير موضوعية للتشكيلات والتقييم: إقرار معايير مثل الكفاءة، الإنتاجية، والأقدمية يُعدّ تقدّمًا نحو الشفافية. ويحظر إجراء أي تمييز خلال التشكيلات على أساس العنصر، الجنس، الدين أو المذهب.
مكمن الخلل والانتقادات الجوهرية
1. استمرار نفوذ وزير العدل ومجلس الوزراء
رغم إدخال عنصر الانتخاب في تأليف مجلس القضاء الأعلى، لا تزال سلطة التعيين لعدد من أعضائه بيد وزير العدل ومجلس الوزراء. كما أن التعيينات تظل خاضعة للمسار التنفيذي، إذ يُعيّن العضو بناء على لائحة يرفعها المجلس، ولكن القرار النهائي يبقى للسلطة السياسية.
2. طبيعة مجلس القضاء الأعلى القانونية غير المستقلة
لا يزال المجلس يُعامَل كمرفق عام على مبدأ التبعية، وليس كسلطة دستورية مستقلة ما يترك ثغرات في إمكانية محاسبة السلطة القضائية نفسها.
3. عدم تخصيص موازنة مستقلة للسلطة القضائية
المشروع أغفل عنصرًا جوهريًا من عناصر الاستقلال: الاستقلال المالي إذ لا يزال القضاء يعتمد على موازنات تُحددها وتصرفها وزارة العدل، مما يُضعف قدرته على تسيير شؤونه الإدارية بحرية، ويُبقيه تحت رحمة السياسة والتمويل الانتقائي.
4. آلية التقييم قد تُستخدم كأداة ضغط
رغم أهمية تقييم القضاة، فإن آلية التقييم التي تعتمد على لجنة لم تفصل بشكل واضح استقلاليتها، قد تفتح الباب أمام استخدام نتائج التقييم كأداة تأديبية غير موضوعية في بعض السياقات.
5. قيد زمني على حرية التعبير للقاضي
السماح للقاضي بالظهور الإعلامي مشروط بإجراء مسبق وهو ابلاغ رئيس مجلس القضاء الأعلى، مما يُقيد حرية التعبير عمليًا ويُبقي سيف الرقابة مُسلّطًا.
ما الذي يجب تحسينه؟ توصيات إصلاحية
في سبيل تعزيز استقلالية القضاء، يجب أولاً الفصل الكامل بين السلطة السياسية (مجلس الوزراء) ومجلس القضاء الأعلى، وذلك عبر إلغاء صلاحيات وزير العدل في التعيينات القضائية، وتحويل هذه العملية بالكامل إلى الجسم القضائي من خلال آلية انتخابية ديمقراطية وشفافة. كما ينبغي إقرار موازنة مستقلة للسلطة القضائية، يُنصّ عليها القانون صراحةً، على أن تُعدّ وتُنفّذ من قبل مجلس القضاء الأعلى أو هيئة مالية قضائية مستقلة، وتخضع فقط لرقابة ديوان المحاسبة دون تدخل من كلّ من وزارتي العدل و/أو المالية.
كذلك، يتوجب تحويل مجلس القضاء الأعلى إلى هيئة دستورية مستقلة من خلال تعديل دستوري أو قانوني يكرّس طبيعة هذا المجلس كسلطة قائمة بذاتها وليست تابعة إداريًا لأي وزارة. ولضمان عدالة التقييم، ينبغي تأمين استقلال لجنة تقييم القضاة عبر تحديد تركيبتها بشكل يمنع التدخلات السياسية أو الإدارية، مع نشر معايير التقييم بشكل علني يعزز الشفافية والمساءلة.
وأخيرًا، يجب رفع القيود المفروضة على حرية التعبير لدى القضاة، والاكتفاء بالضوابط المهنية العامة دون فرض شرط الإذن المسبق أو الإبلاغ.
وفي الختام، لا شك أن مشروع قانون تنظيم القضاء العدلي يتضمن عناصر إيجابية يُمكن البناء عليها، وهو يُمثل تطورًا شكليًا مقارنة بالجمود السابق. لكنه، في جوهره، يُكرّس استقلالًا محدودًا ويُبقي على أدوات السيطرة في يد السلطة السياسية. الاستقلال الحقيقي لا يقتصر على تنظيم المناقلات والتعيينات، بل يتطلب بالدرجة الأولى تحرير مجلس القضاء الأعلى من أي نفوذ سياسي، وتأمين الاستقلال المالي الكامل، وحماية الحريات القضائية من الرقابة المبطنة.
وإذا لم تُؤخذ هذه التوصيات بعين الاعتبار، فإن ما يُسمى “الإصلاح القضائي” سيبقى مجرد عنوان وشعار يستخدم في المؤتمرات الصحافية والندوات ولا يُطبَّق على ارض الواقع.
“محكمة” – الخميس في 2025/5/15