موظفون بلا دوام.. وفائض بلا عمل.. نزيف المال العام بين التغاضي والتواطؤ/عاطف منصور
المحامي عاطف حسن منصور:
في كل مرة تهتز البلاد على وقع فضيحة إدارية، نسمع عن موظفين أشباح يتقاضون رواتبهم منذ عشرات السنين دون أن تطأ أقدامهم مكاتب الإدارات أو المؤسسات التي يفترض أنهم يعملون فيها.
تثار الضجة وتتحرك اللجان وتنصب الكاميرات وكأن شيئاً لم يكن!؟ يمر عهد ويأتي آخر وتبقى القاعدة الواحدة الثابتة ستصلح الأمور لاحقاً، لكن لاحقاً لم تأتِ منذ عقود.
بات من الواضح أننا أمام نمط من الفساد المقنن، يضرب هيكل الدولة في عمقه لا سيما في الوظيفة العامة حيث يتقاضى الالآف رواتبهم من المال العام دون أي إنتاج فعلي في وزارات ومؤسسات ومصالح مستقلة وبلديات وغيرها. وهؤلاء ليسوا إستثناءات فردية، بل ظاهرة متجذرة يشارك في ديمومتها السكوت الإداري والغطاء السياسي وحتى الحزبي وضعف أجهزة الرقابة.
لقد تحولت بعض المرافق إلى ما يشبه “صناديق معاشات سياسية” توزع فيها الرواتب كما توع المكرمات بلا مساءلة أو رقابة، في إنتهاك صارخ لأبسط مبادئ العدالة الإدارية والمساواة في تولي الوظائف العامة.
ولا أبالغ إن قلت إنّ المشرّع اللبناني لم يترك الأمر بلا ضوابط لمثل هذه الحالات، فالقانون واضح وصارم والمادة 11 من نظام الموظفين (المرسوم الاشتراعي رقم 1959/112) نصت على أن الموظف مكلف بواجبات وظيفته، وعليه أن يقوم بها بأمانة ودقة وأن يخصص أوقات العمل الرسمي لأداء مهامه. والمادة 14 من النظام نفسه تعتبر أن الغياب المتكرر دون مبرر مشروع يشكل خطأً جسيماً يستوجب العقوبة التأديبية التي قد تصل إلى الصرف من الخدمة. بدورها المادة 60 من قانون العقوبات اللبناني تعاقب على إختلاس الأموال العامة أو التزوير في جداول الرواتب بعقوبات جنائية تصل إلى الأشغال الشاقة المؤقتة أو الدائمة. ليس هذا فحسب بل أن ديوان المحاسبة بموجب المادة 87 من الدستور هو الجهة المختصة بمراقبة إنفاق المال العام وتدقيق الحسابات، وصلاحياته تبقى محصورة بتقارير لا تجد طريقها دائماً نحو التنفيذ للأسف.
وهنا يطرح السؤال التالي: كيف يمكن بعد ذلك أن يبقى في الملاك موظفون يتقاضون رواتب منذ عشرين أو ثلاثين عاماً دون حضور أو إنتاج، فيما الإدارات تئن من العجز ونقص الكفاءات؟
إنّ استمرار هذا النزيف المالي يشكل هدراً فادحاً للمال العام ويقوض ثقة المواطن بدولته، لأن ما يحصل هو نوع من السرقة المقوننة، إذ تستنزف الخزينة تحت غطاء شرعي شكلاً، لكنه باطل مضموناً لأن الراتب العام ليس منحة، بل هو مقابل خدمة فعلية وإنتاج. وهذا الواقع يؤدي إلى ترهل الإدارة وتفكّكها وتعطيل الإنتاجية العامة وضرب مبدأ تكافؤ الفرص بين العاملين المجتهدين والمتقاعسين وإضعاف الرقابة الإدارية والمالية وإشاعة منطق الحماية السياسية على حساب الكفاءة والمساءلة. ما يعني أنه لا يجوز أن يختزل الهدر في بعض الأرقام أو الأسماء، بل يجب النظر إليه كجريمة مكتملة الأركان.
إنّ سكوت الإدارات والوزارات المعنية وكل مسؤول في الدولة عن رفع الأسماء غير الفاعلة من جداول القبض، أو غض النظر عن الدوامات الشكلية، يشكل تواطؤاً صريحاً أو إهمالاً مقصوداً ومتعمداً يرقى في بعض الحالات إلى جرم جزائي.
وأنا هنا أطرح الأخطر:
أين هي أجهزة التفتيش المركزي وهيئة الرقابة الإدارية ومجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة من هذه المخالفات التي تحولت إلى عرف دائم؟
بالطبع نحن بحاجة إلى ثورة إصلاح لمعالجة هذه الآفة المزمنة من خلال إجراء مسح إداري شامل بإشراف هيئة مستقلة لحصر أسماء الموظفين الفعليين والمغيبين، وربط الحضور والإنتاجية بأنظمة إلكترونية موثقة وتفعيل التفتيش المركزي ومنحه صلاحيات فورية بالتحقيق والمساءلة الميدانية. وإحالة كل من يثبت تقاضيه راتباً دون عمل إلى القضاء المختص بتهمة إختلاس المال العام، ومراجعة الملاك الإداري في الوزارات والمؤسسات لإلغاء الوظائف الوهمية وتحديد حاجات كل إدارة فعلياً.
صفوة القول،
من العار أن تدار دولة بجيش من الموظفين الوهميين، وأن يكافأ الغياب كما يكافأ الحضور.
وطالما أن لبنان يتغنى بدولة القانون وفي صياغة التشريعات، فالأجدر به أن يطبق ما سنه وأن يحترم القواعد ومفاهيم العدالة.
إنّ الصمت على هذا الواقع لم يعد حياداً، بل صار شراكة في الجريمة. فلا إصلاح حقيقي من دون مساءلة، ولا دولة عادلة من دون إدارة نظيفة، ومن لا يحترم المال العام لا يستحق خدمة عامة، ومن يتغاضى عن الهدر هو شريك فيه ولو بصمته.
فلعلّها تكون صرخة تسمع قبل أن يصبح الوطن كله “موظفاً بلا دوام”
“محكمة” – السبت في 2025/10/18



