مقالات

ميشال إده:”فخامة” المرشّح الدائم

نقولا ناصيف:
في السنوات الاخيرة فاخر ميشال اده بأنه يقاوم ثلاثة سرطانات تنهش جسده. كان يتحدث عن هذا المرض العضال كأنه يتسلى، ويقلل من جدية فتكه، كأنه يغلب واحداً بعد آخر*.
هذا الرجل لم يحسب مرة حساباً للموت. حينما بلغ الثمانين قال انه لا يزال شاباً، وقليلة عليه مئة سنة. في التسعين، بمرح مماثل واستخفاف، عاود الكلام نفسه، الى ان ارغمه تعب جسده في الاشهر المنصرمة على ملازمة السرير والانقطاع عن استقبال احد.
انطفأ البارحة قبل ثلاثة اشهر من بلوغه الثانية والتسعين. ما بين عامي 2011 و2016، على فترات متقطعة، اتيح لي تسجيل ما يزيد على سبع ساعات في مسار سياسي في محاولة عبثية لاقناعه بتدوين مذكراته. بيد انه ارجأ القرار من غير ان يستبعده، ثم اثقل المرض الوطأة عليه. حجته في احجامه عن تدوين مذكّراته:”إما اكتب كل شيء او لا اكتب شيئاً. ثمة ما يقتضي ان لا يُكتب. فكرت في الامر مراراً ثم ترددت. اذا كتبت كل شيء سأتسبب في مشكلات لكثيرين.”
ينتمي اده الى ثلاثة اجيال سياسية قلما اتيحت لنظير له، كان لاعباً فيها بأدوار متفاوتة: الحقبة الشهابية مذ عرف عن قرب الرئيس فؤاد شهاب، حقبة الحرب اللبنانية التي طرحت اسمه للرئاسة مراراً، حقبة ما بعد اتفاق الطائف. اليه هو بالذات تُعزى فقرة في مسودة اتفاق الطائف قالت بحصر تفسير الدستور بالمجلس الدستوري، الا ان البرلمان شطبها وحصرها به.
كان يسره على الدوام التحدث عن نجاحاته المهنية مذ تخرج في كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف عام 1948 مع رفيقي عمره ودفعته الياس سركيس ورينه معوض، وهو اصغرهما. تدرج ومعوض بداية في مكتب الرئيس عبدالله اليافي قبل ان يذهب معوض الى مكتب حميد فرنجيه وهو الى مكتب كميل اده، وفي عام 1951 استقل بمكتب خاص به. اما سركيس فاختار الادارة في مصلحة السكك الحديد، قبل انتقاله الى سلك القضاء وتعيينه في ديوان المحاسبة. سركيس ومعوض صارا رئيسين للجمهورية. الاول قتله المرض من فرط ما انهكته الولاية، والثاني قتلته رئاسته ولم يكن امضى 17 يوماً فيها. يعقب ميشال اده: “كتر خير الله. بعدني طيّب. الحياة بتضحّك. غريبة؟”
كثيرة هي المرات التي يدق فيها على الخشب عندما يتحدث عن صحته وامانه الشخصي ونجاحاته. كذلك يفعل عندما يأتي على تقدمه في السن.
طُرح اسمه ثماني مرات مرشحاً جدياً للرئاسة: 1982، 1988، 1989 (مرتان)، 1998، 2007، وصولاً الى اقتراح اسمه مرتين عامي 2014 و2016 ابان الشغور الرئاسي كرئيس انتقالي لولاية قصيرة في سنتين، فرفض متسلحاً بحجتين: تقدمه في السن ورفضه ثلث ولاية رئيس. عارضت دمشق انتخابه ثلاث مرات، واسرائيل مرة واحدة. في كل مرة ينقضي الاستحقاق من دونه يتذكر العبارة التي قالها له الرئيس سركيس للمرة الاولى عام 1982 بعدما تيقن من انتخاب الرئيس بشير الجميل: “الرئاسة مرقت من تحت منخارك.”
المرة الاولى عُيّن وزيراً كانت عام 1966 وكان في مركز عمله في افريقيا. في المرة الثانية عام 1980 كان هناك ايضاً. المرة الثالثة عام 1992 والرابعة عام 1995. لم يشأ الترشح للانتخابات النيابية عام 1996 استجابة لطلب الرئيس رفيق الحريري، عندما عزم على خوضها. طلب منه الانضمام الى لائحته في بيروت دائرة واحدة، فاعتذر. استنجد الحريري بنائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام الذي خابر اده ودعاه الى غداء في دمشق في حضور الحريري.
للفور بادره خدام: «مبروك سلفاً».
سأله عما يقصد؟
ردّ: «انتخابات بيروت مع ابو بهاء. سنعطيك اصوات الاحباش والاكراد والمجنسين، ومن عندك اصوات الموارنة».
المرة الاولى زار دمشق كي يلتقي مسؤولاً سورياً كبيراً كان في عداد وفد وزاري ترأسه الحريري، لتوقيع اتفاقات بين البلدين، واده وزيراً للثقافة والتعليم العالي عام 1992. استقبل الرئيس حافظ الاسد الوفد اللبناني وعمل الحريري على تقديم الوزراء الى الاسد الذي قال لإده مصافحاً: «استاذ إده. انا سامع عنك».
بادره اده: «وانا كمان سامع عنك».
للتو انفجر الاسد والحريري بالضحك. مذذاك يكاد لا يمر سؤال عن سوريا يُسأل عنه حتى يستعيد هذه القصة ويسأل نفسه وهو يسردها: «لا ازال مستغرباً كيف اجبت الاسد انني سامع عنه. عجبك؟ منيح انها قضيت عند هذا الحد”.
على ان الرجل اشاد مراراً بالرئيس السوري الحالي بشار الاسد والتقى به مراراً. اشادته بالامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لا تقل اعجاباً وتقديراً، وكان نصرالله اهداه رشاشاً من صنع اسرائيلي غنمته المقاومة في احدى عملياتها ضد الجيش الاسرائيلي. فاخر بأنه سجل لقناة «المنار» 37 حلقة في تاريخ الصهيونية، لكنه يذكر تحذيره لنصرالله يوماً حينما التقاه عام 2011: “ما فعلته بإسرائيل (في التحرير وحرب تموز) لم يسبق ان حصل عند العرب. كسرت اسرائيل اكثر من مرة، لكن حذار التورط في الداخل. انت في الداخل شأنك شأن اي طرف لبناني آخر”.
يفاخر بثقافته الموسوعية في الصهيونية. يكاد لا يمر تاريخ عبرت به اسرائيل لا يشرّحه. على ان معرفته بالشيوعية لا تقل اهمية وغوصاً.
قال مقوّماً الشيوعية ثقافة ونظاماً انها فشلت في تطبيق الديموقراطية واطلاق الحريات واعتماد النظام الاقتصادي، لكنها نجحت في تعميم الثقافة والتعليم والفن، وهو انجازها الوحيد ربما: “دُعيت عام 1972 من جمعية الصداقة السوفياتية – اللبنانية لزيارة موسكو. كان معي النائب امين الجميل والوزير السابق شفيق الوزان ووفيق الطيبي. سبقنا الى هناك في زيارة مماثلة ابن عمي ريمون (اده) وكمال جنبلاط ورشيد كرامي وهاشم الحسيني. التقينا اعضاء في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي وخبراء.
احدهم تكلم فاعترضت واستشهدت بلينين وبالسياسة الاقتصادية الجديدة (N.E.P)، وقلت لهذا ان ما يذكره غير صحيح ويُحرّف مبادئ لينين. إحمرّ لونه وارتبك رفاقي. قال لي شفيق الوزان خائفاً: يا ميشال رح تروّحنا. قلت لمحدّثي الشيوعي: انتم عملاق سياسي وعملاق عسكري لكنكم طرح اقتصادي. اقول لكم اذا لم تُصوّبوا مساركم ستنهارون وتسقطون من تلقائكم. كان ذلك عام 1972. بعد 17 عاماً سقط النظام الشيوعي برمته عام 1989.”
لا يتزحزح اده عن الاعتقاد بأن لبنان صنعه الدروز قبل الموارنة، وكلاهما في اصل لبنان واساسه. من اجل ذلك عُيّن على الدوام نائباً لرئيس مؤسسة العرفان الدرزية، هو المسيحي الوحيد فيها. مرات عقدت اجتماعاتها في منزله في اليرزة. ذات يوم حدثه وليد جنبلاط اقرب ما يكون الى البوح بالفرنسية، اللغة التي كان كمال جنبلاط يتحدث مع اده فيها ايضاً: «ارتكبت اخطاء كثيرة لكنني لا استطيع الانفصال عن الموارنة ابداً. لبنان هم ونحن.”
ردّ اده: «لا. انتم ونحن.”
*نشر في جريدة الأخبار اليوم.
“محكمة” – الاثنين في 2019/11/4

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!