هل إنّ تضارب الإجتهاد في احتساب السنوات التمديدية يمسّ مبدأ المساواة بين المستأجرين؟/علاء بشير

القاضي علاء بشير:
تنص المادّة ٤ من قانون أصول المحاكمات المدنية على أنّه لا يجوز للقاضي تحت طائلة اعتباره مستنكفاً عن إحقاقّ الحقّ أن يمتنع عن الحكم بحجّة غموض النص أو انتفائه. وعند غموض النص يفسّره القاضي بالمعنى الّذي يُحدِث معه أثراً يكون متوافقاً مع الغرض منه ومؤمناً التناسق بينه وبين النصوص الأخرى، وعند انتفاء النص يعتمد القاضي المبادئ العامة والإنصاف والعرف.
يرشح عن المادّة المتقدّمة مسألتان في غاية الأهمية:
– الأولى أنّها تفترض ضمنياً أن يواجه القاضي، لدى إعطاء حكمه في النزاع المعروض أمامه، حالة وجود نصّ قانوني غامض، فأعطته صلاحية تفسيره بالمعنى الذي يكون متوافقاً مع الغرض منه شرط تأمين التناسق بينه وبين النصوص القانونية الأخرى، وكذلك حالة عدم وجود نص قانوني يعالج حالة النزاع المعروضة أمامه بحيثُ أجازت له إعتماد المبادئ العامّة والإنصاف والعرف.
– الثانية هي أنّها أعطت القاضي صلاحية تفسير النص عند غموضه، وصلاحية إجتراح الحل القانوني عند انتفاء النص، وذلك تحت طائلة إعتباره مستنكفاً عن إحقاق الحق، مؤكّدة في ذلك على دور الإجتهاد في حل النزاعات القضائية بصفته مصدراً أساسياً من مصادر القانون.
ولكن إذا كانت هذه الصلاحية معطاة للقاضي في تفسير النص الغامض وفي اجتراح الحلّ في حالة النصّ المنتفي، فإنّ ذلك من شأنه أن يخلق إختلافاً في التفاسير وفي الحلول التي تُعطى للنزاعات المماثلة باختلاف القضاة الذين ينظرون بها. فالتفسير الذي يعطيه قاضٍ لنصّ قانوني غامض قد يختلف عن التفسير الّذي يعطيه له قاضٍ آخر، وكذلك الأمر بالنسبة لمبادئ الإنصاف الّتي قد تختلف في تقديرها بين قاضٍ وآخر.
من هنا، يُطرح التساؤل عمّا إذا كان من شأن هذا الإختلاف أن يُشكّل مساساً بمبدأ المساواة بين المتقاضين، بحيثُ إنّ الحل الّذي يُعطى لنزاع أحدهم يختلف عن الحل الّذي يُعطي لنزاع الآخر، في حين أن النزاعيْن يتطابقان تماماً لجهة طبيعة وموضوع كل منهما.
تُثار هذه المسألة في الوقت الحالي بالنسبة لتطبيق قانون الإيجارات الجديد الصادر بتاريخ 2014/5/9، وتعديله الحاصل بموجب القانون رقم ٢ تاريخ 2017/2/28، حيثُ نصّ القانون المذكور على سنوات تمديدية يستفيد منها المستأجر (وعددها تسع سنوات إذا كان غير مستفيد من صندوق المساعدات الخاص بالمستأجرين و١٢ سنة إذا كان من عداد المستفيدين) يُصبح بعضها الإيجار حرّاً ويتحرّر بالتالي المأجور من قيْد التمديد القانوني الحكمي. ففي حين تقضي بعض محاكم الإيجارات بأنّ السنوات التمديدية تبدأ من تاريخ نفاذ القانون الصادر بتاريخ 2014/5/9، أي من تاريخ 2014/12/28، تقضي محاكم أخرى بأنّ السنوات التمديدية تبدأ من تاريخ نفاذ القانون رقم ٢ الصادر بتاريخ 2017/2/18، وطبعاً لكلّ منهما تعليله القانوني السليم الّذي يستند إليه لتبرير وجهته.
هذا الأمر، دفع البعض إلى القول بأنّ وجود إختلاف بين المحاكم لناحية تفسير القوانين وتطبيقها يجعل المساواة والعدالة منتفية بين المستأجرين، إذ في حين قد تقضي محكمة ببدء السنوات التمديدية من تاريخ نفاذ القانون بتاريخ 2014/5/9، يُمكن أن تُعرض نفس الحالة القانونية أمام محكمة أخرى وتحكم ببدء السنوات التمديدية من تاريخ نفاذ القانون الصادر بتاريخ 2017/2/28، بحيث يكون المستأجر في الحالة الأولى ملزماً بإخلاء المأجور ضمن فترة أقل بثلاث سنوات من المستأجر في الحالة الثانية الذي يستفيد من التمديد لمدّة ثلاث سنوات إضافية، في حين أنّ كل منهما في وضعية قانونية مطابقة تماماً للآخر.
إنّ المنطق المتقدّم قد يبدو صحيحاً للوهلة الأولى، إلّا أنّ التدقيق به يُظهر أنّ القائل به قد رقع في مغالطة ” الإلتقاطية” وهي المغالطة المعروفة في علم المنطق بـ ” مغالطة إنتقاء الكرز” أو “Cherry Picking Fallacy” ، ذلك أنّ النزاع القضائي يفترض وجود طرفيْن، مدّعى ومدّعى عليه. وإذا كان الأخذ بتفسير معيّن للنص القانوني يمسّ بمبدأ المساواة بين فئة المدّعين، فإنّ الأخذ بتفسير آخر معاكس قد يمسّ بدوره بمبدأ المساواة بين فئة المدّعى عليهم.
وفي حالة قانون الإيجارات الجديد، إذا كان الأخذ بالوجهة القائلة ببدء السنوات التمديدية منذ نفاذ القانون الصادر في العام ٢٠١٤ يمسّ بمبدأ المساواة بين المستأجرين (بحيث يستطيع مستأجر آخر الإستفادة من مهلة ثلاث سنوات إضافية في ما لو عُرِض نزاعه عل محكمة تحتسب السنوات التمديدية منذ نفاذ القانون الصادر في العام ٢٠١٧)، فإنّ الأخذ بالوجهة القائلة ببدء السنوات التمديدية منذ نفاذ القانون الصادر في العام ٢٠١٧ يمس بمبدأ المساواة بين المالكين (بحيث يستطيع مالك آخر تحرير ملكه ضمن مهلة أقل بثلاث سنوات في ما لو عُرِض نزاعه على محكمة تحتسب السنوات التمديدية منذ نفاذ القانون الصادر في العام ٢٠١٤).
وقد قضينا في هذا الإطار:
“وحيثُ لجهة إدلاء المدّعى عليه بوجود إلتباس في فهم القوانين وتطبيقها ما يجعل المساواة والعدالة منتفية بين المواطنين تحت نفس القانون العرضة للتأويلات بين محكمة وأخرى إذ يُمكن أن تُعرض نفس الحالة القانونية أمام محكمة أخرى وتحكم ببدء السنوات التمديدية من تاريخ نفاذ القانون رقم 2017/2، فلا بُد من التأكيد أنّه من الطبيعي أن تحتمل النصوص القانونية تأويلات مختلفة وأن يكون هناك تبايناً بين رجالات القانون حول تفسير المقصود منها والغاية التي ترمي إليها، ولو كان الأمر على خلاف ذلك، وكانت النصوص القانونية تُفسّر بطريقة واحدة لا ثاني لها، لما كان “الفقه” و”الإجتهاد” مصدران أساسيان من مصادر القانون،
وحيثُ إنّ هذا الإختلاف في التفسير لا يعني بالضرورة مساساً بمبدأ المساواة بين المواطنين الخاضعين للنص القانوني عينه، لأنّه، وفقاً للمنطق المُساق من المدّعى عليه، إذا كان اعتبار منطلق إحتساب السنوات التمديدية هو نفاذ القانون الصادر في العام ٢٠١٤ يُشكّل مساساً بمبدأ المساواة بين مستأجر وآخر قد تُعرَض دعواه على محكمة أخرى وتحكم ببدء السنوات التمديدية من تاريخ نفاذ القانون الصادر العام ٢٠١٧، فإنّ المنطق عينه يُطبّق أيضاً على المالكين، أي بين مالكٍ وآخر، ففي حين يستطيع مالك ما أن يُحرّر ملكه من إجارة خاضعة للتمديد الحكمي بعد انقضاء مدّة معيّنة يبدأ إحتسابها منذ العام ٢٠١٤، يُحرم مالكٌ آخر من تحرير ملكه ضمن المهلة عينها ويكون عليه أن ينتظر ثلاث سنوات إضافية في ما لو عُرِضت دعواه على محكمة أخرى تقضي ببدء السنوات التمديدية من تاريخ نفاذ القانون الصادر العام ٢٠١٧، الأمر الّذي يقتضي معه ردّ ما يُدلي به المدّعى عليه في هذا الصدد”،
خلاصة القول، إنّ الإختلاف في تفسير النصوص القانونية بين محكمة وأخرى هو أمرٌ طبيعي، فغموض النص القانوني يفترض حكماً تعدّد التفاسير، لأنّه لو كان النص يفسّر بطريقة واحدة لا ثانيِ لها، فهذا ينزع عنه صفة “الغموض” وبالتالي يُجرّد القاضي من أي دور إجتهادي في هذا الأطار. لذلك فإنّه لا يمكن مصادرة حق القاضي الممنوح له بموجب نص المادّة ٤ أ.م.م. المذكورة أعلاه بتفسير النص القانوني على نحو معيّن أو إلزامه بتفسيرٍ آخر بحجة تأمين المساواة بين المتقاضين طالما أنّ إعتماده أي من التفسيريْن سيُنظر إليه على أنّه مساسٌ بمبدأ المساواة بين إحدى فئتَي المتقاضين، وهنا تارةً بين فئة المستأجرين وتارةً بين فئة المالكين.
ويبقى الحل في توحيد الإجتهاد وهي مهمّة تقع على عاتق محكمة التمييز بصفتها المحكمة العليا. وحتّى ذلك الحين، يبقى من حقّ أيّ قاضٍ إعتماد الوجهة التي يراها مناسبة والتي تؤمن التناسق بين النصوص القانونية، والأهمّ من ذلك الوجهة التي تؤمن تفعيل تطبيق النص القانوني وتأمين الغاية من صدوره، بما يتوافق طبعاً مع مبادئ العدل والإنصاف ومع مراعاة الأثر الاجتماعي للحكم القضائي. على أنّ هذه الوجهة أو تلك، فلئن كانت تحتمل الخطأ، يبقى للمتضرر منها ولوج طرق الطعن المتاحة.
“محكمة” – الثلاثاء في 2025/7/1