الإمام الصدر للقضاة قبل 50 سنة: لماذا لا تلاحقون الكبار.. الناس كفرت؟/ضياء الدين زيباره
تقديم وتلخيص المحامي ضياء الدين زيباره (المستشار القانوني للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى):
يحتاج المرء المهتم بفكر الإمام السيّد موسى الصدر إلى عقود من الزمن للتمكّن من الإلمام بجميع مؤلّفاته ومحاضراته، حيث إنّه لم يترك مسألة إلاّ وتحدّث فيها فأبدع، وتميّز في أنّه عندما تقرأ كتاباته أو تسمع محاضراته التي كتبها أو ألقاها منذ خمسين عاماً، لا يمكنك إلاّ أن تُطبّقها على واقعنا فتشعر كأنّه يتكلّم في حاضرنا.
من مجموعة محاضراته، ما ألقاه في معهد الدروس القضائية في 7 شباط 1970 تحت عنوان: “القضاء الرسالة “.
رأيت من المفيد لا بل من الواجب في هذه الظروف العصيبة التي يمرّ بها وطننا، أن أعيد نشر مقتطفات مهمّة منها، أوّلاً لأنّها في مضمونها تصلح لأن تكون نظاماً عاماً يرعى عمل القضاة، وثانياً لأنّ آمال اللبنانيين اليوم معلّقة على القضاة الرسل للنهوض بالمجتمع من المخاطر الإقتصادية والمالية والإجتماعية التي يعيشها.
ماذا جاء في المحاضرة؟
إبتدأ الإمام محاضرته من القرآن فركّز على الآيات التي تنطق بالعدل، ثمّ تطرّق إلى الرسالة الإلهية معتبراً أنّها تتألّف من ثلاث مراحل، ثالث هذه المراحل هو القضاء، إستنتج أنّ القضاء هو حامي رسالة الله ، تطرّق إلى آداب التقاضي وتعريف الحكم ، بيّن عناصر التكامل بين الشريعة والقضاء، تحدّث عن مكامن الخلل في بعض القوانين الوضعية، إلى أن توصّل إلى دور القضاء في مكافحة الفساد وأنّه الأمل الوحيد في صلاح مجتمعنا، وختم بأمنية أن يُلاحَق مسؤول كبير أو منحرف كبير في الإدارة.
وهذا ملخّصها:
إنّ التعاليم الدينية تؤكّد أنّ الكون قائم على أساس العدل والحقّ، فالقرآن الكريم يقول: ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان﴾ [الرحمن، 7] ما معنى وضع الميزان عند ارتفاع السماء سوى التعبير على أنّ كلّ شيء في هذا الكون موزون ودقيق ومنظّم، وفي القرآن الكريم أيضًا:﴿ ما خلقناهما (أيّ السماوات والأرض) إلاّ بالحقّ﴾ [الدخان، 39].
والكون سائر نحو الحقّ والعدل، لأنّ الكون خُلق على صورة الخالق في صفاته وأسمائه، والخالق العادل، خلق الكون القائم على أساس العدل: ﴿شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط﴾ [آل عمران، 18].
فالرسالة الإلهية لها مراحل ثلاث.
المرحلة الأولى: مرحلة الضمير الذي هو النبي الباطن في مصطلح الأديان.
والمرحلة الثانية: الأنبياء الذين نتمكّن أن نسمّيهم بعقول الكون وضمير الكون، الأنبياء بعد الضمير يحدّدون الخطّ ويرشدون الإنسان إلى السلوك الذي ينسجم فيه مع نفسه ومع الكون كلّه.
وهناك مرحلة ثالثة: وفي طليعة هذه المرحلة الثالثة القضاء.
القضاء هو حامي رسالة الله، وحامي انسجام الإنسان مع الكون، بالتالي حامي خلود الإنسان وبقائه في الكون، القضاء مُتمّم للرسالة الإلهية، ولهذا نجد أنّ الإنسان المخطئ المنحرف غير المستسلم للعدل يعدّ في التعبير الديني غير مؤمن بالرسالة، ألا تكفينا هذه الآية الكريمة:﴿فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكموك في ما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا﴾ [النساء، 65] إذا ما حكّموا العدل، ولا استسلموا للعدالة ﴿فلا وربّك لا يؤمنون﴾… هؤلاء، ليسوا من المؤمنين، المؤمن الحقيقي هو المؤمن بضميره، المؤمن برسوله والمؤمن بقضائه، حلقات متسلسلة لا تنفصل إحداها عن الأخرى.
فإذًا، القضاء رسالة، وخطورة هذا الأمر تبدو حينما نعرف أنّ الكون ينبذ المنحرف، فإذًا، القضاء يؤدّي دورًا مصيريًا لا دورًا تصحيحيًا في حياة الإنسان، فلا وجود حقيقي للإنسان دون القضاء ودون العدالة.
إنّ القاضي هو خليفة النبيّين والرسل الذين يتحمّلون إبلاغ الدين، طالما كان الأمر بهذه الدرجة من الخطورة نتمكّن أن نعرف أنّ الإنحراف في القضاء يعطي خسارة مضاعفة، لأنّ الإنحراف في القضاء:
أوّلًا: يقطع ويبتر الرسالة الإلهية حيث إنّ كثيرًا من الناس يُخطئون في تطبيق الحقيقة أو يتعمّدون الخروج عن الحقائق.
وثانيًا: إنّ الإنحراف في القضاء يعجّل في إفناء الإنسان لأنّ المنحرف أو المخطئ إذا شُجِّع على موقفه، وإذا استند إلى ما يسمّى بالعدالة، فمعنى هذا التعجيل في الشذوذ والإسراع في الإنحراف والبتر السريع للرسالة الإلهية على الأرض، ولهذا يقول الحديث الشريف: “لا يجلس هذا المجلس (مجلس القضاء) إلاّ نبي أو ولي أو شقي”… لا واسطة بينهما: إمّا عادل فهو ولي الله ورسول الله ومتمّم رسالة الله ، وإمّا شقي أقلّ من الإنسان العادي، لأنّ الإنسان العادي لا يعجّل بالانحراف ولا يبتر الرسالة الإلهية، بينما القاضي المنحرف يبتر ذلك ويعجل في نهاية الكون، وفي شذوذ الإنسان، ونسيان الكون له وعدم خلوده.
﴿ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالًا بعيدًا﴾ [النساء، 60]. أرجو الإنتباه لهذه الكلمات: “الذين يزعمون أنّهم آمنوا ويتحاكمون إلى الطاغوت” والطاغوت هو القاضي المنحرف، حسب التعبيرات الدينية، لأنّ أقوى طغيان هو الطغيان في النبع والطغيان في المصدر كالرسول المنحرف.
فمن يتحاكم إلى الطاغوت فهو في طريق الضلال البعيد لأنّ الشيطان يريد ﴿أن يضلّهم ضلالًا بعيدًا﴾ [النساء، 60]، ولأنّ القضاء رسالة فعلية وعلى القاضي أن يحتفظ بالصفة الرسالية، طالما تحمّل مقام الرسالة وجلس في مكان لا يجلسه إلاّ الرسول أو الوصي أو الشقي فعليه أن يحتفظ بالصفة الرسالية، وما هي الصفة الرسالية؟ في المصطلح الديني نقول السماوية، ما هي السماوية وأين هي السماء؟ هل الأجواء اللازوردية هي السماء، أم النجوم التي هي في السماء؟! السماوية هي الإبتعاد عن المصالح الخاصة والنزعات الأرضية والعلاقات المادية، الإبتعاد عنها ذلك الذي نسمّيه في منطقكم بالتجرّد والنزاهة.
ولهذا، فعلى القاضي أكثر من غيره كما أنّ على غيره أيضًا فعلى القاضي أيضًا أن يكون سماويًا بعيدًا عن العلاقات المادية… وبتعبير محلّي، بعيدًا عن المصالح الخاصة من خوف وطمع، وحاشا للقاضي أن يخاف أو أن يطمع، لأنّ الله ألبسه ثوبًا رسوليًا رفيعًا، وجعله موضع ثقة، فهو الذي لا يخاف ولا يطمع، فإذا خاف أو طمع فما هو المنتظر من غيره؟! التنزُّه أيّ السماوية عن المصالح عن الخوف أو الطمع وعن العواطف، وما أكثر ما تتحكّم العواطف في نفس كلّ إنسان، وعن الرواسب، حتّى الرواسب الثقافية وهنا تتكوّن عقدة العقد: الرواسب الإجتماعية والرواسب الثقافية والرواسب الدينية والطائفية.
الحقّ حقّ لم يلد ولم يولد كما أنّ الله ﴿لم يلد ولم يولد﴾ [الإخلاص، 3] ، العلم لم يلد ولم يولد والحقّ والعدل لم يلدا ولم يولدا، يجب النظر إلى الحقّ والعدل نظرة منزّهة، نظرة سماوية ننظر إليه من خلال مقياس رسالي بعيدًا عن المصالح والعواطف والرواسب والعقد النفسية.
والعادل في الفقه، من له ملكة الإجتناب عن المعاصي وتعوّد على ممارسة العدل، هذا هو العادل، لا من يعدل مرّة أو مرّتين بل من أصبح متعوّدًا على أن تصدر عنه العدالة بسهولة، المقصود أنّ الرسالة السماوية تصبح جزءًا من وجود الإنسان القاضي، وإلاّ طالما لم تمارس هذه التصفية المسبقة يرجع إلى الخطأ، ويرجع إلى الانحراف، وتعود المشكلة الكبرى التي تنتظر مصير الأمّة.
وفي آداب القضاء اهتمام واسع بالترفّع والتجرّد حتّى في الشكليات، الشريعة تأمر بتساوي المتنازعين أمام القاضي، حتّى في الجلوس والمخاطبة، والبدء وتقسيم النظرات، حتّى لا يشعر أحد المتنازعين أن المُتنازع الآخر محظوظ والحقّ منسوب ومولود، فالحقّ أينما وجد حقّ، والباطل أينما وجد باطل، لم يلد ولم يولد.
ولأنّ القضاء رسالة، فالحكم الصادر عن القاضي هو إتمام لحكم الله وإكمال لرسالة الله، والحكم كما تعلمون مؤلّف من جزأين: جزء هو القانون، وجزء هو الشخص، يتركّبان فيؤلّفان الحكم، فالقانون موجود والرأي والضمير موجود، حينما يجتمعان يؤلّفان الحكم، فالحكم طالما أنّه حكم إلهي، فيجب أن يكون كلا الجزأين إلهيًا مُنزّهًا، وهنا أشعر بالصعوبات البالغة التي يعيشها القاضي حينما يصدر القانون كيفيًا أو مصلحيًا أو عاطفيًا أو راسبيًا… سمّه ما شئت، حينما تصدر القوانين تحت الضغط وتحت الطلب وتحت المصلحة وحينما تصدر القوانين لأجل السياسة والأهواء والآراء فضمير القاضي حينما يريد أن يحكم يثقل بشكل عنيف، ماذا يصنع القاضي وعليه أن يحكم في إطار القانون الصادر، ولكن من حسن الحظّ أعطي للقاضي إمكانية التحليل والتفسير وكثيرًا من الحرّية في هذا الإطار.
وبكلّ أسف هذه طبيعة القوانين الوضعية، فخطأ شخص في مجلس التشريع، أو رغبة شخص، أو كسل شخص أو تثاقل إدارة قد يؤدّي إلى صدور قانون وزيادة مادة، ونقيصة مادة، وتمرّ المواد ولا يعرفها أحد، القوانين الوضعية مشكلة كبرى أمامكم، كنت أتمنّى القول إنّ القوانين الوضيعة مهما كانت لا تتمكّن أن ترضي ضمير القاضي، لأن القاضي الرسول يشعر بطبيعة الحال وبنفس الوقت بأن الذي أصدر القانون كان منسجمًا مع مصالحه وأهدافه ورواسبه وثقافاته ومع اتخاذه بعض المعلومات عن القوانين الوضعية الأخرى الموضوعة في بلاد أخرى… لهذا من الأفضل أن يتبنّى القضاء في لبنان قانونًا سماويًا مع وجود الإجتهادات والآراء والتطوير في إطار قانون مقدّس، وإنّنا نتمكّن من وضع قانون ذي إطار مقدّس، ذي إطار سماوي، كما نحن نفترضه مع إمكانية التحرّك والتطوّر ومع البعد عن عقدة واضعي القانون، فحينئذ تخفّ المشكلة. وعلى كلّ حال فالتشريع من حقّ الله بصورة خاصة، والقضاء من حقّ الإنسان، فعلينا أن نحاول تقريب التشريع إلى صاحب الحقّ، وتقريب بواعث التشريع إلى بواعث القضاء وما أصعب هذه المهمّة، ساعدكم الله على الحكم في إطار القوانين القائمة.
أيّها القضاة،
بإمكاني أن أقول: أنتم الأمل الوحيد، بإمكانكم أن تُصحّحوا الكثير من الأخطاء، مع العلم أنّ المجتمع كجسد واحد، فساد القلب يؤثّر على فساد الكلى، وعفونة الإصبع تؤثّر في السخونة، فالحرارة والقشعريرة والمرض والصحّة والنظافة في الجسد يُنظر إليها كمجموعة من الأجزاء، والمجتمع نفس الشيء: فساد الإدارة يؤثّر في فساد القضاء، وفساد السوق والتاجر يؤثّر في فساد الإدارة، وفساد التعليم يؤثّر في فساد الآخرين، هذه حقيقة… ولكن اليوم يوم الجهاد، والجهاد هو الصمود ورفض الفساد والتأثّر الخارجي ورفض التأثير من الفاسدين على الإنسان، فإذا تمكّنا أن نثبت أقدامنا وأن نثبت، فيصبح بإمكاننا أن نرفض الفساد الهائل، ثمّ أنّه يعيننا على صلاحنا، وعلى مهمّتنا ضمائر الآخرين، حيث إنّ لكلّ فاسد ضميراً يوبّخه ويعيننا على توجيه إرادته للتقبّل وهذا سرّ نجاح الأنبياء.
أيّ مانع من أن يقف القضاء قويًا نزيهًا صامدًا؟ ما المانع أن يكون القاضي مطلقًا بعد أن فقد المجتمع المؤمن كلّ مطلقاته وكلّ ممثّلي الله على أرضه؟ ما المانع من أن تبقوا أنتم مطلقات على الأرض فتنفِّذوا الإصلاح من أية نقطة بدأنا؟ بإمكاننا أن نصلح، ولكن أنتم بيضة القبّان: ﴿يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط﴾ [المائدة، 8] ، والله هو قائم بالقسط: ﴿إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾ [النساء، 58]، الحكم بالعدل أداء الأمانة الإلهية الملقاة على عاتقكم.
ماذا أقول وكيف أخاطبكم أيّتها الآمال الوحيدة، الأمل الوحيد في صلاح مجتمعنا، من أولى منكم أن يحكم بالعدل؟ قد تقولون إنّكم تحكمون بالعدل وأنا أعترف بذلك جزئيًا، وقد تقولون إنّكم تحكمون بالعدل من خلال إمكاناتكم فأنا كنت أتمنّى أن أرى (وأعتذر ممّا أقول إذا كانت الموعظة فيها شيء من المرارة فسوف تُنسى) كنت أتمنّى أن يُلاحق مسؤول كبير أو مجرم كبير أو أن يُلاحق شخص منحرف في الإدارة، أو أن يُلاحق شخص اتهم بشيء ما، متى تريدون أن تستفيدوا من هذه الإمكانات؟ أنتم بإمكانكم أن تحاكموا كلّ شخص، قد تقولون إنّ هذا في الكتاب مكتوب، أنّكم تحاكمون كلّ شخص، ولكن إذا جرّبتم وجاهدتم ماذا سيكون بعد ذلك؟ لماذا لا تلاحقون الكبار والذين هم سبب فساد هذه الأمّة وانهيار هذا البلد وكفر الناس بكلّ شيء؟ لماذا لا تلاحقونني أنا ولا تلاحقون أمثالي؟ هل هناك من طريقة لإصلاح هذا المجتمع إلاّ أنتم؟ إذا أمسكتم بقوّة وبحزم وبعدالة رقاب المنحرفين أو المجرمين أو المخطئين فليكن ما يكون.
أتمنّى ذلك لأنّ في هذا ضمانة لبقاء هذه الأمّة، وإذا قلنا إنّ الإطار المعطى لنا والإمكانات الواقعية التي نعيشها لا تسمح لنا بذلك، فقد عدنا إلى الحلقة المفرغة، وأصبحنا نسبيين لا مطلقات، جزء من هذا الكلّ وعضو من هذا الجسد، لا أمل المستقبل.
تمنّياتي ودعائي مع كلّ تواضع واحترام لأنّكم أوليتموني شرف التحدّث إليكم، أتمنّى لكم أنتم على الأقلّ، أن تحافظوا على البقية الباقية من الأخلاق في هذه الأمّة، وما أكثر الأمم التي أنقذت بواسطة القضاء، وكيف لا والقضاء رسالة السماء.”
“محكمة” – الأحد في 2020/2/9