التبليغ الرقمي: حلمٌ على لائحة الإنتظار…
بقلم الدكتورة هانيا محمد علي فقيه(1):
“إذا أردنا أن نقيس مدى عدالة الدولة، فعلينا أن ننظر إلى حجم الدعاوى المرفوعة بوجهها، وإلى الزمن الذي يستغرقه سلّم إجراءات التقاضي”!
إعتبرت المحاكم اللبنانية على اختلاف أنواعها ودرجاتها واختصاصاتها أنّ:
– ” الشرطي المكلّف قد أبلغَ المختار القرارات الواجب لصقها على باب منزله، غير أنّه لا يتبيّن أنّ عملية اللصق قد تمّت وفقاً للأصول. وبما أنّه والحالة هذه يكون التبليغ غير قانوني(2)”؛
– “بالرجوع إلى طريقة التبليغ التي تمّ بها القرار البدائي، يتبيّن أنّ المعلومات كانت مقتصرة على ذكر رقم القرار فقط ممّا يجعل التبليغ غير قانوني(3) “؛
– “إنّ المادة 145 من الأصول الجزائية قد نصّت على وجوب تسليم مختار المحلّة نسخة عن الأوراق المبلّغة وإلصاق نسخة أخرى على باب قائمة المحكمة وحيث إنّ هذين الشرطين الاخيرين غير متوافرين في معاملة التبليغ، فيكون التبليغ غير قانوني(4) “؛
– “وحيث إنّ هذا التبليغ غير قانوني لأنّه لم يحصل لصاحب المؤسّسة(5) “؛
– “إنّ التبليغ غير القانوني بمثابة انعدام للتبليغ، وإنّ تبليغ المتهم في الساحة العامة دون تبليغه على باب سكنه الأخير وعلى أبواب المحكمة، يشكّل مخالفة للمادة 145 أصول محاكمات جزائية، ممّا يؤدّي إلى بطلان التبليغ(6) “؛
– “إنّ تبليغ قرار الإتهام من زوجة المتهم المحاكم غيابياً لا يعتبر تبليغاً للمتهم بالذات، وبالتالي يكون التبليغ غير قانوني ومخالفاً لمعاملة جوهرية منصوص عليها تحت طائلة الإبطال بحسب المادة 268 أصول جزائية(7) “؛
– “إنّ التبليغ لا يكون صحيحاً إلاّ إذا جرى في محلّ إقامة المطلوب إبلاغه.إنّ إبلاغ المطلوب تبليغه في محلّ إقامته المختار والذي هو مختلف عن مكان سكنه والمسلّم إلى شخص لم تبيّن صلته به هو تبليغ غير قانوني ولا ينتج مفاعيله وبالتالي لا تسري عليه مهلة الاستئناف(8) “؛
– “إنّ استحصال المميّز ضدّه على نسخة صالحة للتنفيذ عن القرار المطعون فيه ومباشرته في التنفيذ ..لا يعتبر أنّ المميّز ضدّه قد تبلّغ القرار وتبقى مهلة الطعن مفتوحة(9) “؛
– إنّ ” الاستحصال من قلم المحكمة على صورة طبق الأصل عن القرار لا يعتبر تبلّغاً له بالمعنى المقصود في قانون أصول المحاكمات المدنية، وبالتالي ليس من شأنها بدء سريان مهلة الطعن(10)” .
– بما أنّ الممّيز لم يتبلّغ وفق الشكليات التقليدية للتبليغ، لا الرسالة ولا الكتاب المضمون وفقاً للأحكام المذكورة، فيكون التبليغ باطلاً، ولا يكتسب بالتالي الحكم الأجنبي القوّة التنفيذية، ولا يتمتّع بقوّة القضيّة المحكوم بها، ولا يجوز إعطاءه الصيغة التنفيذية(11) “،
إذن، تعدّدت الأسباب التي تضفي الصفة غير القانونية على التبليغ، والنتيجة واحدة: عدالة بطيئة، سببها تمسك المحاكم على أعلى مستوى بحرفية نصوص التبليغ وتعقيدات إجراءاته، ممّا يؤدّي وبوضوح إلى عرقلة مسار العدالة، والمماطلة في إجراءات المحاكمة، وبالتالي تأخير الفصل النهائي في الدعاوى، وإبقاء المحاكمة فيها مفتوحة إلى ما لا نهاية.
وممّا لا شكّ فيه أنّ العدالة البطيئة أو المتأخّرة هي “اللاعدالة”، كما أنّه في تأخّر الفصل فيها، إستنكاف عن إحقاق الحقّ (المادتين 4 و 741 من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني)، وانحراف بالقضاء عن رسالته، وظلم للمتقاضين، ولا سيّما في عصر التقاضي الإلكتروني، والجريمة الإلكترونية، والحكومة الالكترونية والتصويت الإلكتروني… فإلى جانب الاحتفاظ بوسائل التبليغ التقليدية(12) ، تطرح فكرة إدخال أساليب حديثة رقمية(13) إلى صلب إجراءات التبليغ، والذي يعتمد على إرسال الرسائل النصيّة القصيرة التي تصل على الهاتف الخلوي، أو عبر البريد الإلكتروني، بحيث يجري إعلام أصحاب العلاقة بمضمون أوراق المحاكمة وإجراءاتها، كتبليغهم بموعد انعقاد الجلسات والمحكمة الناظرة بالدعوى ورقم هذه الدعوى وتاريخ جلسة النطق بالحكم الخ…. والتأكّد من حصول التبليغ باستخدام السجّلات المحفوظة لدى شركات الاتصال والبريد المعتمدة والمسجّلة بصورة رسمية. …بهدف إعلام المبلّغ إليه بضرورة وجوده في الجلسة، أو ليحضر دفاعه، أو ليناقش دفاع خصمه (مبدأ وجاهية المحاكمة)، أو لينفّذ حكماً صادراً بحقّه طوعاً، أو ليسلك طرق الطعن المتاحة أمامه، فإذا لم يستعمل الخصم حقّه بالطعن المتاح في الحكم الصادر ضدّه، فإنّ الحكم يكتسب حجّية القضيّة المقضيّة وينفّذ جبراً بعدما يستحصل المستفيد من الحكم على نسخة تنفيذية منه بعد تبليغ الشخص المراد تبليغه. ومن المعلوم أنّ لحظة بدء سريان مواعيد الطعن في الأحكام هو تاريخ التبليغ، وأنّ التبليغ الباطل يوقف سريان هذه المهلة.
لذا فإنّ اعتماد التبليغ الرقمي للإجراءات القضائية سيشكّل حلاًّ مناسباً لإنهاء مشكلة التذرّع بعدم قانونية التبليغ، والتي افرزت فساداً وظلماً عانى منه كلّ من علِق في نزاع أو دعوى قضائية، بالإضافة إلى استجابته لمتطلّبات العدالة السريعة أو الناجزة، وملائمته للواقع التكنولوجي والمعلوماتي العصري الذي نعيشه، فالهاتف الخلوي والبريد الإلكتروني أصبحا جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، فمن دون رقم هاتف أو عنوان بريد الكتروني، لن نحصل على العديد من الخدمات والتطبيقات المعلوماتية والاجتماعية المفيدة التي توفّرها لنا شركات الاتصال والمعلوماتية! ناهيك عن أنّه الطريقة المثلى لإبلاغ الافراد الذين يغيّرون مناطق سكنهم، أو أطراف الدعوى الذين يقيمون خارج الدولة ويستغرق إعلامهم عبر كتاب مضمون مع إشعار بالوصول أو عبر سفارات بلدهم مدّة تتراوح بين ثلاثين أو ستين يوماً(14) .
ولعلّ أحد القرّاء سيعلّق قائلاً إنّ إجراءات التبليغ تتعلّق بالنظام العام الحامي لحقّ الدفاع، ولكنّنا في هذا المجال نتساءل: أين هو المسّ بحقّ الدفاع الحاصل وإن “بأسلوب تقني”، طالما أنّ الأوراق قد وصلت إلى صاحب العلاقة الذي قد يفضّل مئة مرّة أن يتبلّغ إلكترونياً من ان يتكبّد التكاليف والوقت وأعباء إجراءات التبليغ التقليدية؟ أو على الأقلّ إعطاء الخيار للفرقاء أنفسهم باعتماد الطرق التي سيبلّغون بها شأنهم في ذلك شأن التحكيم، فإذا كان بإمكاننا بكبسة زر أن ننير منزلنا كاملاً بالكهرباء، فهل من المنطق أن نصرّ على إنارته بضوءٍ خافتٍ ينبعث من سراج قديم؟ ثمّ ما هو القانون إن لم يكن يلبّي حاجات المجتمع ويتطوّر معها؟ فهذه الإجراءات الصعبة ستشكّل مانعاً أمام كلّ من يفكّر بولوج باب القضاء حتّى يطالب بحقّ له، فيصطدم بمدى تعقيدها، وبمدى إمكانية الأخذ والردّ فيها لعدّة سنوات، يتحمّل خلالها تكاليف مباشر(15) دون جدوى، طبعاً مع التحفّظ حول مدى استقامة هذا الأخير وتنفيذه لواجباته كما يجب دون “مداورة”.
بالختام نقول إنّ العدالة السريعة تستوجب مراجعة شاملة للنصوص المتعلّقة بإجراءات التقاضي والتبليغ التي تتمّ أمام المحاكم(16) ، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على الفصل السريع في القضايا، بحيث يشعر المتقاضي بأنّ حقّه عاد إليه في وقت قياسي، ويمنع بنفس الوقت المعتدي من تكرار اعتدائه، لأنّ يد العدالة سريعة وستطاله أينما وجد، ولأنّ الحقّ أسمى من أن يموتَ على لائحة انتظارِ تبليغٍ اصفرت وتساقطت أوراقه قبل أن يُبَلّغ!.
هوامش:
1- استاذة محاضرة في الجامعة اللبنانية، كلية الحقوق والعلوم السياسية، الفرع الخامس، واستاذة متعاقدة في مركز الأبحاث والدراسات القانونية التابع للجامعة اللبنانية.
2- مجلس شورى الدولة، قرار رقم 565، تاريخ 23/6/1980، منشور على موقع مركز الأبحاث والدراسات القانونية التالي:
http://legallaw.ul.edu.lb/ViewRulePage.aspx?ID=53151&selection
3- مجلس شورى الدولة، قرار رقم 244، تاريخ 15/5/1970، منشور على موقع مركز الأبحاث والدراسات القانونية التالي:
http://legallaw.ul.edu.lb/ViewRulePage.aspx?ID=54665&selection
4- تمييز جزائي، قرار رقم 248، تاريخ 18/11/1968، ، منشور على موقع مركز الأبحاث والدراسات القانونية التالي:
http://legallaw.ul.edu.lb/ViewRulePage.aspx?ID=58675&selection
5- مجلس العمل التحكيمي، رقم 184، تاريخ: 25/2/ 1975، منشور على موقع مركز الأبحاث والدراسات القانونية التالي:
http://legallaw.ul.edu.lb/ViewRulePage.aspx?ID=69570&
6- تمييز جزائي، رقم 15، تاريخ 11/1/ 1996 ، منشور على موقع مركز الأبحاث والدراسات القانونية التالي:
http://legallaw.ul.edu.lb/ViewRulePage.aspx?ID=74488&selection
7- تمييز جزائي، رقم 17، تاريخ 27/5/1980، منشور على موقع مركز الأبحاث والدراسات القانونية التالي:
http://legallaw.ul.edu.lb/ViewRulePage.aspx?ID=75546&selection
8- استئناف مدني، رقم 22، تاريخ 8/1/2002، منشور على موقع مركز الأبحاث والدراسات القانونية التالي:
http://legallaw.ul.edu.lb/ViewRulePage.aspx?ID=77695&selection
9- تمييز مدني، الغرفة الثامنة، اساس 59، رقم 22 ، تاريخ: 1/3 / 2012.
10- تمييز مدني، الغرفة الثامنة، اساس 52، تاريخ: 31/1/ 2012؛ وتمييز مدني، الغرفة الثامنة، ت18/6/ 2009، مجلة كساندر 2009،ص:2005؛ وتمييز مدني تاريخ.17/7/2001، كساندر 2001، ص:848.
11- تمييز مدني، غرفة اولى، رقم 14،اساس295، تاريخ 26/1/2001.
12- اعتبرت الغرفة الثامنة لمحكمة التمييز المدنية، في قرارها رقم 64/2016، تاريخ 17/11/2016، أن قانون اصول المحاكمات المدنية قد حدّد في المواد397 الى414 منه الأصول والإجراءات المتبعة في التبليغ …وأنّ محكمة التمييز قد أكّدت في أكثر من قرار على هذا المبدأ المتعلّق بالنظام العام وأنّه لتجاوز هذا المبدأ لا بدّ من نصّ خاص”، مجلة العدل لعام 2017، العدد الأوّل، ص: 160 وما يليها، تعليق الدكتور سامي منصور.
13- في خطوة نوعية وجريئة في مجال الإستعانة بالأساليب الحديثة في إجراءات المحاكمة، قامت القاضي المنفرد في عاليه دوريس شمعون بإجراء أوّل إستجواب من نوعه في تاريخ القضاء اللبناني، عبر “skype”، وذلك في ملفّ يتعلّق باعتراض على تنفيذ معاملة تنفيذية كانت متوقّفة، وذلك بعد ادلاء محامي الموكل بأنّه يتعذّر على موكّله الحضور إلى لبنان كونه يعيش في مصر، وليس لديه سفر قريب إلى لبنان.
وتقرّر بموافقة الطرفين إستجواب المعترض عبر الهاتف الدولي، أو “skype”، أو “watsapp”، أو أيّ وسيلة مرئية ومسموعة نظراً لتعذّر حضوره إلى لبنان وضرورة استجوابه في هذا الملف.
نشر هذا الخبر في مجلّة “محكمة” – العدد 22 – تشرين الأوّل 2017- السنة الثانية، وعلى موقعها الإلكتروني التالي: http://www.mahkama.net/?p=3217
للمرّة الأولى في تاريخ القضاء اللبناني:محكمة عاليه تجري استجواباً عبر “سكايب”/علي الموسوي
14- المادة 420 من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني تنصّ على أنّه: ” إذا كان الشخص الموجّه إليه الإجراء مقيماً خارج لبنان فيزاد على المهلة الأصلية: 1- ثلاثون يوماً إذا كان مقيماً في إحدى الدول العربية أو في تركيا أو قبرص. 2- ستون يوماً إذا كان مقيماً في البلاد الأخرى..”.
15- تنص المادة 398 أ.م.م” يجري التبليغ على يد مباشر. ويجوز إجراؤه أيضاً بواسطة رجال الشرطة أو الدرك. كما يجوز إجراؤه بواسطة الكاتب في القلم”.
16- تم النص في عدد من الدول العربية على التبليغ الإلكتروني ولا سيما في الإمارات العربية المتحدة عبر قانون رقم 11 لسنة 1992 المعدل بشأن اصدار قانون الإجراءات المدنية، وحديثا في سوريا عبر المرسوم الإشتراعي رقم 25 الصادر بتاريخ 24/4/2013، كما ان المحاكم العراقية قد باشرت اعتماد التكنولوجيا في التبليغات والمخاطبات اختزالا للوقت والجهد ومواكبة للدول المتقدمة.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 23 – تشرين الثاني 2017 – السنة الثانية).