الرئيس الحسيني:الرئيسان مُلزمان مهلاً مقيِّدة للإستشارات النيابية وتشكيل الحكومة/نقولا ناصيف
نقولا ناصيف*:
في كلّ مرّة تستقيل حكومة تشكو البلاد من أزمة دستورية مزدوجة ومتلازمة: إجراء إستشارات نيابية ملزمة وتأليف حكومة جديدة. ما تنصّ عليه المادة 53 عنهما واضحة وصريحة. يوماً بعد آخر تفرّخ أعراف تحيل تطبيق المادة تلك مشكلة عويصة.
ليس سرّاً أنّ تطبيق المادة 53 في الدستور، في الحقبة السورية، كان أسهل الخيارات لسبب وحيد، هو أنّ دمشق تقرّر مَن يكون رئيس الحكومة، وترسل إليه لائحتها الجديدة ما خلا بضع خانات قليلة فارغة، يملأها رئيس الجمهورية أو الرئيس المكلّف بأسماء مرشّحيهما. لم يتعدَّ وزراء هذا وذاك مرّة الثلث +1. لا ترضى بهم دمشق إلاّ لأنّها تعرفهم أو تطمئن إليهم. ليس أكثر ولا أقلّ.
على مرّ الحكومات المتعاقبة بين عامي 1989 و2004، كانت أرقام المواعيد سهلة القراءة: المدّة الأقصر ما بين تكليف رئيس للحكومة وتأليف الحكومة الجديدة يومان مع حكومة الرئيس رفيق الحريري عام 2003، والمدّة الأطول له أيضاً وهي 14 يوماً في حكومة 1996. بينهما ترجّحت الأرقام ما بين 3 أيّام و9 أيّام. أمّا تكليف الخلف حينذاك، فلا يتأخّر حصوله أكثر من ثلاثة أيّام ما ان يستقيل السلف. منذ اتفاق الدوحة عام 2008، لم يعد الأمر كذلك. إنتقل قرار التكليف والتأليف برمّته إلى الأفرقاء اللبنانيين وحدهم، فأخفقوا تدريجاً في احترام المادة 53 التي لم تحظَ في الأصل باحترام السوريين إلاّ في الظاهر. لأنّهم أرادوا دائماً النصاب الموصوف في الحكومة، أيّاً يكن رئيسها، أحالوا المادة 53 عربة توصلهم إلى ذلك النصاب.
بعد اتفاق الدوحة الذي طوى فعلياً اتفاق الطائف ودفنه ربّما، أضحت المادة الدستورية سبباً لأزمة نظام تتكرّر استحقاقاً بعد آخر، من جرّاء الأعراف التي راحت تحوط بتطبيقها. بعد اعتبار الرئيس المكلّف أن لا مهلة مقيِّدة له لتأليف الحكومة، صار لرئيس الجمهورية أن يقول إنّ لا مهلة مقيِّدة له للدعوة إلى الإستشارات النيابية الملزمة. بذلك تساويا في استخدام فيتو سلبي لكليهما، يتيح لصلاحية كلّ منهما أن تكون عصا في وجه الآخر. أتى هذان العُرفان كي يُضافا إلى تلك المنبثقة من اتفاق الدوحة، غير المتفق عليها في وثيقة الطائف وغير الواردة في متن الدستور المنبثق منها: النصاب المعطّل، تقاسم الحقائب وتوزيعها على الأفرقاء على نحو يحيلها ملكاً للحزب أو التيّار الذي يحوزها وأحياناً تصير ملك طائفته، إختيار أسماء الوزراء في معزل عن رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف. يحدث ذلك باسم المادة 53، فيما الواقع يتكرّر باسم الأعراف الناشئة عن اتفاق الدوحة.
في حكومة 2020، أخّر رئيس الجمهورية الدعوة إلى استشارات نيابية ملزمة 50 يوماً. هو الموعد الرابع بعدما كان حدّد موعداً أوّل في 9 كانون الأوّل، ثمّ موعداً ثانياً في 16 كانون الأوّل، ثمّ موعداً ثالثاً في 19 كانون الأوّل بناء على طلب الرئيس سعد الحريري بسبب افتقاره إلى أصوات المسيحيين. قبل عون فعل سلفه الرئيس ميشال سليمان الأمر نفسه مع حكومة 2011، بمدّة أقلّ، لكنّه أنشأ السابقة: أرجأ استشارات نيابية ملزمة أسبوعاً بعدما حدّد موعدها في 17 كانون الثاني ثمّ صار في 24 كانون الثاني بذريعة “تأمين المصلحة الوطنية”.
ما بين سليمان وعون أضحت مدّة الدعوة إلى الإستشارات الملزمة مفتوحة، وصلاحية دستورية بين يدي رئيس الجمهورية يجبه بها حجّة الرئيس المكلّف أن لا مهلة ملزمة له لتأليف الحكومة. بذلك بدت هاتان الصلاحيتان ملك طائفتي الرئيسين لا تُمسّ.
لم يكن الأمر كذلك إبّان الولايتين الطويلتين للرئيسين الياس هراوي وإميل لحود. كلاهما حكم في ظلّ الحقبة السورية كحليفين قويين لها، ما أتاح لكلّ منهما الإجتهاد أكثر من مرّة في لعبتي التكليف والتأليف، كما في لعبة التواطؤ لإسقاط الحكومة: الأوّل أسقط حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1992 كي يخلفه الحريري الأب، والثاني أسقط تكليف الحريري الأب مرّتين عامي 1998 و2004 كي يخلفه الرئيسان سليم الحص وكرامي. مع ذلك لم يستنبطا أعرافاً غير مسبوقة.
ما يواجهه تأخير الإستشارات النيابية الملزمة اليوم، سيُرَدّ عليه – ما أن يحصل التكليف – بتأخير تأليف الحكومة إلى أن يستقرّ الرئيس المكلّف مع الأفرقاء المعنيين – الشركاء الفعليين في التأليف منذ اتفاق الدوحة – على تقاسم الحصص. كان يحصل ذلك في حكومة الوحدة الوطنية (2008 و2009 و2014 و2016 و2019)، وحكومة الفريق الواحد سياسيين أو تكنوقراط (2011 و2020).
عندما يُسأل الرئيس حسين الحسيني عن عُرف المدد المفتوحة لكلي رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، يجيب أنّ اتفاق الطائف قيَّدهما بمهل لا يسع أيّاً منهما الخروج عليها: على رئيس الجمهورية فور استقالة الحكومة المبادرة إلى الدعوة إلى استشارات نيابية ملزمة لتسمية الرئيس المكلّف الذي يقتضي به تأليف الحكومة في أربعة أسابيع أو يعتذر.
يقول الحسيني إنّ هذين البندين نوقشا في مداولات الطائف عام 1989، إستناداً إلى وثيقة إصلاحات أعدّها هو والبطريرك الماروني الراحل مارنصرالله بطرس صفير في بضع جولات حوار بينهما، بدأت في روما عام 1987، واستكملت حتّى عام 1989 على جولات في الديمان. لهذه الوثيقة ثلاث نسخ: أولى إحتفظ بها الحسيني، وثانية صفير، وثالثة الرئيس حافظ الأسد الذي كان يطلع على تطوّرات صيغتها يوماً بيوم إلى أن وافق عليها.
في ما تضمّنته الورقة تلك، وناقشها البرلمانيون في الطائف، في الفقرة هاء في باب تشكيل الحكومة:
1- “يجري رئيس الجمهورية إستشارات نيابية ملزمة في حضور رئيس مجلس النوّاب، ويصدر في نتيجتها كتاباً يسمّي فيه رئيس الحكومة المكلّف.
2- يجري رئيس الحكومة المكلّف إستشاراته لتشكيل الحكومة خلال مهلة أربعة أسابيع من تاريخ تكليفه.
3- في حال اعتذار الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة، يعمد رئيس الجمهورية إلى استشارات جديدة وفقاً لما ورد في البند (1) أعلاه.
4- تصدر مراسيم تشكيل الحكومة بالإتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
5- في حال عدم إصدار مراسيم تشكيل الحكومة بعد انقضاء مهلتي التكليف، ينعقد مجلس النوّاب من دون تأخير بدعوة من رئيسه، فينتخب رئيساً للحكومة يقوم بتشكيلها في مهلة أسبوعين:
أ – يتقدّم إلى مجلس النوّاب بخطّة عمل الحكومة، وتعتبر ثقة المجلس بالحكومة كافية بنسبة 55% من مجموع الأعضاء المؤلّف منهم مجلس النوّاب.
ب – في حال اعتذار الرئيس المنتخب أو عدم قدرته على تشكيل الحكومة، أو عدم نيلها ثقة مجلس النوّاب، يبادر المجلس مجدّداً إلى انتخاب رئيس للحكومة يقوم بتشكيلها وفقاً لما تقدّم.”
عندما طُرح هذا الجزء من وثيقة الإصلاحات – يروي الحسيني – اعترض النائب بطرس حرب على حضور رئيس المجلس الإستشارات النيابية الملزمة، وعدّها سوء ائتمان لرئيس الجمهورية أو قلّة ثقة، فصُوِّب النصّ بأن يُطلع رئيس الجمهورية رئيس المجلس على نتائج الإستشارات تلك بعد حصولها. وهو ما أوردته المادة 53.
عندما طُرحت مهلة الأربعة الأسابيع للتأليف، قوبلت أيضاً باعتراضات زعماء السنّة من بين النوّاب، ولم يكن الحريري بعيداً منهم في غرفة مجاورة لقاعة المؤتمر، خصوصاً بعد مناقشة صلاحيات نائب رئيس الحكومة. ارتؤي عندئذٍ وضع الآلية المقيِّدة لتأليف الحكومة في نظام أعمال مجلس الوزراء عندما يصير لاحقاً إلى إعداده، خصوصاً أنّ صلاحيات نائب رئيس مجلس النوّاب منصوص عليها في النظام الداخلي لمجلس النوّاب، ما يقتضي وضع صلاحيات نائب رئيس الحكومة في نظام داخلي لمجلس الوزراء.
وفق الرئيس السابق للبرلمان، لم تسقط في مداولات الطائف المهلة المقيِّدة للرئيس المكلّف، واتفق على إبقائها مهلة أربعة أسابيع تبعاً للآلية التي يقول الحسيني أنّها مستمدّة من قاعدة الطلاق عند المسلمين: بعد أن يُطلّق الزوج ثلاث مرّات، لا يسترجع زوجته إلاّ بعد زواجها من آخر.
على نحو مطابق، يُسمّي رئيس الجمهورية الرئيس المكلّف – المقيَّد بمهلة – مرّتين، فإذا أخفق، إنتقلت الصلاحية إلى زوج آخر هو مجلس النوّاب.
*المصدر: جريدة الأخبار.
“محكمة” – الثلاثاء في 2020/8/25