المحامي ناضر كسبار:
أهكذا، وفي اسرع من وجع النفس، يسكت الصوت العالي، ويسكن العصب الثائر، ويهدأ الذهن المتوقد، ويصبح المحامي بيار عماد نعياً ووجعاً يتمدد في وجع ويزيد عليه؟
أهكذا، وفي لحظة يصمت الروض الغرد، وتسكن الدنيا اللاعبة، ويقبح الوجود الجميل؟
ليلة الخميس كانت عابقة بالموسيقى والغناء في دارة المحامية فدوى ابو سمرا، وكان الحبيب بيار “معجوقاً” بالمساعدة في تحضير المشاوي وصب الكؤوس والترحيب والاهتمام بزملائه، الى ان امسك الصديق نهداة حيدر العود. وبدأ صوت الحبيب بيار يصدح ويصل الى “القاطع الآخر” من الوادي، والجميع يشاركه الغناء، ويطلب منه هذه الاغنية لوديع الصافي او تلك الاغنية لفيروز. وفي هذا الجو العابق بالطرب والغناء، انشد اغنية حزينة لم نسمعها سابقاً وكأنه يرثي نفسه . وسجلها الزميل اندريه الهبر وعرضتها الزميلة فاديا شديد على صفحتها في الفايسبوك. وامتدت السهرة حتى صباح الجمعة.
صباح السبت يرن خط هاتفي الخلوي وعلى الطرف الآخر ابن شقيقتي الموظف في البنك اللبناني للتجارة يعلمني بوفاة المرحوم بيار الذي كان في الدائرة القانونية لمحامي البنك. وطبعاً اول اتصال من قبلي كان بالاستاذة فدوى التي صعقت بالخبر.
المرحوم بيار، ابن بلدة دير الاحمر المعروفة بصلابة رجالها وعنفوانهم وشجاعتهم ولهفتهم تجاه الآخرين والمحافظة على كرامتهم. وكانت هذه الصفات في صلب تصرفاته الحياتية اليومية يضاف اليها ما كسبه من علم وثقافة وحكمة ومساعدة المظلوم في عالم المحاماة حيث كان محامياً نشيطاً لامعاً متابعاً لملفاته وخصوصاً في الدائرة القانونية للبنك اللبناني للتجارة. واللافت في مسيرة حياته اليومية، هو تلك الطيبة الحقيقية التي كان يتجلى بها، والتي جعلت منه انساساً صادقاً، عفوياً، مندفعاً في كل عمل يقوم به.
ليلة الخميس الجمعة كان المرحوم بيار يغني، ويهيص وصوته يصدح ويردد الوادي صداه، وفي اليوم التالي ينطفئ ويرحل بهدوء بعد ان نسي مفتاح منزله في الداخل وحاول الدخول من بلكون جيرانه فوقع من الطابق الثالث. في مسرحية الرحابنة الشهيرة بترا، يغني نصري شمس الدين للرجال الذين استشهدوا:”مبارح انا ودعتهم كانوا شباب، عم يرقصوا، ويهيصوا، كيف بدقيقة الناس بيخلصوا؟”.
الم يكن الرحابنة على حق حين قالوا: اتاري الأحبة عاغفلة بروحوا وما بيعطوا خبر. عاغفلة بيروحوا.
البارحة المرحوم جوزف النفيلي، واليوم المرحوم بيار عماد وقبلهما المرحوم احمد صفصوف.
بلدة دير الاحمر حزينة، وبلدة بصاليم حيث كان يقيم حزينة. فلمن سوف تضحك وردات الدار ولمن ستقول أهلاً وسهلاً؟ ومن سيسقي مساكب الفل والياسمين وهو الذي كان يزرعها ويعتني بها يومياً.
اليوم ينطوي زمن جميل، وتضم بلدة دير الاحمر فلذة كبدها، ابنها البار الذي رقص “ودبك” على ارضها في فرقة الدبكة التابعة لها، وقد تحولت انهرها من ماء سلسبيل الى انهر من الدموع، وسط نحيب الوالدة المفجوعة وبكاء الاهل والاقرباء والزملاء والاصدقاء الذين فقدوا الحبيب والنسيب والصديق والسند.
فيا ايها الحبيب بيار
إننا نرجو ان تلاقي عند ربك ما تمنيت ان تلاقيه على الارض من سلام ومحبة ووئام. سوف نشتاقك كلما اصبح صبح وامسى مساء. وسوف نتذكرك كلما تكلمنا عن العطاء والشهامة وطيبة القلب والاندفاع والاباء.
حزننا عليك كبير جداً. فقد كنت مالئ الدنيا وشاغل الناس. تحب الجميع والجميع يحبك.
بهذه الشجاعة، وهذا التسليم لمشيئة الله، وهذا الارتفاع عن الآن والاستعداد للأبد تركت الدنيا وكأنّك تذكّرنا بكلام جان درومسون Qui veut la vie, accepte la mort.
“محكمة” – الأربعاء في 2019/6/12