خاص”محكمة”:زمن عدالة صبوح(عن اعتكاف القضاة ومطالبهم)/نهاد جبر
بقلم النقيب نهاد جبر:
هل شاهد أحدكم فيلم BUS 657 وهو يحكي قصّة موظّف في كازينو قضى فيه ما يقارب الأربعين سنة ، وعندما أصيبت طفلته بمرض السرطان ، نقلها إلى المستشفى لاستئصال الورم، فطلبت منه إدارة المستشفى مبلغاً لم يكن متوفراً معه، فتوجّه إلى صاحب الكازينو للاستدانة منه على حساب راتبه وتقاعده، فرفض هذا الأخير طلبه، فاضطرّ إلى سرقة الأموال من الكازينو لدفعها إلى المستشفى حيث أجريت العملية لطفلته وتعافت.
قصّة هذا الفيلم هي في مغزاه من أنّ الحاجة تدفع إلى ارتكاب أفعال غير قانونية وغير مشروعة، إنّما تبرّرها الأهداف الإنسانيّة.
وكم من حالة تشبه حالة ذلك الموظّف، وإذا ما تكاثرت هذه الحالات، تولد فقراً وجوعاً، وإن لم تعالج ، فهي قد تؤدّي إلى ثورة أو عصيان أو على الأقلّ إلى فقدان المسؤوليّة.
إنّها قصّة فيلم معبرّة فهل من يعتبر؟
وفي حالة البلد الحاضرة، وإزاء الركود الإقتصاديّ والجمود، اتجهت الحكومة إلى وضع موازنة ستُعرض على مجلس النوّاب وتتضمّن فرض ضرائب ورسوم وحسم نسب من رواتب وأجور وتقديمات وتلحظ زيادات على سلع، ستنعكس سلباً على الطبقتين الفقيرة والمتوسّطة، إنْ مباشرةً أو بصورة غير مباشرة.
فمن لا يدفع ثمن منقوشة الزعتر، وهي ترويقة الفقير وتكفيه ليومه، لن يعلم أنّ ثمنها قد ارتفع من 1500 ل.ل. إلى 2000 ل.ل. ، وهو حال من لا يدفع ثمن الدواء والحليب لأولاده، وثمن القرطاسيّة لمدارسهم، وأجرة النقل بالباصات والسرفيس الخ.،
أمّا في ما يختصّ بموضوع اعتكاف السادة القضاة، واحتجاج البعض على هذا الاعتكاف ومن بين المحتجّين شريحة من المحامين الزملاء، بحجّة أنّ المسّ بحقوق القضاة المادية، ليس مبرّراً لهؤلاء لتعطيل مرفق العدالة، فإنّ هذا الاعتكاف لا يمكن عزوه إلى هذا الهدف مع أنّه يمسّ باستقلاليّة القضاء، الأمر الذي دعا المحامين، ومنذ زمن، إلى الشكوى من التأخير في إصدار الأحكام وعدم مراعاتها للعدالة بدافع رضوخ بعض القضاة للمداخلات السياسيّة والحزبيّة والمرجعيّات أو للمنفعة الشخصيّة، ومن معاملة بعض القضاة السيّئة لهم ومن تجاوزات عناصر الأمن المولجين بحمايتهم والذين باتوا يتعاطون بالملفّات القضائيّة وكأنّهم كتبة أو مباشرين أو رؤوساء أقلام ، إلى ما هنالك من تجاوزات شكليّة أو في الصميم.
إنّ عنصر الأمن المولج بحماية القاضي، هو مكلّف بحمايته وليس من مهامه القيام بأعمال مكتبيّة.
فالقاضي يحميه ضميره، ويحميه المحامي حتّى من عنصر الأمن.
وإذا كانت الدعوة الى الإعتكاف تضرّ بمصالح المحامين والمتقاضين، فإنّ نتيجته سوف تصبّ في مصلحة هؤلاء، فالمحامي يدافع عن حقّ مسلوب وعن مظلوم بريء، فهل إنّه يضمن أنّ دفاعه المحقّ سيوصل موكلّه الى استيفاء حقّه ورفع الظلامة عنه، نتيجة أحكام تصدر من خلال أوامر مرجعيّات أو من أجل منفعة شخصيّة، في غياب سلطة قضائية مستقلّة متروكة لشخص القاضي؟
إنّ القاضي مهما علت رتبته أو علا شأنه، هو بالنتيجة إنسان معرّض بطبيعته لشتّى أنواع التدخّلات وبالتالي لا يمكن حصر استقلاليّته بشخصه، بل يجب أن تكون هذه الاستقلاليّة مضمونة بسلطة قضائيّة مستقلّة تحميه مادياً ومعنوياً.
ويحضرني مقال للنقيب شكيب قرطباوي نشر بتاريخ 2002/6/6 وممّا جاء فيه:”لم يعد يكفي التغنّي بالسلطة القضائية المستقلة واعلان الثقة بالقضاء التي يطلقها المسؤولون والسياسيون لاخفاء الأزمة العميقة التي يعيشها القضاة ، فالصدق مع الذات يقتضينا الاعتراف بوجود أزمة ثقة يعيشها القضاة والمواطنون …”
وإنّ هذا المقال هو من ضمن عدّة مقالات نُشرت بذات الموضوع، مع الإشارة، إلى أنّ النقيب قرطباوي، كما سواه، خلال ولايته كوزير للعدل، طرح مشروعاً يتعلّق بالسلطة القضائيّة المستقلة، لم يبصر النور.
إنّ طرح مشاريع تتعلّق بالسلطة القضائيّة المستقلّة هو دليل على عدم وجود أيّ نصّ دستوريّ يكفلها، ويكفل الحصانة القضائيّة لجميع القضاة، بغضّ النظر عن بعضهم لشخصهم.
من هنا إنّ تحرّك بعض القضاة اعتكافاً، يصبّ في نهاية مطافه لمصلحة القضاء واستقلاليته، وهو الدور الأساسي لمجلس القضاء الأعلى، من خلال توحيد كلمة القضاة وموقفهم ومطالبهم المحقّة، ونذكر في هذا المجال، أنّ مجلس القضاء، مؤخّراً، تحرّك بالدعوة إلى الاعتكاف بتاريخ 2014/5/15 و 2017/3/14 و2017/7/19، ونتيجة هذا التحرّك صرف النظر في حينه، عن المسّ بحقوق القضاة، ذلك أنّ الاستقلاليّة الماديّة هي من الضمانات الأساسيّة لاستقلاليّة القضاء، لأنّه، لا يمكن المطالبة بانتاج قضائيّ عادل في ظلّ اختلال المستلزمات الماديّة الكافية لمعيشة القاضي، عيشاً كريماً حرّاً، أثناء تأدية رسالته وبعد تقاعده، حتّى يكون مطمئناً لمصيره ومصير عائلته، فينكبّ على العمل وهو صافي الذهن، متملّكاً من ملفّه لإصدار الحكم فيه عادلاً ومحقّاً، أمّا إذا لم يكن كذلك، فلن يكون أداؤه مريحاً ولن تكون أحكامه عادلة.
أما اشتكى المحامون من أحكام جاءت جائرة وغير محقّة؟
أو هل تناسوا شكواهم من بعض قضاة اعتكفوا أصلاً وبدون دعوة من أحد وبدون مبرّر إنْ عن عقد جلسات محاكمة أو عن إصدار أحكام، وإن محاكم معتكفة بالتعطيل بسبب عدم اكتمال هيئاتها أو اكمالها بالانتداب، وفي الحالتين هي معتكفة؟
أو هل نسي المحامون كم من مرّةٍ أعلن مجلس نقابتهم التوقّف عن العمل احتجاجاً على المسّ بحقوقهم الماليّة المكتسبة قانوناً؟
أو هل نسي المحامون كم من مرّةٍ توقفّوا عن العمل دعماً لمطالب القضاة أو من أجل قضايا وطنيّة؟
إنّ مطالب القضاة بعدم المسّ بحقوقهم بالتزامن مع حملة محاسبة البعض منهم، إنّما هي من أجل مطلبهم الأساسيّ وهو استقلاليّة السلطة القضائيّة، التي لا تقوم إلاّ بتوفير الحصانات والضمانات الماديّة والمعنويّة للقضاة.
وإذا كان القضاة قد اعتكفوا مطالبين باستقلاليّتهم وبعدم المسّ بحقوقهم، أفليس على المحامين أن يعتكفوا، إن لم يكن مع القضاة، فوحدهم، من أجل إلغاء ما سيطالهم من ضرائب مباشرة أو غير مباشرة أو إخضاع العدد الكبير منهم لضريبة القيمة المضافة، ويكتفون بالاحتجاج والانتقاد كون اعتكاف القضاة أضرّ بمصالحهم غافلين عن شكاويهم المريرة التي صادفتهم في ظلّ قضاء بات في خطر إن لم يعالج أسبابه ولمرّة أخيرة، وكأنّهم يعتمدون سياسة النعامة التي تغرس رأسها في الرمل كي لا ترى ولا تسمع.
إنّ معالجة مطالب القضاة من شأنها أن تؤديّ إلى استعادة القضاء هيبته وثقة المجتمع به، الأمر الذي يشجّع الاستثمار في البلد وينعش الحالة الإقتصاديّة فيستقرّ عمل المحامين ويزدهر ويعود إلى ما كان عليه في زمن القضاء الجميل، وهو الهدف الذي ننشده جميعاً وما يبرّر تضحيات المحامين بالتبليغات والتأخير في جلسات المحاكمة والبتّ بالملفّات العالقة نتيجة اعتكاف قضاة يصبّون إلى ما نَصْبو إليه.
وختاماً، لا بدّ من التذكير بقول فخامة رئيس الجمهورية في ذكرى مئويّة نقابة المحامين:”القضاء هو حجر الأساس لقيام دولة الحقّ والقانون، فلا دولة بدون سلطة قضائيّة مستقلّة نظيفة تنشد العدالة والحقيقة “.
إنّ المطالبة بتثبيت حقوق وضمانات وحصانات القضاة، ليس من أجل قُضاة، بلّ من أجل القضاء والمحاماة والناس، ومن أجل وطن يَنؤ تحت أثقال الفساد والفوضى في غياب أيّة محاسبة.
وهل بعد الحاصل، هناك حلّ؟
“محكمة” – الثلاثاء في 2019/5/28