غضب سياسي من العريضة القضائية خشية فقدان النفوذ على “السلطة الثالثة”
كتب علي الموسوي:
بعدما قضّت العريضة القضائية التاريخية مضاجع السلطة السياسية حيث كانت مدار أحاديث الصالونات والمجالس السياسية والغرف المغلقة منذ نشرها في 7 آب 2017، إنبرى بعض السياسيين إلى تطويق ذيولها وترويض مفعولها الإيجابي على صعيد تحقيق الأمنية الأغلى لكلّ الشعب اللبناني وليس القضاة المتفقين عليها فقط، والمتمثّلة بتثبيت القضاء، سلطةً مستقلّةً وفاعلةً، نصّاً وممارسة.
ولا يُفسّر كلام بعض السياسيين الرافضين لفكرة قيام سلطة قضائية مستقلّة، والذين أسهبوا في التصريحات طوال يوم أمس، إلاّ بالإنزعاج التام من هذه العريضة، لأنّها تحدّ من تدخّلاتهم المكشوفة والمعروفة، وتكبح سعيهم الحثيث إلى بسط نفوذهم على القضاء من خلال الإستئثار بالتشكيلات القضائية، والدليل أنّ السياسة هي التي عكّرت غير مرّة، صدور مرسوم تشكيلات شاملة، إلى أن عطّلت عن سابق إصرار وترصّد، تعديل المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي في الجلسة التشريعية للمجلس النيابي في كانون الثاني 2017، بهدف إبقاء سيطرتها على القضاء، وذلك في تناقض تام مع الدستور الذي جعل في مادته العشرين، القضاء سلطةً مستقلّة، ويبدو أنّ هناك سياسيين لم يقرأوا لا هذه المادة ولا الدستور، ولم يطلّعوا عليهما، مثلما فعلوا عند إقرار قانون سلسلة الرتب والرواتب في تموز 2017 حيث “فوجئوا” بالمصادقة والموافقة الذاتية على مضمون هذه السلسلة!.
وبدلاً من أن تعمل السلطة السياسية ممثّلة بالسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، على تفعيل مضمون المادة 20 من الدستور والتي يقول نصّها الصريح:”السلطة القضائية تتولّاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينصّ عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة والمتقاضين الضمانات اللازمة. أمّا شروط الضمانة القضائية وحدودها فيعيّنها القانون. والقضاة مستقلّون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل كلّ المحاكم وتنفّذ باسم الشعب اللبناني”، نجد هذه السلطة السياسية تمعن في ضرب هذه السلطة القضائية، وتبذل كلّ ما في وسعها لإفقادها مقوّمات وجودها واستمرارها حرّة.
بينما المشهد مختلف تماماً عندما نرى الأغلبية الساحقة من القضاة تجهد لصون الدستور وتنفيذ القوانين المرعية الإجراء، وبالتالي، فإنّ القضاة هم أكثر حرصاً من سواهم على إحياء الدستور والقانون، ولا بقاء للوطن من دون المسارعة إلى تشريع العريضة القضائية لكي تصبح كلّ سلطة مسؤولة أمام الشعب عن دورها وأعمالها.
وحمل كلام بعض السياسيين تهديداً مبطّناً للسلطة القضائية ممثّلة على أقلّ تقدير بالقضاة الـ 352 الذين توافقوا على العريضة مضموناً وصياغةً، إذ وصف أحدهم الإعتكاف عن العمل بـ”التمرّد على الدستور والقانون”، بينما تمديد المجلس النيابي ولايته ثلاث مرّات ليس طعناً بالدستور!، وزيادة النوّاب رواتبهم ومخصّصاتهم المالية ليس إغراقاً للخزينة في العجز المالي، بل يتوافق مع “دولة القانون و المؤسّسات”!، وخنق مسوّدات التشكيلات القضائية بالأسماء لفرضها فرضاً دون الأخذ بعين الإعتبار معايير الكفاءة والدرجة والأقدمية، ليس افتئاتاً على عمل ذاتي لسلطة دستورية مستقلّة خاص بها وحدها دون سواها!.
وأكثر ممّا تقدّم، ما دام هذا السياسي يعترف في تغريدته على “تويتر” بأنّ القضاء سلطة دستورية مستقلّة، فلماذا لا يبادر وهو الذي يملك كتلة نيابية وازنة، إلى تعزيز السلطة القضائية بإعادة حقوقها المكتسبة، والتقدّم بمشروع قانون معجّل مكرّر يتبنّى فيه مضمون العريضة حتّى ولو اقتضى الأمر تعديل الصياغة دون الجوهر الذي لا يجوز المسّ به على الإطلاق؟.
مجلس القضاء يعارض العريضة
وفي المقلب الآخر، أي داخل البيت القضائي، لم يسارع مجلس القضاء الأعلى إلى تلقّف المضمون الثوري لهذه العريضة البالغة الأهمّية على صعيد تعزيز وجود القضاء كسلطة مستقلّة، بل انحاز بعض أعضائه إلى ضفّة المعارض لها على غرار السلطة السياسية على ما يصف قانونيون تهمّهم إعلاء كلمة العدالة الحقّة.
ويكشف هؤلاء في حديث مع “محكمة” أنّه تناهى إليهم أنّ مجلس القضاء الأعلى رفض تسجيل العريضة في سجّلاته ولم يُعْطِها رقماً تسلسلياً كما يحصل في كلّ المراسلات والملفّات التي ترده من غير جهة وطرف، بينما قام مجلس شورى الدولة الذي وصلته نسخة من هذه العريضة الموجّهة إليه أيضاً مع مجلس القضاء وديوان المحاسبة، إلى إيراد تاريخها وهو 8 آب 2017، مع إعطائها الرقم 8007/2017.(الصورة المرفقة بالنصّ).
ويرى هؤلاء أنّه كان الأجدى بمجلس القضاء بعد استلام العريضة أن يبادر إلى تبّني مضمونها الشفّاف الذي لا يتعارض مع توجّهاته الرامية إلى قيام سلطة قضائية مستقلّة، وهو الذي حارب مطوّلاً من أجل اقتناص مشروع تعديل المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي، لكن يبدو أن بعض الحسابات الشخصية تطغى على الهمّ الكلّي للقضاء، خصوصاً بعد إقالة القاضي شكري صادر من رئاسة مجلس شورى الدولة!.
وبدلاً من أن يُكمل مجلس القضاء الأعلى لغته التصعيدية في وجه السلطة السياسية بغية انتزاع حقّ مكتسب منها تريد السطو عليه بإلغاء صندوق التعاضد على سبيل المثال، جاء بيانُه الثاني عن الإعتكاف عن العمل مخيّباً لآمال قانونيين يكافحون في سبيل تعزيز السلطة القضائية، فكيف الأمر للقضاة أنفسهم؟!.
فقد تضمّن البيان الثاني الصادر في 9 آب 2017 بعد استدعاء الرؤساء الأول لمحاكم الإستئناف في المحافظات الستّ إلى اجتماع مع مجلس القضاء الأعلى، تناقضاً تاماً مع فحوى البيان الأوّل الصادر في 19 تموز 2017 والذي فُهِم منه أنّه لا رجوع عن المطالب إلاّ بعد إجراء المعالجة التشريعية المطلوبة.
وإذا كان الهجوم خير وسيلة للدفاع، ليس في كرة القدم وسواها من الألعاب الرياضية وحسب، وخصوصاً عند اشتداد وطأة التنافس والمعركة، فإنّ مجلس القضاء الأعلى لم يكمل اعتكافه بوتيرته المعهودة التي شملت كلّ شيء “باستثناء النظر في قضايا الموقوفين”، بل أدخل تعديلات تنازلية موسّعاً لائحة الاستثناءات لتطاول “النفقة، والمشاهدة وحماية الأحداث، وإثبات الحالة، ومنع السفر، والعنف الأسري” بداعي أنّها “تدابير إحتياطية وقضايا ملحّة لا تحتمل التأجيل”، وهو بذلك يكون قد أطلق رصاصة الرحمة على اعتكافه تمهيداً للقضاء عليه وإلغائه نهائياً على مشارف أفول شمس العطلة القضائية الصيفية في 15 أيلول(إذا صدر قانون السلسلة في الأيّام القليلة المقبلة، فإنّ هذه العطلة تنتهي في الأوّل من أيلول)، لأنّه لم تعد هنالك أعمال قضائية هامة يمكن استخدامها سلاحاً مؤثّراً لتحقيق ما استدعى الإعتكاف أساساً، وبالتالي إرغام السلطة السياسية على التراجع عمّا أفردته في قانون السلسلة من غبن بحقّ القضاة.
والسؤال الأساسي ما الذي حدث حتّى استدعى هذا التراجع التدريجي لمجلس القضاء؟ وهل سمع تطمينات بالعودة عن الإجحاف اللاحق بالقضاة على الرغم من أنّ اجتماعه بالرئيسين ميشال عون وسعد الدين الحريري لم يكن مثمراً وحسب الآمال المعقودة بعكس اللقاء مع الرئيس نبيه بري؟ أليست العريضة القضائية التاريخية هي التي دفعت السلطة السياسية إلى التفتيش عن مخرج لمطالب القضاة لا يظهرها مكسورة، فلماذا إذن، لا يتبنّى مجلس القضاء هذه العريضة ويكمل بها حتّى سنّ قانون يؤكّد بأنّ القضاء سلطة؟!.
إنّ تطلّعات العريضة القضائية ليست محصورةً بصندوق التعاضد والراتب والعطلة السنوية، بل بشيء أسمى وأثمن وهو تنفيذ مضمون الدستور بجعل القضاء سلطة مستقلّة، وهذا يتطلّب نضالاً طويلاً لا ينتهي في مدّة زمنية وجيزة، كما أنّه يحتاج نَفَسَاً مديداً وصبراً، ودروسُ التاريخ تقول إنّ الحقّ لا يضيع ولا يموت ما دام وراءه مُطَالِب.
“محكمة” – الخميس في 10/08/2017.