مرافعة الدولة اللبنانية في جريمة اغتيال القضاة الأربعة أمام”العدلي”/مصطفى قبلان
المحامي مصطفى قبلان:
جانب المجلس العدلي الموقّر*
مذكّرة خطّية بمثابة مرافعة شفهية مقدّمة من المدعية : الدولة اللبنانية – وزارة العدل، ممثّلة برئيس هيئة القضايا في وزارة العدل وكيلها المحامي مصطفى قبلان
المدعى عليهم: أحمد عبد الكريم السعدي (الملقّب بــ أبو محجن)، محمود حسين مصطفى (الملقّب بـ أبو عبيده)، إبراهيم جمال لطفي، وسام حسين طحيبش وكيله الأستاذ ناجي ياغي، حسين محمد شاهين، جهاد عويدات السواركة (الملقّب بـ أبو همام)، محمّد قاسم طاهر، فريد نظام ججو.
في الوقائع: إنّ سنيني الواحدة والعشرين التي بذلتها في سبيل الترافع أمام أقواس المحاكم، لم تكن يوماً كفيلة بوأد رهبة الحديث في هذا المحراب وتهيئتي لمثل هذا اليوم، فكيف الحال ونحن بحضرة هيئة لم ولن تماثلها أخرى، أمام قوس يعلوه ثماني قضاة عوضاً عن خمسة، أمام هيئة إلى يمينها القاضي الشهيد وليد هرموش – وإلى يسارها القاضي الشهيد عماد شهاب.
أمام هيئة في صلبها القاضي الشهيد حسن عثمان – وإلى أقصى يمينها في موضع المؤتمن على دعوى الحق العام القاضي الشهيد عاصم أبو ظاهر.
كلهم حاضرون اليوم،
يبصرون من عيونكم،
وفي عيونهم نظرة عتب،
ينصتون من مسامعكم، ولربما اليوم، ينطقون بالحقّ مرّة أخرى من فصيح لسانكم،
هم حاضرون اليوم كما كانوا آنذاك،
فيومها لم يخترق الرصاص الحاقد سواد ردائهم ولم يدنّس بياض الطهر في ياقاتهم.
لم تثلم بالطيلسان اثلام التمزيق ولم تتجرع حمرته كأس المنون، بل رويت تشبعاً بدم الشهادة وحصنت بثوبٍ سيج بالجندل،
يومها خسئ من شاء ضرب أمن الدولة، فهوت يده وفيها سيفٌ من خشب، تحطم إذ ارتطم بحسام العدالة البتّار، وما حسام العدالة إلا حكمكم المرتقب – ونحن على يقين أنّ الأقدار قد شاءت أن يصدر عنكم فينال به الشهداء العلا المراد لهم والمستحق منهم،
إنّ في أحكامكم مدارس ونوافذ نطلّ منها على تاريخ، فليشهد التاريخ إذاً، أنّه في نهار الجمعة الواقع في 2019/7/12 أبت عدالتنا أن تُساق مطأطأة الرأس مكبلة اليدين إلى محرقة الحقد والكراهية ،
فليشهد التاريخ أنه في نهار الجمعة الواقع في 2019/7/12 أبت عدالتنا أن تلتهم نيران الفتنة نسيج مجتمعنا فاجتاحت السنة المسد مشعلها وما كانت علينا إلا برداً وسلاماً،
فليشهد التاريخ إذاً، أنه في نهار الجمعة الواقع في 2019/7/12 وقفت عدالتنا شامخة القامة رافعةً الغشاء عن بصرها ، في يمناها ميزان عدلٍ اقام الوزن بالقسط وفي يسراها سيفٌ بتار فما رجحت كفه على أخرى إلى بما حق،
حضرة الرئيس إني افتتح مرافعتي بطلب،
رجائي أن لا اُردّ خائباً، فلنسقط مصطلح القضاة الأربعة وليستعاض عنه بأسمائهم،
فلنردد هذه الأسماء في كل فرصةٍ متاحة حسن عثمان، وليد هرموش، عماد شهاب وعاصم ابو ظاهر كي لا تخوننا الذاكرة،
كي تخلد هذه الأسماء ويبقى صداها مدوياً في أروقة وباحات قصور العدل إنصافاً لذكراهم وتضحياتهم على مذبح العدالة.
سيّدي الرئيس،
فلنعد بالذاكرة الى عام 1999 وبالتحديد الى يوم الثلاثاء الواقع في الثامن من شهر حزيران عند الساعة عشر وعشرة دقائق،
ماذا حصل في ذلك التاريخ ، دوي الرصاص يجتاح قاعات وأروقة قصر العدل في صيدا.
الرئيس الأول لمحكمة استئناف الجنوب القاضي حسن عثمان، والمستشار القاضي عماد شهاب، والمستشار القاضي وليد هرموش ، والمحامي العام الاستئنافي القاضي الشهيد عاصم أبو ضاهر ، أربعة من خيرة قضاة لبنان على قوس محكمة الجنايات في صيدا ينطقون بالعدل .
في ذاك اليوم تجرأت يد الغدر على العدالة فارتقى أربعة قضاة من خيرة من اعتلى قوس ونطق بحكم إلى أعلى مراتب الشهادة.
في ذاك اليوم ، وعلى قوس محكمة الجنايات في صيدا نفّذ إرهابيون جريمة اغتيال منظّمة تركت بصمة دامية على صفحات تاريخ أمّتنا وغيّرت معالم الجسم القضائي إذ أودت بحياة كلّ من الرئيس الأوّل لمحكمة استئناف الجنوب القاضي الشهيد حسن عثمان والمستشار لدى محكمة استئناف الجنوب القاضي الشهيد عماد شهاب والمستشار لدى محكمة استئناف الجنوب القاضي الشهيد وليد هرموش والمحامي العام الاستئنافي في الجنوب القاضي الشهيد عاصم أبو ضاهر ، كما أدّت إلى إصابة المحامي سالم سليم والمساعد القضائي سعيد شمس الدين اللذين كانا مستهدفين أيضاً في عملية الاغتيال، كما أصيب كاتب المحكمة كميل رحال والرقيب أوّل في قوى الأمن الداخلي علي محمد عليان والعريف في قوى الأمن الداخلي أكرم الأشقر والمواطنة زهراء نجم.
أربعة شهداء وستّة جرحى حصيلة غطرسة إرهاب منظّم رعش توهم في جهله أنّ الجسم القضائي قد ينحني للرصاص وأن نسيج العدالة أوهن من آثامه المتعجرفة … فخسئ ، إنّ عملية الاغتيال الآثمة عمل مكنة إرهابية ممنهجة ومنظمة دأبت على التخطيط وتحضير وتنفيذ الاغتيال.
ووزّعت الأدوار بين من خطّط لتنفيذ الجريمة ومن رصد واستكشف مسرح الجريمة تمهيداً لارتكابها وبين من نفذ الجريمة على الارض.
وقد تبيّن من خلال الاستقصاءات والتحقيقات وإفادة الشهود أنّ اثنين من المتهمّين أقدما على تنفيذ الجريمة تسللاً من إحدى نوافذ قصر العدل، واقتحما قاعة محكمة الجنايات مطلقين العنان لرشّاشين حربيين غير مرخّصين موديين بحياة الشهداء الاربعة ومصيبين الجرحى الستة .
أمّا العقل المدبّر خلف هذه الجريمة المنظّمة الرامية إلى ضرب هيبة الدولة وتعطيل السلطة وخلق حالة من الذعر والارتباك في المجتمع اللبناني فتبيّن أنّه من يلقّب بأمير “عصبة الأنصار” في مخيّم عين الحلوة المدعى عليه أحمد عبد الكريم السعدي “الملقّب بأبو محجن” …. يعاونه وسام حسين طحيبش – محمود حسين مصطفى – حسين محمد شاهين – جهاد عويدات السواركه – ابراهيم جمال لطفي.
وقد تبيّن أنّ المدعى عليهم جميعاً أقدموا على تأليف جمعية واتفقوا على ارتكاب جرائم على الناس والنيل من سلطة الدولة وهيبتها والتعرّض لمؤسّساتها المدنية والعسكرية والقضائية، والاعتداء على حياة الناس وعلى الجسم القضائي.
كما وقد قام كلّ من المتهمين محمّد قسم طاهر وفريد نظام ججو بالادلاء بشهادة كاذبة أمام الضابطة العدلية والقضاء بغية تضليل التحقيق والتستّر على المتهمّين.
فــي القانون :
نصّت المادة 335 من قانون العقوبات على أنّه “إذا أقدم شخصان أو أكثر على تأليف جمعية أو إجراء إتفاق خطّي أو شفهي بقصد ارتكاب الجنايات على الناس أو الأموال أو النيل من سلطة الدولة أو هيبتها أو التعرّض لمؤسّساتها المدنية والعسكرية أو المالية أو الاقتصادية يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقّتة ولا تنقص هذه العقوبة عن عشر سنوات إذا كانت غاية المجرمين الاعتداء على حياة الغير أو حياة الموظفين في المؤسسات والادارات العام”.
وبما أنّ المتهمّين أقدموا على تأليف جمعيه واتفقوا فيما بينهم على توزيع الأدوار بقصد ارتكاب الجنايات على الناس والنيل من هيبة الدولة وأهمها الاعتداء على اربع من خيرة قضاة لبنان على قوس العدالة.
وبما أنّ فعل المتهمين يقع تحت طائلة قانون العقوبات لا سيّما المادة 335 المذكورة اعلاه ، مما يقتضي ادانتهم بهذه المادة ، وإنزال أشدّ العقوبات بهم.
وبما أنّ المادة 549 من قانون العقوبات نصّت على أنّه “يعاقب بالاعدام على القتل قصداً إذا ارتكب :
1- عمداً .
2- تمهيداً لجناية او لجنحة، أو تسهيلاً أو تنفيذاً لها، أو تسهيلا لفرار المحرّضين على تلك الجناية أو فاعليها أو المتدخّلين فيها أو الحيلولة بينهم وبين العقاب .
3- ……..
4- ……..
5- على موظف في أثناء ممارسته وظيفته أو في معرض ممارسته لها أو بسببها.
وبما أنّ جريمة قتل القضاة كانت عن سابق تصوّر وتصميم وعمداً بدافع الانتقام بإطلاق النار على القضاة وهم يمارسون وظيفتهم من أسلحة حربية مختلفة كانوا يستعملونها بدون ترخيص ومحاولة قتل أشخاص آخرين.
وبما أنّ فعل المتهمين يقع تحت طائلة قانون العقوبات اللبناني لا سيّما المادة 549 منه، فيقتضي إنزال أشدّ العهقوبات بهم لهذه الناحية.
كما نصت المادة 408 من قانون العقوبات على أنّه “من شهد أمام سلطة قضائية أو قضاء عسكري أو إداري فجزم بالباطل أو أنكر الحقّ أو كتم بعض أو كلّ ما يعرفه من وقائع القضية التي يسأل عنها، عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات إذا أدّت شهادة الزور في أثناء تحقيق جنائي أو محاكمة جنائية قضي بالأشغال الشاقة عشر سنوات على الأكثر…”
وبما أنّ المتهمّين محمد قاسم ظاهر وفريد نظام ججو حاولا تضليل التحقيق من خلال اعطاء افادات مغايرة خلال الادلاء بشهادتهما بقصد كتم المعلومات حول قضية اغتيال القضاة الأربعة ومحاولة اغتيال آخرين.
وبما أنّهم شهدوا شهادة زور امام قاضي التحقيق،
وبما أنّ فعلهم هذا يقع تحت طائلة قانون العقوبات لا سيّما المادة 408 فقرتها الثانية ، لذلك يقتضي إدانتهم بالاستناد إلى المادة 408 فقرتها الثانية وإنزال أشدّ العقوبات بهما.
سيّدي الرئيس،
إنّ هذه الجريمة التي أدّت إلى استشهاد أربعة قضاة من خيرة قضاة لبنان، أثناء ممارستهم لمهامهم، هزّت الاستقرار في المجتمع واعتدت على أمن الدولة وتعرّضت لهيبتها، وقد ارتكبها المتهمون وهم ينتمون إلى “عصبة الأنصار” وهي مجموعة إرهابية حاقدة لا دين لها، إنّما كانت تهدف من خلال هذه الجريمة إلى زعزعة كيان الدولة والنيل من سلطتها وهيبتها وضرب مؤسّساتها العامة من خلال ضرب السلطة القضائية ، وبالتالي ألحقت بالدولة والمجتمع أضراراً مادية ومعنوية جسيمة لا يمكن التعويض عنها، إلاّ بإعدام القتلة ، لتعاد إلى الدولة هيبتها.
لذلك نطلب أوّلاً، وثانياً، وثالثاً، ورابعاً، الإعدام ، ثمّ الاعدام، ثمّ الاعدام، ولا شيئ أقلّ من الاعدام للمتهمّين جميعاً، دون أن ينال أيّ منهم رحمة أو شفقة.
أمّا بالنسبة إلى الالزامات المالية، فإنّ مال الدنيا لا يساوي قطرة دم سالت على قوس العدالة، وإنّه لا يمكن التعويض عن هذه الخسارة إلاّ بالاعدام للقتلة، ونطلب إلزام المتهمّين بتعويض معنوي مقداره ألف ليرة لبنانية.
*ألقيت هذه المرافعة أمام المجلس العدلي في جلسة ختام المحاكمة في جريمة اغتيال القضاة الأربعة، يوم الجمعة الواقع فيه 12 تموز 2019.
“محكمة” – الاثنين في 2019/7/15