خاص”محكمة”:نافذة على الطبّ الشرعي/ حسين شحرور
بقلم الدكتور حسين شحرور:
الطبّ الشرعي، أو ما يطلق عليه في بعض البلدان بالطبّ العدلي، أو الطبّ القضائي، في إشارة إلى الصلة التي تربط ما بين الطبّ والقانون والعدالة، هو أحد الأفرع التخصّصية في الطبّ الحديث، والذي يعتمد على العلم بالمعرفة الفنّية في تقديم الأدلّة المادية المحسوسة والملموسة بتقارير طبّية شرعية لمعاونة ومساعدة رجال القضاء(وهو ما يطلق على مصلحة الطبّ الشرعي في جمهورية مصر العربية بأنّها إحدى الجهات المعاونة للقضاء في وزارة العدل).
كذلك من الممكن إعتباره كأحد فروع علم الاجتماع، لأنّه بالإضافة إلى مساعدته لرجال القضاء في الجزاء والردع، أو البراءة، فإنّه يعدّ مقياساً لما قد يطرأ من خلل في الضوابط الاجتماعية من حيث توخّيه الجرائم ومرتكبيها، أو المجنى عليهم، وهو يساعد رجال الاجتماع في تشخيص الخلل، أو الانحراف، لإمكانية الوقاية والعلاج الذي تضعه البلد.
إنّ مفهوم الطبّ الشرعي كمفهوم عام، وليس كعلم طبّي حديث تخصّصي، هو منذ أوّل جريمة اعتداء وقعت على النفس وذلك ما اقترفه قابيل من جرم بقتل أخيه هابيل منذ بداية الحياة على الأرض من إزهاقه لروح أخيه بواسطة استخدام أداة قاتلة في موضع قاتل وهام في الجسم، وإنّ جميع الشرائع السماوية وخصوصاً القرآن الكريم، قد حضّ على التأكّد بالإثبات بالبيّنة لإظهار الحقيقة وليس بالشبهات فقط. وهو كما جاء بقوله تعالى:”بسم الله الرحمن الرحيم، يا أيّها الذين آمنوا إنْ جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين” صدق الله العظيم.
وهو ما جاء وثبت كذلك في قصّة سيّدنا يوسف عليه السلام في ادعاء امرأة العزيز عليه، ثمّ تبيّن بالأدلّة، وهي فحص قميصه ومواضع التمزّقات فيه، صدْقه هو وبراءته. كذلك في ما ادعاه أشقاؤه بأنّ الذئب أكله، وما جاء بقوله تعالى:”بسم الله الرحمن الرحيم، وجاءوا على قميصه بدم كذب” صدق الله العظيم. وهو ما يفيد بكذب الرواية مجملة.
إذن، فالطبّ الشرعي هو علم الحقيقة والبحث في المجهول. وقد شمل الطبّ الشرعي الآن في تخصّصه باقي التخصّصات الأخرى في فروع الطبّ المختلفة، وفي فروع أخرى علمية متعلّقة به مثل التحاليل الكيميائية، أو المعملية الطبّية والأشعّة وغيرها.
أيّ أنّه علم كبير وشامل وواسع ويحتاج إلى تضافر كلّ الجهود.
لقد تطوّرت العلوم الطبّية بشكل سريع في السنوات الأخيرة وهي ما زالت تتقدّم متخطّية كلّ التوقّعات، فمن دراسة الجينات الوراثية إلى زراعة الأعضاء وحتّى الاستنساخ فترة زمنية قصيرة، جعلت تشخيص أمراض وعاهات الأجنّة ومعالجتها داخل الأرحام أمراً ميسوراً في الزمن الحاضر. وكذلك فإنّ الطبّ الشرعي قد سار على المنوال نفسه، فمن تطوّر علم البصمات إلى دراسة وتحليل الحمض الأميني(DNA ) فترة زمنية قصيرة أيضاً مكّنت دوائر التحقيق في العالم من اختصار الكثير من الجهد البشري وتوفير الكثير من الوقت وصولاً إلى الحقيقة.
ولا شيء يمكن أن يرسّخ أسس العدالة في المجتمعات بقدر كشف الحقيقة التي أصبحت في متناول اليد بواسطة تطوّر العلوم الطبّية والإنسانية. فيكفي العثور على شعرة واحدة في مسرح الجريمة حتّى تنكشف جملة حقائق قادرة على توجيه التحقيق في مساره العادل والسليم.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 2 – كانون الأوّل 2015).