“جنايات بيروت” تستردّ خلاصة حكم غيابي على مروّج مخدّرات وهو خارج لبنان/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
إذا كانت جائحة “كورونا” المنتشرة كوباء قاتل في العالم كلّه قد حفّزت القضاء اللبناني على الإستعانة بالوسائل السمعية والبصرية وتقنيات التواصل والإتصالات الحديثة لإجراء استجوابات إلكترونية أو عن بُعْد بأساليب مختلفة، بهدف إتمام النظر في الدعاوى الجزائية والمتعلّقة بموقوفين تحديداً من دون أن تتعارض مع القوانين المرعية الإجراء، والقواعد والأصول القانونية المُلْزمة، وهي خطوة حملت فوائد جمّة للإنسانية تستحقّ التنويه، إلاّ أنّه لا يحقّ لأيّ قاض أن يتخفّى خلف جرثومة “كورونا” لكي يخالف القانون، أو أن يبتكر اجتهاداً في معرض نصّ صريح، أو أن يحرّف قاعدة واجبة التنفيذ ولا يمكن إغفالها أو القفز فوقها، أو أن يبتدع أصولاً قانونية جديدة لا تخطر ببال كبار المشرّعين.
وعليه، فإنّ الإجراءات الواردة في متن قانون أصول المحاكمات الجزائية ملزمة لكلّ القضاء الجزائي، ولم توضع إعتباطياً وبصورة عشوائية، وإنّما لتحديد المهام والأعمال والصلاحيات وتنظيم الأمور في التحقيق والمحاكمة بدءاً من مسرح الجريمة والضابطة العدلية ومروراً بالنيابات العامة وقضاة التحقيق والقضاة المنفردين والهيئات الاتهامية ومحاكم استئناف الجنح والجنايات، وانتهاء بمحكمة التمييز والمجلس العدلي ومجلس القضاء الأعلى في ما يخصّ طلبات العفو الخاص.
ومن الثابت في الأصول الجزائية أمام محكمة الجنايات تحديداً أنّه عندما تقرّر محاكمة متهم بجرم معيّن في ملفّ ما بصورة غيابية وتعتبره فاراً من وجه العدالة، تُصدر أمراً بإنفاذ مذكّرة إلقاء القبض الصادرة في الأصل في حقّه عن الهيئة الإتهامية، وتقضي بتجريده من حقوقه المدنية، ثمّ تكرّر كلّ هذه الخطوات عند إصدار الحكم وتدوّنها حرفياً في خلاصته الأخيرة.
ولا يمكن استرداد خلاصة الحكم الغيابي ووقف مفعول مذكّرة التوقيف الغيابية الصادرتين بحقّ صاحب العلاقة الفار من وجه العدالة إلاّ عند تسليمه نفسه للنيابة العامة ومثوله شخصياً أمام المحكمة التي سبق لها أن أصدرت الحكم عليه، وهذه من المسلّمات والبديهيات التي يعرفها رجال القانون ومنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية.
إلاّ أنّ لمحكمة الجنايات في بيروت والمؤلّفة من القضاة سامي صدقي رئيساً ولما أيوب وربيع معلوف مستشارين رأياً مغايراً في ما تقدّم، إذ أقدمت يوم الأربعاء الواقع فيه 29 نيسان 2020، على إصدار قرار في غرفة المذاكرة قضى باسترداد خلاصة الحكم الغيابي ووقف مفعول مذكّرة التوقيف الغيابية الصادرتين عنها بحقّ مروّج مخدّرات بذريعة وباء “كورونا” لكي يتمكّن من العودة إلى حضن الوطن، فهل هذا التساهل المفاجئ تجاوز للأصول القانونية المعتادة حيث لا يمكن الإجتهاد، أم أنّه يوضع في إطار مراعاة الظروف الإستثنائية الناشئة عن “كورونا”؟
لم يسبق لأيّ محكمة جنايات في لبنان أن قامت بهذا الإجراء، وبالتالي ما فعلته محكمة الجنايات في بيروت يعتبر سابقة في تاريخ القضاء اللبناني، ويثير علامات استفهام كثيرة حول الغاية من اتخاذه، خصوصاً وأنّ الحكم على المحظوظ بهذه الخطوة غير القانونية صدر في 26 شباط 2020، أيّ قبل 63 يوماً من تاريخ العودة عن الحكم الغيابي، ومن دون أن يكون موجوداً على الأراضي اللبنانية، ومن دون وجود ضمانات بتسليم نفسه لاحقاً بعد انتهاء فترة الحجر المنزلي المحدّدة بأربعة عشرة يوماً كأقلّ تقدير في حال كان الفحص الطبّي لفيروس “كورونا” سلبياً.
وأكثر من ذلك، فإنّ هذه الجرثومة المميتة ولدت على متن الكرة الأرضية وتفشّت قبل اختتام المحاكمة في الملفّ المتهم فيه هذا الشخص في 5 شباط 2020، فلماذا لم يبادر إلى تسليم نفسه قبل هذه الفترة إذا كان يعتقد نفسه بريئاً أو يرغب في الحصول على محاكمة وجاهية وحكم مختلف عن عقوبة الأشغال الشاقة المؤبّدة وغرامة الخمسين مليون ليرة لبنانية الصادرة بحقّه؟ وبالتالي فإنّ”كورونا” ليست حجّة دامغة وقوّة قاهرة وحالة طارئة وظرفاً استثنائياً لمخالفة القانون في حال هذا المحكوم المدعو ك. ت. وتسهيل عودته إلى لبنان.
ولا يشكّل تدبير المحكمة بوصف قرارها بالمؤقّت، وبمنع توما المذكور من السفر بعد عودته إلى لبنان إلاّ بعد صدور قرار جديد منها بحقّه، ضمانات تخفّف من وقع مخالفتها الصريحة للقانون. واستثنى قرار محكمة الجنايات مذكّرة إلقاء القبض لعدم وجود نصّ قانوني يتيح لها استردادها، إذ يمكنها تأخير إنفاذها وليس استردادها. كما أنّه لا يمكن لقلم المحكمة تنظيم إشعار باسترداد مذكّرة إلقاء القبض لعدم وجود قرار بذلك أصلاً، ولا يمكن لمحكمة الجنايات أن تضع يدها على الملفّ في ظلّ وجود حكم غيابي ما لم يسلّم المحكوم نفسه، ولا يوجد نصّ قانوني يسمح لها القيام بهذا الإجراء وبالتالي باسترداد خلاصة الحكم.
النصّ الحرفي للقرار السابقة
وقد ورد في متن قرار محكمة الجنايات والذي تتفرّد “محكمة” بنشره حرفياً التالي:
“إنّ محكمة الجنايات في بيروت،
بعد الإطلاع على الإستدعاء المقدّم من ك.ت. والرامي إلى استرداد خلاصة الحكم الغيابي الصادر بحقّه عن هذه المحكمة ووقف مفعول مذكّرة التوقيف الغيابية لتمكينه من الحضور من ألمانيا إلى لبنان بسبب جائحة كورونا،
وبعد الإطلاع على صور جواز سفر المستدعي وعلى صورة الحكم الجزائي الصادر بحقّ ف. ف. وعلى الأوراق كافة،
تقرّر المحكمة بالإتفاق:
أوّلاً: إسترداد خلاصة الحكم الغيابي الصادر بحقّ المستدعي ووقف مفعول مذكّرة التوقيف الغيابية الصادرة بحقّه مؤقّتاً وذلك لتمكينه من الحضور من ألمانيا إلى لبنان بسبب وباء الكورونا لقاء كفالة مالية قدرها خمسماية ألف ليرة لبنانية.
ثانياً: إمهاله للحضور إلى جلسة استجواب إداري مهلة شهرين بعد إتمام الحجر الصحّي لدى عودته إلى لبنان وتعيين يوم الأربعاء الواقع فيه 2020/6/3 موعداً لاستجوابه الإداري واعتباره مبلّغاً بواسطة وكيله.
ثالثاً: منعه من السفر لمغادرة الأراضي اللبنانية بعد دخوله إليها إلاّ بعد صدور قرار نهائي بحقّه وتسطير كتاب إلى المديرية العامة للأمن العام لإعلامها بذلك، أيّ السماح له بالدخول إلى لبنان ومنعه من السفر بعد ذلك إلاّ بعد صدور قرار بذلك عن المحكمة.
وتكليف قلم هذه المحكمة إجراء المقتضى وفقاً لما صار بيانه آنفاً.
قراراً صدر في غرفة المذاكرة بتاريخ 2020/4/29 .”
ووقّع القضاة الثلاثة صدقي وأيوب ومعلوف هذا القرار.
ثمّ حرّر إلى النيابة العامة لاسترداد مذكّرة إلقاء القبض ولوقف تنفيذ مذكّرة التوقيف الغيابية، ودفعت الكفالة المالية المذكورة.
الحكم
وبالعودة إلى الحكم الصادر في 26 شباط 2020، فإنّه خلص إلى تجريم ك. ف. ت. بجناية المادة 126 مخدّرات وإنزال عقوبة الأشغال الشاقة المؤبّدة بحقّه وتغريمه مبلغ خمسين مليون ليرة لبنانية واعتباره فاراً من وجه العدالة وإصدار الأمر بإنفاذ مذكّرة إلقاء القبض الصادرة في حقّه وتجريده من حقوقه المدنية ومنعه من التصرّف بأمواله ومن إقامة أيّ دعوى لا تتعلّق بأحواله الشخصية طوال مدّة فراره وتعيين رئيس القلم قيّماً لإدارة أمواله مدّة فراره.
ويطال الحكم أشخاصاً آخرين بجناية الاتجار بالمخدّرات وجنحة تعاطيها. وورد في متنه في ما يتعلّق بالمدعو ك. ت.(مواليد العام 1980) الذي أوقف غيابياً بتاريخ 2019/5/7 ، أنّ “فرع المعلومات” في قوى الأمن الداخلي استدعى الظنين ف.ف. فحضر وأجري له فحص مخبري جاءت نتيجته إيجابية لجهة حشيشة الكيف، وباستماعه أفاد بأنّه يتعاطى جميع أنواع المخدّرات ويستحصل عليها من شخص يدعى ك. ت. يتواصل معه على رقم هاتفه فيرسل أحد مروّجيه إلى مكان يحدّده في سوق الأحد أو الطيونة. وبمراجعة الملفّات الموجودة لدى الضابطة العدلية تبيّن أنّ بحقّ ك. ت. أكثر من خمسة محاضر سابقة بجرم تعاطي المخدّرات من العام 1999 حتّى العام 2004 وقد أوقف. وبشأن هذه الدعوى فقد تعذّر توقيف ك.ت. ولم يحضر جلسات المحاكمة.
“محكمة” – السبت في 2020/5/9
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.