أبحاث ودراسات

مشروع قانون إصلاح وضع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها: محاولة حكومية مليئة بالثغرات/جاد طعمه

المحامي الدكتور جاد طعمه:
يمثّل مشروع قانون الإصلاح المصرفي المُقترح من قبل الحكومة اللبنانية والمحال الى مجلس النواب بتاريخ 11 نيسان 2025 محاولة متأخرة لمعالجة تداعيات الأزمة المالية التي اندلعت في العام 2019 حين قامت المصارف باستغلال انتقاضة تشرين الأول لاغلاق أبوابها في وجه عملائها والتفرغ للقيام بتهريب أموال المحظيين من السياسيين والمصرفيين الى الخارج.
نتج عن هذا الاغلاق تهريب حوالي 6 مليارات دولار الى الخارج كانت كفيلة بداية باتخاذ النائب العام المالي قرارات بحق المصارف وأعضاء مجلس ادارتها لكن النائب العام التمييزي عطل اشارات النائب العام المالي وانعقد اللقاء الشهير في مكتب النائب العام التمييزي مع جمعية المصارف التي نالت يومها الحماية القضائية مقابل الدعم لدولارات صندوق تعاضد القضاة دون اغفال الدور الذي لعبته نقابات المهن الحرة في تشتيت الصوت والسكون التام بدلا من الصراخ، ان كانت اسباب الأزمة الاقتصادية معلومة لكن الاستكانة في مواجهتها تحمل خذلانا غير بريء لا بد من التدقيق في العوامل التي فرضت وجوده طوعا نتيجة الاستفادة أم كرها نيتجة التهديدات. رغم أهمية ما جاء في مشروع القانون لجهة تحديد آليات الإصلاح أو الحديث عن وجوب تصفية المصارف المتعثرة، الا أن التمعن في مضمون المشروع يُثير تساؤلات جوهرية حول مدى فعاليته في تحقيق العدالة للمودعين وضمان استعادة النظام المالي لحيويته يحصل هذا في وقت انكبت فيه اللجان النيابية على دراسة قانون اصلاحي آخر هو قانون رفع السرية المصرفية. سوف نحاول تحليل نصوص المشروعين على ضوء السياق الواقعي للأزمة، مع التركيز على الثغرات التشريعية والتحديات العملية مع الركون الى بعض المبادئ المعتمدة كمعايير دولية لإصلاح الأنظمة المصرفية بناء على تجارب دول مرت بأزمات اقتصادية واستطاعت الخروج منها.
أولاً: الهيئة المصرفية العليا التي نص مشروع القانون على انشائها تتمتع بصلاحيات واسعة مع غياب تام للضمانات باستقلاليتها ونزاهتها، ان قرارات الهيئةً المستقلةً تُتخذ بالأغلبية علما أن الأعضاء سيكونون عبارة عن ممثلين للمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والخبراء. وهذه الهيئة ستتمتع بصلاحيات استثنائية تتضمن امكانية إقالة الإدارات في المصارف وتعيين مدير مؤقت وهي الصلاحية القضائية التي لم يتم تفعيلها عمدا والتي تنص على امكانية اعلان المحكمة المختصة وقف المصرف عن الدفع وتعيين ادارة مؤقتة له والتي لو تم الركون اليها لكانت المصارف اللبنانية قد قامت بتسديد ودائع الناس. ان ايلاء الهيئة هذذه الصلاحية سيثير اشكاليات عدة لعل أبرزها يتمثل في غياب المعايير الموضوعية الواضحة التي سيتم على أساسها تعيين الأعضاء فيها، ما سيفتح المجال حكما لتأثير النخب السياسية في هذه العملية أكثر من ذلك فان قرارات الهيئة لن تنشر بطريقة معللة ما سيُضعف مبادئ الشفافية لمصلحة الاستنسابية وفي كل مرة يفيب التعليل ينشأ الارتياب. ومن الجدير التنبه لضرورة عدم انتماء أعضاء الهيئة من اللبنانيين الى أي من الجهات السياسية أو المصرفية سابا ووجوب اخضاعهم لمبدأ “مراجعة الأداء” كل ستة أشهر من قبل هيئة دولية مشهود لها بالنزاهة والعدالة والزام الهيئة بنشر جميع قراراتها على أن تكون معللة عبر منصة الكترونية وطنية، ولا بد من التوقف عن اطلاق الوعود بعضوية الهيئة لكل من تتم استشارته لتقييم مشروع القانون ووضع ملاحظاته عليه لأننا دخلنا في محاصصة خفية من نوع جديد مع اصحاب الخبرات في المجال المصرفي، ولا ضرر من الاستجابة لمطلب أن يكون نصف أعضاء الهيئة من الخبراء الدوليين شرط اخضاع أدائهم للرقابة أيضا. هنا لا بد من التنويه أنه لمعالجة الأزمة المالية القبرصية جرى تشكيل لجنة مستقلة برقابة دولية وذلك لضمان الحيادية.
ثانياً: حماية المودعين، مشروع القانون يصنف الودائع بين “قديمة” (قبل 2019) و”جديدة”، مع اعطاء الأولوية للأخيرة في التصفية، وقد نص على الزام المؤسسة الوطنية لضمان الودائع بتعويض الودائع الذي اعتبرها “محمية”. لكن لم يلتفت المشروع الى ان التمييز بين الودائع يتعارض مع مبدأ المساواة وهو مبدأ مكرس في الدستور اللبناني. والمشروع لا يحدد آلية تمويل التعويضات، ما يهدد بتحميل الدولة أعباء مالية إضافية. واذا ما أردنا المقارنة مع التجربة اليونانية، فلا بد من لفت النظر إلى أنه جرى تخصيص صندوق سيادي لضمان تعويض الودائع الصغيرة دون تمييز بين قديمة وجديدة ومحمية وغير محمية.
ثالثاً: التخفيض القسري للودائع (Bail-in). يسمح المشروع بتحويل ديون المودعين إلى أسهم أو تخفيض قيمتها. لكن هذا الإجراء يأتي تنفيذه بعد 6 سنوات من تجميد الودائع في المصارف، ما يُضاعف الخسائر على المودعين. وهذا المقترح لا يفرق بين المودعين الصغار وكبار المستثمرين، وفي هذا مخالفةً لمبدأ “القدرة على التحمل”. في إسبانيا ولاتمام عملية النهوض بالوضع الاقتصادي جرى تخصيص أموال المساهمين والمستثمرين الكبار لامتصاص الخسائر قبل المساس بالودائع الصغيرة.
رابعاً: غياب آليات محاسبة الفساد. يمنح مشروع القانون المقترح حصانةً قانونيةً لأعضاء الهيئة والمصرفيين إلا في حالات “الاحتيال الصريح”. لكن هذا النص يُعيق ملاحقة المتورطين في الأزمات السابقة لا سيما وأنه ثبت حصول عمليات تهريب للأموال تحت إشراف مصرف لبنان وبالتنسيق مع جمعية المصارف، كما أنه يسجل على مشروع القانون عدم الزامه في أي من مواده مصادرة أموال المختلسين لتعويض المودعين. ان اي عملية اصلاح للوضع المصرفي واعادة هيكلة القطاع لا بد وان تترافق مع اقرار مشروع قانون رفع السرية المصرفية على جميع الحسابات المشبوهة وعدم ربط الأمر بمجرد حالات اعادة هيكلة المصارف كما ينبغي تفعيل قانون استرداد المال العام المنهوب وتفعيل اتفاقات تعاون مع الدول التي يحتمل بأن تكون الأموال قد هربت اليها. في آيسلندا جرى محا على ان تكون الأموال المستعادة مخصصة لتعويض أصحاب الودائع المنهوبة.
خامساً: فصل المصارف عن السياسة وتمكين الناس من المراقبة. من اجل تحقيق هذا الهدف لا بد من منع أي مسؤول سياسي (حالي أو سابق) من تقلد مناصب في المصارف خلال فترة الاصلاح المصرفي، ولا بد من الزام المصارف بكشف هوية المساهمين الحقيقيين وتجريم ظاهرة الأسماء الوهمية. ولا ضرر من انشاء منصة الكترونية وطنية لتمكين كل مهتم من الاطلاع على جميع قرارات الهيئة المصرفية العليا وتقاريرها كما الإبلاغ عن الفساد أو التلاعب عبر قنوات مشفرة مع التأكيد على حق الوصول إلى المعلومات لكل مواطن مهتم والغاء أي استثناءات.
ان القراءة الأولية لمشروع القانون المحال الى مجلس النواب والتي تحتاج الى تعمق أكبر دون شك ولا ريب تمكننا من التوصل الى خلاصات أهمها:
1- وجوب إصلاح طريقة تعيين أعضاء الهيئة المصرفية العليا بحيث يتم اشتراط توافر الخبرة الدولية في عضوية الهيئة وإلزامها بنشر التقارير المفصّلة عن قراراتها التي يجب ان تكون معللة.
2- وجوب ضمان حقوق المودعين وإلغاء التصنيف بين الودائع القديمة والجديدة أو بين ودائع الأفراد والودائع الاجتماعية كما لا بد من إنشاء صندوق طوارئ سيادي بضمانات دولية لتعويض الودائع الصغيرة.
3- وجوب مراجعة الآلية المقترحة للتخفيض القسري واستثناء الودائع التي تبلغ قيمتها أقل من 100 ألف دولار ولا ضرر من ايجاد صيغة تمكن المودعين من المشاركة في صنع القرار من خلال اجراء استفتاءات عامة.
4- وجوب تعزيز المحاسبة والشفافية. هذا الأمر لا يتم الا من خلال إلغاء كل الحصانات القانونية في حالات الاشتباه بالضلوع في عمليات فساد وهناك واجب لخلق اطار يضمن حصول التعاون الدولي لاستعادة الأموال المهربة التي لا يمكن تجاهلها لأن هذا التجاهل يصب في مصلحة مسببي الأزمة الاقتصادية في البلاد.
يمثّل مشروع قانون الاصلاح في القطاع المصرفي خطوةً في الاتجاه الصحيح لأنه يتضمن اقرارا بوجوب التوجه نحو اعادة تنظيم القطاع المصرفي، لكنه في المضمون الذي ورد فيه يبقى قاصرا وبعيدا جدا عن معالجة جذور الأزمة المتمثلة في غياب المحاسبة واختلال موازين القوى. إن أي إصلاح حقيقي يتطلب جرأة في كسر الهيمنة السياسية على المصارف، وإعادة توزيع الخسائر بعدالة دون تحميل المودعين أي مسؤولية لعدم اقترافهم أي خطأ، وبناء نظام رقابي فاعل ومستقل. دون ذلك، سيظل القانون كغيره من القوانين الاصلاحية في لبنان مجرد حبر على ورق بحيث يبقى المودعون ضحايا لعملية فساد كبرى لم يُحاسَب فيها أحد.
“محكمة” – السبت في 2025/4/19

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!