مقالات

الفجر بزوغه قريب (لمناسبة يوم المرأة العالمي)/ أمل حداد

النقيبة أمل فايز حداد*:
لا يزال العنف ضد المرأة مدرجاً في خانة الخصوصيات العائلية المسيّجة بالعادات والتقاليد . وبات مجرد الحديث عنه في عالمنا العربي ومجتمعنا اللبناني يثير مقاومة .
والحقيقة أن تجذّر الثقافة الذكورية يؤلف سداً منيعاً في وجه أي اجتهاد أو تجديد في نظام القيم الذي يرعى حياتنا الاجتماعية.
ويتحول العنف ، أحياناً ، من عنف ظاهر إلى عنف مستتر هو العنف الرمزي :عنف هادىء ، لا مرئي ، لا محسوس ، حتى بالنسبة إلى ضحاياه . هكذا تغدو الخطوة الاولى لمناهض العنف هي محاربة إخفائه ووجوب فضحه وشقّ غلاف الصمت المضروب حوله ، سواء مورس في المكان العام أو في المكان الخاص .
تقدّر منظمة الصحة العالمية أن ربع النساء في العالم يتعرّضْن للاغتصاب أو الضرب أو ممارسة الجنس قسراً خلال حياتهن. أما في لبنان حيث الثقافة السائدة وقوانين الاحوال الشخصية تخضع للمرجعيات الدينية المختلفة ، فهي تضفي هالة من القداسة على الاسرة والعلاقات العائلية . إلا أن ثقافة العنف ضد المرأة تخترق الطوائف والمذاهب وحدود التعليم وحدود الأديان والمدن .
وقد تنبهت الحركات النسائية والحقوقية للعنف الثقافي باكراً . وهكذا ظهرت المادة الرابعة من إتفاقية الغاء جميع اشكال التمييز ضد المرأة (1979) الذي تمّ تبنّيه سنة 1993 حيث تنصّ على ما يلي: ” على الدول إدانة العنف ضد المرأة . ولا يجوز الاستشهاد بأي عادات أو تقاليد دينيّة لتجنب التزاماتها في ما يتعلق بالقضاء على العنف “.
كما نلاحظ أن المجتمع اللبناني يتجه نحو تخطّي حاجز الصمت الذي يلفّ حياة النساء فشهدنا انتاجاً اكاديمياً متنوعاً ورصداً لحالات عدّة (جرائم شرف ، ضرب الزوجات ، العنف النفسي ، العنف الجنسي ، …) . وهذا ما يجعلنا نعتبر أن الابحاث عن العنف ضد المرأة لا تزال قليلة قياساً إلى أهميّة الموضوع .
وأثبتت الدراسات أن العنف ضد المرأة في لبنان هو عنصر أساسي من عناصر الثقافة اللبنانية . فسلطة الأب والأخ والزوج والابن هي وجوه متعدّدة لمشكلة واحدة هي العداء العميق والمستمر للمرأة التي هي ملك خاص للرجل . ” مراتي وحرٌّ بها ” . كل شيء يجب أن يحرم ما عدا طاعة الازواج والأولياء ولزوم البيت .
وقد تكون إحدى العقبات الرئيسية للتعرف على العنف تكمن في عدم اعتراف النساء بوجوده . وقد تكون المرأة تعجز عن البوح، أو تسلّم بالعنف وتعتبره جزءاً من الحياة الطبيعية في ظل انتشار هذه الظاهرة في الحياة الأسرية في جميع شرائح المجتمع ومناطقه ومذاهبه . فالإناث يتعرَّضْن للعنف منذ ولادتهن حتى وفاتهن . ووأد الاناث من البشر لم يختفِ تماماً من التاريخ بل هو يتواصل بلا انقطاع ويتّخذ اشكالاً أخرى ملطفة ولكنها مبرمجة ومهيكلة. (وإذا المَوْءُودة سُئِلت بأي ذنب قُتِلَتْ) .
والواقع أن الانظمة تتغير. غير أن المرأة تظّل كبش فداء لألاعيب السياسيين ولمهاترات مجانين الهوية وأشباح الماضي وأعداء الحرّية وفقهاء الظلام وكهّانه .
هذا ، ولا تزال الحكومات العربية والحكومة اللبنانية على تحفظها لدى توقيع ” اتّفاقية مناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة”. فمتى ترفع كل التحفظات على اتفاقية ” السيداو ” المذكورة ويتم تطوير الممارسات والسياسات الرامية الى تفعيل مشاركة المرأة في الحياة العامة ؟ ومتى تتحقق المساواة التامة والفعلية بين النساء والرجال واقعاً وتشريعاً ؟ فممّا لا شك فيه أن هذه اللامساواة في هذه الحرية التي يستمتع بها الرجل ليسلب حرية المرأة هي عنف قانوني وسياسي منظم للنساء اللبنانيات منه نصيب كبير. تدل على ذلك التشريعات التي تقوم على نظام القوامة ، ونظام الرجل رأس المرأة ، ونظام خضوع النساء لرجالهن في كل شيء ، وما يترتب على ذلك كله وسواه من وضعيّة دونيّة للمرأة .
بعد اكثر من قرن على المطالبة بحقوق النساء نلاحظ اننا اهتدينا إلى إنتاج أسماء أخرى للامساواة ، وقد أسبغنا على عنف اللامساواة هذا ألقاباً تلطت وراء ” الخصوصية الثقافية وثوابت الأمة والمقدسات “.
لقد آن الأوان كي نجهر بوجوب التخلّي عن التستير والتغطيات والتلعثم وحتمية المطالبة بما يضمن المساواة والحرية بين الجميع. ولا يكون ذلك إلّا بفصل الدين عن السياسة ، وفصل الدين عن التشريع ، وإخضاع العلاقات بين الرجال والنساء للقوانين المدنية الحديثة ، ولا سيما قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية ، وقوانين رادعة تمنع صراحة أيّ تمييز ضد المرأة تحت طائلة عقوبات رادعة ، واستحداث قوانين تحمي المرأة من العنف لا سيما العنف المنزلي والعنف في أماكن العمل.
وإننا، في سبيل النهوض بالمرأة العربية عموماً ، واللبنانية خصوصاً ، ندعو إلى مزيد من تواصل عمليات الاصلاح القانوني التي من شأنها القضاء على كل أنواع التمييز القانوني ضدها ، وإلى اعتماد السياسات التي تجعل مبدأ المساواة بين الجميع واقعاً ملموساً ، وإلى رفع التحفظات على الاتفاقيات الدولية ، وترك التردد الانفصامي بين المرجعية الحقوقية والمرجعية الدينية.
أجل! إن إحلال المساواة التامة بين النساء والرجال وبين المواطنين أجمعين خليقٌ بأن يحتل مركز الصدارة في قوانيننا ودساتيرنا وسياساتنا وبياناتنا الوزارية .
في الختام، أُزجي تحية أخوية لطريدات عالم الفحولة، حبيسات البيت والخمار، سجينات الماقبليات البيولوجية والماورائيات التي تجعل منهن أوعية سلبية صامتة، وأشدّ على أيديهن وأشدّد عزائمهن ، فالفجر بزوغُه قريب، ورحاب الحرية والمساواة تنتظرنا.
* نقيبة المحامين في بيروت سابقًا.
“محكمة” – الجمعة في 2024/3/8

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!