أبحاث ودراسات

الإعتكاف القضائي وحقوق المُتقاضين.. مقاربة قانونية/ سلمان بركات

المحامي سلمان أحمد بركات:
يشهد لبنان منذ عدة أشهر إعتكافاً غير مسبوق من قبل السلطة القضائية، بدأ في التوقف عن النظر في الدعاوى على إختلاف أنواعها، باستثناء دعاوى الموقوفين، والدعاوى المُستعجلة، ثم تدرج بعد ذلك ، وصولاً إلى اعتكاف عدد كبير من القضاة عن النظر حتى في الدعاوى المذكورة، ما أدى إلى شلل العمل القضائي وتوقفه . وكان الدافع إلى ذلك تحسين الأوضاع المادية للقضاة، وتحصين إستقلالية السلطة القضائية . ومع التأكيد على أحقية هذه المطالب، فإن إعتكاف القضاة عن العمل، لا يمكن التعامل معه كباقي القطاعات التي تُنفذ إضراباً عاماً مفتوحاً . فللقضاة خصوصية وحيثية لصيقة بحقوق الإنسان. لذلك، نظم المُشرع العمل القضائي في نصوص وتشريعات تحكمه وترعاه.
إنطلاقاً من أهمية هذا الموضوع، وآثاره السلبية على حقوق المواطنين، وعلى المجتمع بأسره، ولأن المحامي معني بإزالة العراقيل والعقبات التي تعترض حقوق موكليه بشكل خاص، وحقوق الناس والمتقاضين بشكل عام، وهذا من واجباته التي تفرضها نصوص قانون تنظيم مهنة المحاماة. وجدت من المفيد مقاربة هذه المعضلة، ومدى موافقتها للقانون، عارضاً ذلك في عدة مطالب، هي:
1. التحركات المطلبية للقضاة في لبنان تاريخياً.
2. تعريف ومعنى الإعتكاف القضائي.
3. مدى موافقة الإعتكاف القضائي للنصوص القانونية ذات الصلة.
4. النتائج والمخاطر التي تنتج عن الإعتكاف القضائي.
المطلب الأول: التحركات المطلبية للقضاة في لبنان تاريخياً:
شهد السلك القضائي في لبنان تاريخياً تحركات مطلبية عدة، كان أهمها تلك التي حصلت في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، حيث بدأها خريجو معهد الدروس القضائية آنذاك، وقد نجحوا في جولاتهم على قصور العدل في جمع توقيع 172 قاضياً من القضاة العدليين على عريضة مطلبية. مع الإشارة إلى أن عدد القضاة كان يبلغ يومها 270 قاضياً، ومن القضاة الذين وقعوا على تلك العريضة الرئيس غبريال المعوشي الذي كان يومها رئيساً لمحكمة جنايات بيروت، والرئيس حسن قواس وكان رئيس محكمة جنايات القتل في لبنان، والقاضي منيف حمدان الذي كان محامياً عاما ً في النيابة العامة في بيروت. وقد شكل هؤلاء نواة اللجنة القضائية التي قدمت دراسة وعريضة لوزير العدل يوسف جبران بتاريخ 1979/12/27، كما قدمت نسخة منها إلى مجلس القضاء الأعلى.
ثم تابعت هذه اللجنة تحركاتها ودعت القضاة إلى جمعية عمومية في 1982/3/27 وقدمت توصية بالدعوة إلى إستقالة القضاة وتوقفهم عن العمل فوراً إذا لم تتحقق مطالبهم. وظهر تباين داخل الجمعية العمومية بين خيارين “الإضراب أو تقديم إستقالات جماعية”.
وقد نشأ الخلاف والتباين إنطلاقاً من مدى مشروعية الإضراب. وفي جمعية عمومية أخرى إنعقدت بتاريخ 1982/4/24 قرر القضاة التوقف عن العمل حتى تحقيق مطالبهم، ما أظهر شرخاً بين القضاة ومجلس القضاء الأعلى، الأمر الذي دفع الأخير إلى إصدار بيان في الثاني من أيار من نفس السنة تبني فيه غالبية المطالب، وضمنه تحذيراً شديد اللهجة داعياً القضاة المتوقفين عن العمل إلى إستئناف أعمالهم فوراً، “واعتبار كل إعلان أو بيان أو تصريح يصدر عن أحد القضاة إخلالاً جوهرياً بالخلقية القضائية يستوجب تطبيق القانون رقم 65/49 تاريخ 1965/9/6، وهو ما يُعرف بقانون التطهير”.
وأدى الجدل الحاصل حول ذلك إلى تعليق الإضراب، وعلق يومها وزير العدل يوسف جبران على هذه الخطوة أنها انسجام مع مبدأ “الإنضباطية القضائية”.
ثم حصل الإجتياح الإسرائيلي للبنان في الخامس من شهر حزيران 1982، فعلق مجلس القضاء الأعلى أي تحرك تغليباً منه للمصلحة العامة على المصالح الخاصة.
أدت التحركات المطلبية المشار إليها إلى تحقيق مطلبين مهمين، الأول كان إنشاء صندوق تعاضد القضاة بموجب المرسوم الإشتراعي رقم 52 تاريخ 1983/7/29، والذي شكل أماناً إجتماعياً للقضاة فيما بعد. والمطلب الثاني تمثل بتعديل النصوص القانونية لأجل تدعيم سلطة القضاء، وطالت هذه التعديلات المادة 44 من قانون تنظيم القضاء العدلي، التي أوجبت بعد التعديل مرور أي مطلب جماعي أو وظيفي للقضاة بمجلس القضاء الأعلى ومراعاة المرسوم الإشتراعي رقم 112 تاريخ 1959/6/12 (نظام الموظفين)، مع الإشارة إلى أن المرسوم المذكور يحظر الإضراب.
في عام 1997 حصلت تحركات مطلبية أخرى ، رفعت المطالب بشأنها إلى مجلس القضاء الأعلى وفقاً لنص المادة 44 السالفة الذكر.
في عام 1998 إستطاع القضاة الحصول على مطالب مضاعفة رواتبهم، ثم حصل عام 1999 تحرك إحتجاجي من بعض القضاة إعتراضاً على إستدعائهم إلى خدمة العلم.
وتوالت التحركات بعد ذلك، فكان إعتكاف القضاة في شهر آيار عام 2014 رداً على قرار تقصير العطلة القضائية من شهرين إلى شهر واحد . ثم إعتكاف شهر آذار عام 2017
إعتراضاً على مشروع القانون التعديلي لسلسلة الرتب والرواتب وكيفية تعديلها، واعتكاف الصيف من العام ذاته وللأسباب عينها. وتحرك في شهر آذار عام 2018 حيث طلبت مجموعة من القضاة عبر وسائل التواصل إعفائها من مهامها في لجان القيد المشرفة على الإنتخابات النيابية، فأصدر مجلس القضاء الأعلى بياناً ينفي فيه أي إعتكاف للقضاة.
وفي العام المذكور، تم إنشاء جمعية نادي القضاة حيث وقع على نظام تأسيسها 32 قاضياً وأودع طلب التأسيس لدى وزارة الداخلية في 2018/4/30 .
ثم توالت التحركات حتى وصلنا إلى الإعتكاف القضائي الراهن، الذي يُعتبر أطول إعتكاف في تاريخ القضاء اللبناني، وأشده تأثيراً على حقوق الناس ومصالحهم، ومصلحة المجتمع.
بعد هذا العرض التاريخي، ومقاربة موضوع الإعتكاف من الناحية القانونية، لابد من الوقوف على تعريفه ومعناه.
المطلب الثاني: تعريف ومعنى الإعتكاف القضائي:
تعريف الإعتكاف في اللغة.
إعتكاف: إسم ، مصدره إعتكف، إستمر إعتكافه في البيت زمناً طويلاً، لزومه وإقامته فيه.
الإعتكاف على تحصيل العلم: التفرغ له وعدم الإنصراف عنه.
الإعتكاف: الإقامة في المسجد على نية العبادة.
وعرف أيضاً بأنه الإحتباس والإقامة على الشيئ بالمكان.
ــ في الإصطلاح الفقهي والشرعي:
هو المكث في المسجد بقصد التعبد لله وحده، وهو مشروع قرآناً وسنة وإجماعاً.
وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: ” ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون”.
ــ أما في المصطلح القانوني، فلم نجد أي تعريف للإعتكاف، ولكن إنطلاقاً من التعريف اللغوي والإصطلاحي، نرى أن الإعتكاف القضائي يمكن تعريفه بأنه المكوث والإقامة الدائمة في المحاكم دون العمل والإستمرار عليه.
ويصح توصيف الإعتكاف القضائي بأنه الإمتناع عن العمل لأي سبب من الأسباب، (أسباب الإعتكاف القضائي الراهن تحسين أوضاع القضاة مادياً وإستقلالية السلطة القضائية).
والإعتكاف يساوي الإستنكاف في النتيجة، إذ كلاهما يؤدي إلى الإمتناع عن النظر بالدعاوى والإمتناع عن إحقاق الحق.
وإذا كانت النصوص القانونية لم تضع تعريفاً للإعتكاف، لكنها عرفت الإستنكاف عن إحقاق الحق، حيث نصت المادة الرابعة من قانون أصول المحاكمات المدنية على أنه: “لا يجوز للقاضي تحت طائلة إعتباره مستنكفاً عن إحقاق الحق:
• أن يمتنع عن الحكم بحجة غموض النص أو إنتفائه.
• أن يتأخر بغير سبب عن إصدار الحكم ….”
وينهض من هذا النص أن الإستنكاف عن إحقاق الحق هو كل إمتناع أو تأخير في إصدار الحكم يقوم به القاضي بغير سبب.
ويلتقي الإعتكاف القضائي في نتائجه مع الإضراب أيضاً، فكلاهما يوقف العمل ويجمد الإدارة ومصالح الناس والمجتمع، ويعرف الإضراب بأنه “إتفاق بعض العمال على الإمتناع عن العمل، مدة من الزمن دون أن تنصرف نياتهم إلى التخلي عن وظائفهم نهائياً، بقصد إظهار استيائهم من أمر من الأمور، أو الوصول إلى تحقيق بعض المطالب، لا سيما المتعلقة بالعمل، كرفع الأجور”.
وبذلك نجد أن الإعتكاف القضائي الراهن في لبنان يتوافق مع تعريف الإستنكاف عن إحقاق الحق من جهة وفقاً لتعريف المادة/4/أ.م.م. السالفة الذكر. ويتطابق أيضاً مع مفهوم وتعريف الإضراب من حيث الآليات والأهداف والنتائج.
وعليه ، يضحى الإعتكاف موضوع الدراسة إستنكافاً عن إحقاق الحق، وإضراباً عن العمل القضائي، مهما أعطي من توصيفات ، وأطلقت عليه التسميات.
بعد هذه المقاربة لتعريف الإعتكاف القضائي، لا بد من الخوض في بحث مدى توافق الإعتكاف المذكور مع النصوص القانونية ذات الصلة.
• المطلب الثالث: مدى موافقة الإعتكاف القضائي للنصوص القانونية ذات الصلة:
كما أسلفنا، يقوم القضاة منذ مدة بالإعتكاف عن العمل في المحاكم، مطالبين بتحقيق مطالب لهم ، صار بيانها أعلاه. ويحاول الكثير منهم ويصر على إضفاء المشروعية على هذا الإعتكاف، دون تقديم الأدلة التي تؤكد مشروعيته .مع أحقية هذه المطالب، وأهمية تحقيقها في توفير الأمان الإجتماعي والإستقرار النفسي والصفاء الذهني للقاضي أثناء عمله القضائي.
لا مناص من التساؤل عما إذا كان الإعتكاف هو السبيل الانجع لتحقيق المطالب، وعما إذا كان يجوز اللجوء إليه قانوناً في ظل النصوص القانونية التي ترعى عمل القضاء.
1- الإعتكاف ليس السبيل الانجع لتحقيق المطالب:
لا يشكل الإعتكاف السبيل الوحيد أو الأنجع لتحقيق مطالب القضاة ، سيما وأن مضاره أكثرمن فوائده على الأفراد و المجتمع، وعلى القضاة أنفسهم ، كون الإعتكاف يتسبب بتوجيه الإتهام لهم بتفضيل المصالح الذاتية الخاصة على الصالح العام. ناهيك عن أنه يمس بهيبة القضاة والسلطة القضائية.
وقد عبّر العديد من القضاة ، منهم مازال يمارس مهامه القضائية ، ومنهم من تقاعد، بأنه لا يجوز اللجوء إلى مثل هذا الأسلوب، فبرأي القاضي الدكتور فوزي أدهم (متقاعد، قاضي شرف) “أن ما يحصل هو أكثر بكثير من إضراب ويشكل سابقة لم يعرفها لبنان ولا العالم، وتحصل للمرة الأولى، ولا يمكن للقاضي أن يعلن إضرابه”، ويضيف:”لو كنت مستمراً في السلك القضائي لم أكن لأُشارك بالإضراب”.
2- مدى جواز اللجوء إلى الإعتكاف في ظل النصوص القانونية التي ترعى وتنظم عمل القاضي:
من المعلوم أن ما يرعى عمل القاضي العدلي هو قانون تنظيم القضاء العدلي، والقوانين ذات الصلة.
تنص المادة /44/ من قانون تنظيم القضاء العدلي على ما يلي:”القضاة مستقلون في إجراء وظائفهم ولا يمكن نقلهم أو فصلهم عن السلك القضائي إلا وفقاً لأحكام هذا القانون مع مراعاة الأحكام الواردة في المرسوم الإشتراعي رقم 112 تاريخ 12/6/1959 (نظام الموظفين). كل مطلب جماعي وظيفي يجب أن يمرعبر مجلس القضاء الأعلى..”.
يتبيّن من هذا النص أنه تضمن أمرين أساسيين في ما يخص المطالب الجماعية الوظيفية للقضاة.
الأمر الأوّل ، مراعاة أحكام نظام الموظفين. والأمر الثاني، وجوب مرور المطالب عبر مجلس القضاء الأعلى.
وبالعودة إلى نظام الموظفين، من الواضح أنه يمنع الإضراب، وهذا ما تنص عليه المادة / 15 / من النظام المذكور. وبالتالي لا يصح اللجوء إلى الإضراب. والإعتكاف هو إضراب وفق آلياته وأهدافه ونتائجه كما أسلفنا.
أضف إلى ذلك ، إن اللجوء إلى الإعتكاف الراهن لم يمر بمجلس القضاء الأعلى، بل شدد المجلس المذكور على وجوب العودة عنه أكثر من مرة ، وفقاً لما ورد في وسائل الإعلام ، لكن لم يحصل ذلك، وهذا يؤكد مخالفته لنص المادة /44/ من قانون تنظيم القضاء العدلي .
هذا إضافة إلى مخالفة الإعتكاف لمبدأ إستمرارية المرفق العام، وعدم تعطيله، ومخالفته لمبدأ وجوب عدم الإستنكاف عن إحقاق الحق المنصوص عليه في المادة /4/ من قانون أصول المحاكمات المدنية التي صار ذكرها سابقاً.
بعد كل ما تقدم، ننتقل إلى النتائج والمخاطر التي تنتج عن الإعتكاف القضائي.
المطلب الرابع ــ نتائج ومخاطر الإعتكاف القضائي:
يلعب القضاء دوراً أساسياً في المجتمع، فهو يحافظ على النظام الإجتماعي ، ووظفيته الأساسية حل النزاعات ، من خلال تطبيق المعايير والمبادئ والنصوص القانونية المعمول بها.
والسلطة القضائية من أهم سلطات الدولة وأجهزتها، لأنها تعمل على حمايتها من التجاوزات المحتملة التي قد ترتكب من السلطتين التشريعية والتنفيذية وأجهزتهما.
ومن أهم وظائف السلطة القضائية توفير العدالة للناس وحماية حقوقهم وتوفير الأمن الإجتماعي، خشية من الإضطراب وعدم الإستقرار، ولجوء الأفراد إلى أساليب القوة الذاتية التي كانت سائدة في العصور القديمة للمجتمع الإنساني. وقد بدأت هذه الظواهر تتفشى داخل المجتمع اللبناني، من الأحداث الأمنية وجرائم السرقة والقتل، ودخول المصارف واسترداد الودائع بالقوة. ولو كانت المحاكم تمارس عملها ودورها لما وصلنا إلى ذلك.
وللإعتكاف القضائي نتائج وآثار ومخاطر على حقوق الأفراد من جهة، وحقوق المجتمع من جهة أخرى، فما هي هذه الآثار؟
1 ــ آثار الإعتكاف ومخاطره على حقوق الافراد:
من هذه الآثار:
أ ــ الإعتكاف يحرم الأفراد من حقهم الطبيعي في اللجوء إلى القضاء وهذا يُخالف المادة /7/أ.م.م. التي تُعطي كل صاحب حق مراجعة القضاء، كما يخالف نص المادة /10/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يكفل الحق عينه.
ب ــ و يؤدي الإعتكاف إلى تأخير إنتفاع صاحب الحق بحقه، ما يلحق ضرراً أكيداً بصاحب الحق. ومن المعلوم أن “العدالة البطيئة” تقارب في مفاعيلها “اللاعدالة”، كما أن الإعتكاف شكل من أشكال الإستنكاف عن إحقاق الحق، وفقاً لما أسلفنا.
ووفقاً لما هو مستقر عليه نصاً واجتهاداً “يأخذ الإستنكاف عن إحقاق الحق، عدة أشكال، من أوضحها التراخي المتعمد عن النظر في القضية المعروضة، وكذلك تأخير الحكم إلى حين تغير الظروف، وتبدل الحيثيات ، بما يصبح معه الحق مهدوراً وتضحي معه المنازعات القضائية من غير طائل.
ج ــ ويشكل الإعتكاف القضائي مساساً بحقوق المتهم في محاكمة عادلة في القضايا الجزائية، وبالضمانات التي توفر ذلك، لا سيما في ما يتعلق بالموقوفين. ومن هذه الحقوق والضمانات، الحق في عدم الإحتجاز تعسفاً، وهو ما كفلته المادة التاسعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة التاسعة فقرة (1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
ويمس الإعتكاف أيضاً بقرينة البراءة المنصوص عليها في المادة/11/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة /14/ من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ويمس الحق بإخلاء سبيل الموقوف الممنوح له بموجب نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية لا سيما المواد 107 و 108 و 112 و 113 و 114 منه. مما يشكل إنتهاكاً لحق الإنسان في الحرية أيضاً المكفول بالتشريعات الدولية والداخلية.
هذه بعض الآثار والمخاطر على الأفراد، التي تنتج عن الإعتكاف القضائي، فماذا عن آثاره ومخاطره على المجتمع؟
2 ــ آثار الإعتكاف ومخاطره على المجتمع:
ينتج عن الإعتكاف القضائي مخاطر عديدة على المجتمع، نذكر منها:
أ ــ وفقاً لما أسلفنا، يلعب القضاء الدور الأساس في حماية المجتمع، وحفظ الحقوق. وتوقف القضاء عن العمل، يؤدي إلى تعميم الفوضى المجتمعية، وانهيار المؤسسات، وهدم كيان الدولة، فتنتشر الجريمة وتعمّ شريعة الغاب.
ب ــ يُساعد الإعتكاف على ازدياد الازمة الإقتصادية الداخلية، فعدم الحكم أو البت بالدعاوى العالقة أمام المحاكم والتي تتضمن حقوقاً مالية منقولة أو غير منقولة، يؤدي إلى تجميد هذه الحقوق والأموال ، ويزيد من جمود الدورة الإقتصادية في البلاد.
ج ــ كما يؤدي إلى هروب ما تبقى من رؤوس أموال في الوطن إلى الخارج، لأن القضاء بحسن إدارته وعمله يشكّل الضمانة للإستثمار في الداخل.
د ــ ويؤثر الإعتكاف على القضاء نفسه، ومن آثار ذلك :
ــ يؤدي إلى إهتزاز صورته، وهيبته، فيصوره وكأنه يراعي مصالحه الخاصة على المصالح العامة، في حين أن هيبة القضاء أساس عمله.
ــ الإنقسام الحاصل داخل الجسم القضائي، في ما يتعلق بالإعتكاف، بغض النظر عن النسب المتفاوتة بين من هم مع الإعتكاف ومن هم يرفضونه بشكله الراهن، يساعد على إهتزاز الهيبة القضائية، ويشجع على الخروج عن قرار السلطة القضائية وإدارتها، الأمر الذي يساهم في إضعاف السلطة القضائية، في الوقت الذي يُعمل فيه على تحقيق إستقلاليتها بالكامل.
ــ يراكم الإعتكاف الملفات داخل المحاكم، بحيث يجد القضاة بعد رجوعهم إلى العمل صعوبة في متابعة إجراء المحاكمات، وإرهاقاً لهم في العمل، وقد يؤدي ذلك إلى التسرع في البت بالملفات، وإصدار الأحكام . وقد يكون ذلك على حساب حسن الإلتزام بالإجراءات القضائية، ما يؤثر سلباً في الحقوق.
هـ ــ وللإعتكاف تأثير سلبي وحتمي على عمل المحامين. ونعرض من ذلك التالي:
ــ المهنة الوحيدة التي يمارسها المحامي هي مهنة المحاماة، فمحظور عليه وفق قانون تنظيم المهنة ممارسة أي عمل يتناقض معها، وهذا يعني أن المحامي يُنتج إذا عَمل، وفي ظل الإعتكاف القضائي الراهن، توقف عمل المحامي، وانعدم دخله، وتحولت حياته ومعيشة أسرته إلى أزمات متفاقمة.
ــ واهتزاز الثقة بالقضاء وهيبته، يؤدي حتماً إلى إبتعاد الناس عن اللجوء إلى القضاء، ويبعدهم عن المحامين، حيث لم يعد لهم حاجة في ذلك.
ــ إن تراكم الملفات أمام المحاكم بسبب الإعتكاف، سوف يرهق المحامي في عمله، ومتابعته لملفاته ، وسوف يعاني في هذا السياق، ما يعاني منه القاضي تماماً.
ونظراً لمخاطر الإعتكاف القضائي على المجتمع والأفراد ، وعلى مهنة المحاماة والجسم القضائي، دعا نقيب المحامين في بيروت الأستاذ ناضر كسبار ومعه مجلس النقابة، القضاة إلى العودة عن إعتكافهم، مع التأكيد على أحقية مطالبهم.
وكذلك فعلت نقيبة المحامين في الشمال الأستاذة ماري تراز القوال.واتصلا برئيس مجلس القضاء الأعلى لإبلاغه بمبادرتهما لحل هذه المعضلة .
بعد هذه المقاربة القانونية للإعتكاف القضائي، هل يمكن معالجتها؟ وماهي وسائل ذلك؟ ولهذه الغاية نعرض بعض المقترحات.
مقترحات:
ــ ضرورة الإلتزام بقرارات السلطة القضائية وإدارتها، لأن خلاف ذلك يؤدي إلى تشرذم وتشتت الجهود، وتصوير القضاء مقسماً غير موحد، وهذا لا يؤدي إلى النتائج المرجوة، كما لا يجوز الخروج على إدارة المرفق العام القضائي.
ــ تحقيق المطالب القضائية من قبل السلطة، وأهمها زيادة رواتب القضاة بما يوفر لهم العيش اللائق والكريم، وتعزيز الضمانات الإجتماعية لهم ولأسرهم. وهذا واجب على السلطة، وحق للقاضي، إذ لا يمكن أن يحقق القاضي رسالته في تحقيق العدالة، دون استقرار إجتماعي، وصفاء ذهني.
ــ إقرار مشروع قانون إستقلالية السلطة القضائية فوراً، دون أي تباطؤ، وضمان الإستقلال المادي للمرفق القضائي، يخرجه من التجاذبات السياسية في ما يخص حقوقه المادية وموازنته السنوية.
ــ العمل فوراً على إنهاء الإعتكاف القضائي، والرجوع عنه، بشكل يضمن الحفاظ على هيبة القضاء وصورته أمام الناس، علماً أن المتضرر الأكبر من الإعتكاف هو المواطن لا السلطة، ولا يجوز التمادي في الإضرار بالناس ومصالحهم.
ــ تشكيل لجنة من كل من تربطه علاقة مباشرة بالمرفق القضائي (مجلس القضاء الاعلى، قضاة الشورى، القضاء الشرعي، ديوان المحاسبة ، نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس ) للعمل على وضع ورقة مطالب موحدة، ترفعها إلى الحكومة، وتعمل على إقرارها بموجب تشريعات واضحة.
ــ وفي الموازاة تفعيل دور التفتيش القضائي لمنع أي تباطؤ في العمل القضائي، وأية ممارسة تضر بسمعة القضاء.
هذه بعض مقترحات، وقد يكون غيرها الكثير، غايتنا منها الإضاءة على بعض وسائل الحلول، مع علمنا أن البعض قد يرى غيرها أيضاً، وما مقصدنا من ذلك سوى الصالح العام.
المراجع:
ــ القرآن الكريم ، سورة البقرة ـ الآية 187
ــ الحدائق الناضرة ـ 13 ـ 455
ــ سليمان الطاوي، مبادئ القانون الإداري، الجزء الثاني، نظرية المرفق العام، القاهرة، ص 177.
ــ مجمع المعاني الجامع.
ــ تصريح القاضي الدكتور فوزي ادهم، “سكاي نيوز عربية”.
ــ المفكرة القانونية، مقال، عندما أضرب القضاة في لبنان ـ تجارب من سنوات الحرب الاهلية وما قبلها(1970 ـ 1990).
ــ مجلة الجريدة الإلكترونية ـ مقال الدكتور بلال عقل الصنديد، بعنوان المجلس الدستوري اللبناني والإستنكاف عن إحقاق الحق 2021/12/29 ـ تاريخ زيارة الموقع 2022/9/17.
ــ المفكرة القانونية نزار صاغية و سامر غمرون، التحركات القضائية الجماعية في لبنان، 2009.
ــ الموقع الإلكتروني لنقابة المحامين في بيروت، والموقع الإلكتروني لنقابة المحامين في طرابلس، والموقع الإلكتروني لمجلّة “محكمة”.
ــ قانون الموظفين اللبناني .
ــ قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني .
ــ قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني.
ــ الإعلان العالمي لحقوق لإنسان.
ــ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
“محكمة” – السبت في 2022/10/22

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!