أبحاث ودراسات

أجهزة الرقابة:”تنابل السلطان”لا يُراقبون!.. القضاة يقبضون عليها.. عمل أقلّ ومخصّصات أكبر/فاتن الحاج

فاتن الحاج*:
الحصانات التي أعطاها المشترع لأجهزة الرقابة في ستينيات القرن الماضي صيغت بعناية متناهية في نصوص قانونية تسمح لها بممارسة نشاطها بكلّ استقلالية، وبخلاف ما تبدو عليه اليوم من تراجع وارتباك وفقدان للثقة. اليوم، يقبض القضاة على الأجهزة ويغيب أيّ دور لها في بناء إدارة دينامية وكفوءة حتّى غدت أشبه ما تكون بـ«تنابل السلطان»: هيئات بلا عمل وتحتاج الى من يراقب عملها الرقابي!
ورد في الفقرة «هـ» من مقدمة الدستور اللبناني بأنّ النظام قائمٌ على فصل السلطات، وأعلنت ذلك صراحةً المواد 16 و17 و20 منه في حديثها عن سلطات ثلاث، الحكومة والمجلس النيابي والقضاء. وتشكّل الإدارة العامة الذراع التنفيذية للحكومة، وهي الأداة التي تحكم بواسطتها، وتنفّذ جميع ما تضعه السلطة التشريعية من قوانين وما ترسمه الحكومة من أهداف.
ونتيجةً لتعدّد أنشطة الدولة وتعقّدها، كان لا بدّ من وجود هيئات إدارية متخصّصة إلى جانبها تُعنى بوضع الدراسات والاستشارات اللازمة لها، وعلى رأسها أجهزة الرقابة الإدارية، لتكون بمثابة أجهزة مساندة للحكومة كي تتمكّن من تسيير شؤون الدولة بكلّ تفرّعاتها.
والمشترع، وبالنظر إلى خصوصية الأجهزة الرقابية، أعطاها من الامتيازات ما لم يعطِ إدارات أخرى. لكن الملفت هو إصرار الحكومات المتعاقبة على تعيين أشخاص على رأس تلك الأجهزة من خارج سلك الإدارة، في خرقٍ فاضح لمبدأ فصل السلطات الذي يتقدّم على غيره من القوانين. فقد جرى، مثلاً، تعيين قاضٍ من محكمة السير رئيساً للتفتيش المركزي، وقاضية من مجلس شورى الدولة رئيسة لمجلس الخدمة المدنية، وقاضية جزاء رئيسة للهيئة العليا للتأديب، فضلاً عن تعيين قاض عدلي على رأس القضاء المالي (ديوان المحاسبة). وهكذا فعلت، أيضاً، مع تعيين خمسة قضاة على رأس المحافظات، فتمّ بذلك حرمان الموظفين الإداريين من الفئة الثانية، ممن أمضوا حياتهم الوظيفية في خدمة الإدارة، من التعيين في مثل هذه المراكز.
هذا الأمر يطرح أكثر من علامة استفهام بشأن الجدوى من وراء تلك السياسات، مع غياب أية نتائج ملموسة على صعيد تفعيل عمل الإدارة وتسهيل الخدمات للمواطنين وحفظ المال العام، غير إفراغ المحاكم من قضاتها، في وقت تعُمّ فيه الشكوى من قلّة عدد القضاة، والتراكم الحاد في الملفات.
القاضي أفهم من الإداري!
بحسب دراسة أعدّها أحد المسؤولين الإداريين المتقاعدين، ليست مشكلة الأجهزة الرقابية في النصوص القانونية التي تمنحها صلاحيات واسعة، بل في الذين يتولّون شؤونها وجميعهم من خارج ملاكاتها. إذ إنّ تعيين قضاة على رأس تلك الأجهزة، كما جرى منذ عام 2012، إضافة إلى مخالفته لمبدأ فصل السلطات، لم ينعكس إيجاباً على أدائها، ولم يعدُ كونه نابعاً من وهم لدى السياسيين بأنّ للقاضي خبرة ومعرفة بشؤون الإدارة العامة لا يملكها أيّ من موظّفي السلك الإداري. وهذا مجافٍ للواقع، باعتبار أنّ القاضي لم يُعد في معهد الدروس القضائية ليتولّى مركزاً إدارياً. والمفارقة أنّ السلطة (التنفيذية والتشريعية) التي وافقت في موازنة العام 2019 (المادة 89) على منع إنتداب أو نقل أيّ قاض من ملاك القضاء العدلي أو المالي أو الإداري إلى ملاكات الإدارات العامة والمؤسّسات العامة، عادت، بموجب المرسوم الرقم 5624 بتاريخ 2019/9/17 وعيّنت القاضية ريتا غنطوس رئيسة للهيئة العليا للتأديب، “في خرق واضح لمبدأ فصل السلطات”، ومثل هذا التعيين شكّل خيبة أمل كبيرة للموظّفين الإداريين من الفئة الثانية الذين يحقّ لهم بالأولوية تولّي مراكز قيادية في الملاك الإداري الذي ينتمون إليه. هذا فضلاً عن عدم جواز أن يحاكم القاضي الموظّف الإداري مرّتين: المرّة الأولى في المحاكمة الجزائية والمرّة الثانية في المحاكمة التأديبية.
كذلك وُضع القاضي خالد العكاري (رئيس غرفة في ديوان المحاسبة)، بموجب المرسوم 6171 بتاريخ 2020/3/2 بتصرّف رئيس مجلس الوزراء بصفة مؤقّتة للقيام بمهام استشارية قانونية وإدارية.
وعلى رغم الامتيازات الوظيفية والمالية التي يتمتّع بها القضاة وحاجة المحاكم إليهم، يبدو مستغرباً للموظّفين الإداريين أن يلهث كثيرون منهم وراء تبوؤ مراكز إدارية من رئاسة جهاز رقابي أو مدير عام أو محافظ.
وبالنسبة إلى الإداريين، المشكلة ليست في غياب قانون استقلالية القضاء، بل في عقلية بعض القضاة وسلوكياتهم، فالمطالبة بهذه الاستقلالية لن تؤدّي أهدافها ما لم تترافق مع تعزيز التفتيش القضائي والسماح بمساءلة القضاة، وتحديد مهل واضحة للبتّ في الدعاوى العالقة أمام المحاكم، ومنع انتداب أو نقل أيّ من القضاة إلى السلك الإداري بصورة حاسمة ونهائية.
الهيبة المفقودة
ولأنّ هيبة الأجهزة الرقابية كانت في عهد الرئيس فؤاد شهاب من هيبة الدولة، لم تكن تحصل تعيينات إلاّ بموافقة مجلس الخدمة المدنية، ووفقاً لشروط تفرضها الوظيفة العامة. كما لم يكن مقبولاً مخالفة رأي ديوان المحاسبة، ولا سيّما في صفقات الأشغال والتلزيمات. ولم توضع تقارير التفتيش المركزي يوماً في الأدراج لئلّا يشجّع ذلك على ارتكاب المخالفات ونشر الفساد. وكانت الهيئة العليا للتدريب تتخذّ قراراتها بحقّ الموظّفين من دون أيّ تدخّل، ولم تكن قراراتها تخضع للنقض أمام مجلس شورى الدولة.
ولكن مع مطلع العام 1990، أخذت الأجهزة تفقد دورها مع دخول أمراء السياسة في إدارات الدولة ومؤسّساتها. فالحرب حفرت في المجتمع اللبناني وامتدت بظلالها على الواقع الإداري، إذ شاع التسيّب والتشرذم، ونشطت سياسات التنفيع والزبائنية، وتفشّت ظاهرة الرشوة والكسب غير المشروع.
ولم تفلح الأجهزة الرقابية في وضع حدّ للتجاوزات المخالفة للقانون، ولاسيّما تلك التي تصدر عن الوزراء.
وكان رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري قد أصدر قراراً حمل الرقم 1507 بتاريخ 2001/10/15 ونصّ على عدم صلاحية التفتيش المركزي في مساءلة الوزراء ومراقبة أعمالهم، “بحيث يخرج عن نطاق اختصاص التفتيش الأعمال التي يقوم بها الوزراء الذين لا يجوز اعتبارهم بحكم الموظّفين….”
ومن الأسباب الرئيسية لفقدان أجهزة الرقابة فعاليتها، التعيينات على مستوى الفئة الأولى فيها، والتي جرت لاعتبارات وتقسيمات سياسية ليس لها علاقة بالمصلحة العامة.
وبالنتيجة لا أبحاث ولا دراسات، ولا حتّى خطّة استراتيجية تبيّن رؤية هذه الأجهزة للسنوات العشرين المقبلة في بناء إدارة مصغّرة وكفوءة ومتدنّية الكلفة، تعمل على قاعدة: عمل أكثر وإنفاق أقلّ.
مجلس الخدمة يسيّر معاملات!
أنشئ مجلس الخدمة المدنية بموجب المرسوم الاشتراعي الرقم 114 تاريخ 1959/6/12، وأُسندت إليه مهمّة متابعة شؤون الموظّفين في الإدارة العامة، والتثبّت من كفاءتهم المسلكية، ودرس اقتراحات التثبيت والترقية والترفيع، وإبداء الرأي في قانونية التعيينات وآلياتها، وإجراء مباريات التوظيف، وإبداء الرأي في المشاريع المتعلّقة بالوظيفة العامة وبالعاملين فيها، إضافة إلى مشاريع التعاميم المتعلّقة بالتنظيم الإداري.
إلاّ أنّ دور المجلس تراجع اليوم بشكل ملحوظ، فعند شغور أيّ منصب في الفئة الأولى، يجري المجلس مقابلات شكلية محصورة بالموظّفين من الفئة الثانية المنتمين إلى طائفة المنصب الشاغر! وهي لا تقوم، بحسب وصف مشاركين فيها، على أيّ معايير علمية أو قانونية، لا سيّما ما نصت عليه المادة 95 من الدستور لجهة عدم تخصيص أيّة وظيفة لأيّة طائفة مع التقيّد بمبدأي الاختصاص والكفاءة، في حين يكون الإسم المطلوب تعيينه جاهزاً في غرف السياسيين، وهذا أمر ليس خافياً على أحد.
كذلك تراجعت، بعد عام 2013، المباريات التي كان يقوم بها المجلس لملء الشواغر في الإدارات والمؤسّسات العامة والبلديات، ما سمح بتفشّي ظاهرة الإستخدام العشوائي بمسمّيات مختلفة: أجير، متعاقد، مياوم، فيما لا يعلن المجلس منذ عام 2012 عن دورات إعدادية جديدة في المعهد الوطني للإدارة، على مستوى وظائف الفئة الثالثة، ما سيؤدّي تدريجياً إلى إفراغ الإدارة من المراكز القيادية على مستوى رؤساء الدوائر، وحلول أشخاص عن طريق التكليف.
هكذا، اقتصر دور المجلس في السنوات الخمس الماضية على تسيير المعاملات العادية المتعلّقة بالشؤون الذاتية للموظّفين فقط في غياب تام لأيّ دراسات فنّية تتعلّق بتحسين أساليب العمل، أو باختصار المعاملات الإدارية وتبسيط إجراءاتها. كما لم يصدر بعد تقرير نهائي بشأن أيّ تصنيف للوظائف العامة بما يسمح باعتماد جداول رواتب عادلة.
وفي ظاهرة غير مألوفة، غاب التقرير السنوي عن أعمال المجلس للأعوام 2013 و2014 و2015 و2016 و2018 و2019، (صدر تقرير يتيم خلال 2017)، بخلاف ما يفرضه قانون إنشاء المجلس لتمكين السلطات الدستورية (مجلسي الوزراء والنوّاب) من الاطلاع على أعماله وانجازاته، ومراقبة مدى انطباقها مع الصلاحيات الواسعة التي أعطيت له.
ومنذ عام 1996، لم يدع المجلس المديرين العامين إلى الاجتماع وفق ما تنصّ عليه المادة 10 من المرسوم الاشتراعي الرقم 111/59، من أجل تبادل الآراء في شؤون الإدارة العامة واقتراح التدابير الرامية إلى رفع مستواها وتحسين عملها.
كذلك ترك مشروع قانون تعديل بعض أحكام مجلس الخدمة المدنية الموجود في مجلس النوّاب منذ عام 2012 من دون أيّة متابعة.
التفتيش المركزي: توسيع صلاحيات «الرئيس»!
وفق المرسوم الاشتراعي الرقم 115 بتاريخ 1959/6/12، تشمل صلاحيات التفتيش المركزي مراقبة كلّ الإدارات والمؤسّسات العامة والبلديات والعاملين فيها.
ويتبيّن من اختصاصات التفتيش المبيّنة في قانون إنشائه، بأنّ له من الصلاحيات ما يمكّنه من القيام بدوره، ليس فقط في التحرّي عن الفساد وكشفه ومعاقبة المسؤولين عنه، إنّما أيضاً في إعطاء المشورة بشأن تحسين العمل وتحديد الأخطاء والثغرات، وطرق تفاديها، وأساليب معالجتها.
ورغم ما أُعطي الجهاز الرقابي من اختصاصات، بقيت مظاهر الفوضى والفساد السمة الأساسية في الإدارة العامة. وباتت أعمال التفتيش شكلية غير مجدية، فلا نتائج ملموسة على صعيد مكافحة الفساد سوى الحديث الموسمي والاستعراض أحياناً لأعمال تفتيش يقوم بها تحت ضغط الإعلام والرأي العام، من دون أن يقترن ذلك بقرارات حاسمة بالمعاقبة وتحديد المسؤوليات. وهذا يطرح أكثر من علامة استفهام حول دور التفتيش، والعوائق الفعلية التي تحول دون قيامه بمهامه، وما إذا كانت القضيّة تتعلّق بالنصوص والصلاحيات، أو بأسلوب العمل الذي يتبعه المسؤولون فيه.
فمن خلال مواد مشروع القانون الذي يدرسه مجلس النوّاب تحت عنوان “تعزيز دور التفتيش”، يتبيّن، على سبيل المثال، أنّ غالبيتها تتمحور حول توسيع صلاحيات “رئيس التفتيش” على حساب صلاحيات عضوي الهيئة فيه، في حين أنّ أكثر ما يحتاجه التفتيش اليوم هو معالجة الشغور الحاد فيه على مستوى المفتّشين المعاونين، والذي لا يتطلّب أكثر من توجيه كتاب إلى مجلس الوزراء للموافقة استثنائياً على إجراء مباراة لملء المراكز الشاغرة في المفتّشيات المالية والهندسية والصحيّة والاجتماعية، واستصدار قرار عن مجلس الوزراء يُطلب بموجبه من جميع الإدارات والمؤسّسات العامة والبلديات تسهيل عمل المفتّشين، والطلب من الوزراء الالتزام الكلّي بذلك.
ورغم إجراء مباراة عام 2017 لتعيين مفتّشين تربويين، لم يعيّن مجلس الوزراء حتّى اليوم 29 من هؤلاء نجحوا في المباراة، علماً بأنّ ملاك المفتشية العامة التربوية يعاني شغوراً حاداً، إذ لم يبق سوى 18 مفتّشاً لأكثر من 1400 مؤسّسة تعليم رسمي (مهني وأكاديمي)، يضاف إليها نحو 300 مركز امتحانات رسمية للشهادتين المتوسّطة والثانوية العامة وعدد مماثل للامتحانات الرسمية المهنية. كما سيحال إلى التقاعد هذا العام ، وفي الأعوام القليلة المقبلة، عدد غير قليل من المفتّشين، في حين يبقى المطلب الأساس تفعيل اجتماعات هيئة التفتيش المركزي. وهذا ما يطرح مدى انسجام القاضي مع طبيعة العمل في الإدارة العامة، فيما مكانه في المحاكم ليكون خادماً للعدالة لا موظّفاً لدى السلطة التنفيذية.
الهيئة العليا للتأديب: قراراتها قابلة للطعن
تمّ تأسيس الهيئة العليا للتأديب بموجب القانون الرقم 54/65 بتاريخ 1965/10/2 في عهد الرئيس شارل حلو لتوفير الضمانات للموظّفين للحصول على محاكمة مسلكية عادلة، ولإيجاد جهاز متفرّغ ومتخصّص في البتّ في المخالفات المسلكية داخل الادارة، سواء في الإدارات العامة أو المؤسّسات العامة أو البلديات، توصّلاً لإدارة نظيفة وشفّافة تستوحي المصلحة العامة في جميع أعمالها.
ولكن، بعد أكثر من نصف قرن، لا تزال مشكلات عدّة تعوق عمل هذه الهيئة، أهمّها: ضآلة الملفّات التي تحال إليها من الإدارات العامة، رغم ما تعانيه تلك الإدارات من أوضاع شاذة. وهذا يعود، في الواقع، إلى خلو أنظمة الهيئة من أحكام تُلزم الإدارات تحويل الموظّف المخالف أمامها عند ارتكابه مخالفات متكرّرة أو جسيمة لمهامه الوظيفية.
وتوجد حالات ملاحقة جزائية لبعض الموظّفين، إذ لا تبادر الإدارات المعنية بإحالة المدّعى عليهم على الهيئة وفقاً لما يفرضه القانون. كما لا تزال بعض المؤسّسات العامة (مثل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي) تمتنع عن إحالة المخالفين لديها على الهيئة، وتقوم بمحاكمتهم عبر مجالس التأديب الخاصة بها، بما يخالف بشكل واضح المادة الأولى من القانون 201 بتاريخ 2000/5/26 وتعميم رئيس مجلس الوزراء الرقم 2 بتاريخ 2017/1/12.
وغداة صدور القانون رقم 227 تاريخ 2000/5/31 (تعديل بعض مواد نظام مجلس شورى الدولة)، باتت القرارات التأديبية الصادرة عن الهيئة العليا للتأديب قابلة للطعن أمام مجلس شورى الدولة، في سابقة لم تعهدها طوال أكثر من ثلاثين عاماً على إنشائها. ولكن في المقابل، لم تصدر الهيئة، على مدى 3 سنوات مضت، التقارير السنوية عن أعمالها للأعوام 2017 و2018 و2019. كما لم تبادر بعد إلى وضع التعديلات اللازمة على أنظمتها على غرار ما فعلته أجهزة الرقابة الأخرى، مثل التفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية.
ديوان المحاسبة: تخلّ طوعي عن الرقابة
كُرِّس إنشاء ديوان المحاسبة بموجب المادة 87 من الدستور، وقد نصّت المادة الأولى من قانون تنظيمه (الاشتراعي 83/82) على أنّ الديوان “محكمة إدارية تتولّى القضاء المالي”. وهو يشغل اليوم موقعاً متميّزاً ضمن هيكلية الإدارة اللبنانية كونه الجهاز الأعلى للرقابة المالية الذي أنيطت بها مهمّة السهر على الأموال العمومية ومراقبة استعمالها، ومدى انطباق هذا الاستعمال على القوانين والأنظمة النافذة، والفصل في صحّة وقانونية معاملاتها وحساباتها، ومحاكمة المسؤولين عن مخالفتها.
وقد جاءت المادة 30 من المرسوم الاشتراعي الرقم 83/82 لتنيط بالديوان وظيفتين أساسيتين:
(1) وظيفة إدارية يمارسها برقابته المسبقة على تنفيذ الموازنة، وبتقارير ينظّمها عن نتائج رقابته المسبقة والمؤخّرة، وبإبداء الرأي في الأمور المالية؛
(2) وظيفة قضائية يمارسها برقابته على الحسابات، وعلى كلّ من يتولّى استعمال الأموال العمومية، والأموال المودعة لدى الخزينة أو إدارتها.
أمّا الرقابة المؤخّرة للديوان، فتهدف إلى تقدير المعاملات المالية ونتائجها العامة، من حين عقدها إلى حين الإنتهاء من تنفيذها، وحتّى قيدها في الحسابات. وتتمثّل هذه الرقابة بالتقارير السنوية والخاصة، وببيانات المطابقة للحسابات النهائية. وتؤدّي هذه الرقابة عملياً إلى اكتشاف العديد من الأخطاء، وتحقّق وفراً كبيراً.
إلاّ أنّ الواقع الحقيقي داخل الديوان لا يسير على هذا المنوال، والسبب ليس في شحّ الصلاحيات أيضاً، بقدر ما هو في تخلّيه طوعاً عن بسط رقابته بشكل فعّال ومجد.
فقد غابت تقارير الديوان حول إنجازات المهمّة، واكتفى غالباً بتوصيف الحالات وتعدادها، من دون القيام بدوره الرقابي والقضائي الرادع والزجري. ومع ذلك، فالقيّمون على الديوان يتحدّثون عن شغور في بعض الوظائف الإدارية لا سيّما في عدد المحاسبين الماليين تصل نسبته إلى 50%، وهو الفريق العمل الأساسي في الديوان، من دون المبادرة إلى معالجة هذا الشغور.
كذلك غابت الرقابة على حسابات الدولة، ولا سيّما على تنفيذ النفقات، وأصبحت الرقابة على دفاتر الشروط التي تُعرض عليه، شكلية في معظم الأحيان، مع وجود كثير من علامات الاستفهام بشأن قرارات الموافقة التي تصدر بخصوص بعضها، والتي لا تؤمّن منافسة فعلية بين العارضين، وغالباً ما تُعرض بأسعار مرتفعة، وتتمّ الموافقة عليها بصورة قياسية (يراجع تلزيم نفق سليم سلام وتأهيل جسر الكولا كنموذجين).
في المقابل، لا تخضع غالبية الصناديق والمؤسّسات العامة، للرقابة المسبقة للديوان، وبالأخصّ: مجلس الإنماء والإعمار، مجلس الجنوب، الصندوق المركزي للمهجّرين، مؤسّسة كهرباء لبنان، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، المصلحة الوطنية لنهر الليطاني ومصالح المياه المختلفة.
كما أنّ نطاق رقابة الديوان المسبقة بدأ يضيق، فبعدما كانت تخضع له المؤسّسات العامة كافة، جاءت المادة 26 من المرسوم 72/4517 لتحدّ من تلك الرقابة، وتخضعها فقط لرقابة الديوان المؤخّرة. كذلك الأمر بالنسبة إلى المشاريع المموّلة بقروض مع مختلف الإدارات والمؤسّسات العامة والبلديات، حيث نصّت المادة 60 من قانون موازنة العام 1999 على إخضاع إنفاق إتفاقيات القروض والهبات الخارجية لرقابة الديوان المؤخّرة فقط.
فصل الإدارة عن القضاة
إزاء هذا الواقع القاتم للأجهزة الرقابية، تتجه الأنظار إلى الحكومة، إذا كانت جادة في عملية الإصلاح الإداري، أن تطبّق أوّلاً مبدأ فصل السلطات، فلا يقتصر الأمر على فصل النيابة عن الوزارة، بل يشمل أيضاً فصل الإدارة عن القضاة، بحيث تمارس كلّ سلطة صلاحياتها في الميدان الذي أوكله إليها الدستور، وأن تلتزم حدود اختصاصها التي رسمه لها، فيعمل كلٌّ في الميدان الذي جرى إعداده له، وأن تبادر إلى إعادة جميع القضاة الى مراكزهم الطبيعية في القضاء، وتعيين أكفأ الأشخاص وأصلحهم على رأس كلّ هيئة من هيئات الرقابة، ممن يتمتّعون بالجرأة والاستقلالية ونظافة الكفّ، لتكون قراراتهم وآراؤهم منزّهة وشفّافة، وموضع احترام كلّ السلطات.
*نشر في جريدة الأخبار
“محكمة” – الجمعة في 2020/5/1

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!