مقالات

جئتُ محتفلاً معكم بيوم المحامي ولأعترف أنني أصبحتُ بعد الوزارةِ محاميًا بكامل سؤدُدِ المهنة/محمد وسام المرتضى

وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى*:
على وقْعِ دويِّ الحقِّ في أرجاءِ فلسطين، وتردُّدِ أصدائه ملْءَ آذان المدائن العربية من الخليج حتى المحيط، جئتُ اليومَ إلى دار الحقوق في أمِّ الشرائع، محتفلًا معكم بيوم المحامي، بل بيوم بيروت، مدينةِ التي حَفِظت نقابتُها… نقابتُكم أمانة الحقِّ، حتى من قبلِ أن يولدَ لبنان.
ها أنذا واقفٌ أيّها الأحبّة على المنبرِ الباذخ، بعد أن كنتُ إلى حين، جالسًا وراء القوسِ في القصرِ الذي بجانبِ هذا البيت، أو في سواه من دُور العدلِ، ومشتركًا معكم في تحقيق رسالةِ العدالة: أنتم تُشْهرونَ الآراءَ وأنا أُشْهِرُ القضاء، فتصيبون وأصيب، أو تخطئون وأخطئ، ولكنَّنا في حالتَيْ صوابنا والخطأ، أنا وأنتم، وسائرَ القضاةِ والمحامين، نطالبُ دائمًا لأنفسِنا بالأجرَيْنِ معًا، لأنَّ جَهدَكم واجتهادَنا، مشبعان كلاهما بصِدقِ العملِ وصفاء النيةِ وراحةِ الضمير، حتى لَيلَيقُ بهمِ الأجْرانِ والثلاثةُ وأكثر.
جئتُ اليومّ محتفلاً معكم بيوم المحامي ولأعترف أمامَكم، أنا الذي لم أنتسبْ إلى المحاماة يومًا، إذ ذهبتُ من الجامعة مباشرةً إلى معهد القضاء، أعترف أمامكم أنني أصبحتُ بعد الوزارةِ محاميًا، بكامل سؤدُدِ المهنة، على الرغم من قاعدةِ التمانع بين المحاماةِ والعمل الوِزاري التي ينصُّ عليها القانون.
فإنّ موجبَ التحفظ الذي يحكم لسانَ القاضي وتصرّفاتِه، أو هكذا يجب أن يكون، لا يبقى مُلزِمًا للوزير القادمِ من القضاء، فإنما ينبغي له أن يرافعَ ويدافعَ عن المصالحِ العليا للوطن والمواطنين، فإذا به، ولو من غير انتساب، يمارسُ دورَ المحامي، فينجحُ أو يُخفِقُ بمقدارِ حظّه من وضوح الرؤيةِ وسعةِ المعرفةِ وثباتِ الموقفِ على مبادئ الحريةِ والقيمِ وحقوقِ الإنسان.
أنا هنا بينكم أيها الزملاء، محاميًا لا وزيرًا. يومُكم هو أيضًا يومي، أحتفلُ به كما تفعلون، وأتزوَّدُ منه رجاءَ الرسوخِ في الحقّ الذي أُعطيتُ أن أحملَه وأدافعَ عنه على امتداد الوطن. كلُّ واحدٍ منكم إنما يفعلُ الأمرَ نفسَه حيث هو، لأنّ المحامي، كما يقول كبيرٌ من عندِنا، هو المحامي والنائبُ والأديبُ أمين نخله، يظلُّ “موزَّعَ الخاطر بين دعوى موكِّلِه ودعوى بلادِه. فبينا أنت تراه في مجلس الحكم يُفصِّلُ النصوصَ ويُفَرِّعُ المسائل، إذا بك تراه في مجلس السياسة يُلطِّفُ المداخلَ ويُوثِّقُ المطالب، فهو طَوالَ عمرِه يدافعُ ويناضل، ويقلِّبُ لسانَه فوقَ البراهينِ والحُجَج”.
المحاماةُ موهبةٌ إذًا. ملَكَةُ استعمالِ الرأيِّ وحَشْدِ الأدلةِ للدفاع عن الحقّ، سِيّانِ أكانَ عامًّا أم خاصًّا. ومن أجل هذه الموهبةِ كان رجالُ القانون ربابنةَ الوطن، منذ مئةِ عامٍ إلى ما قبلَ الأمسِ بقليل، حين تأخَّرَ البعدُ الحقوقيُّ في بعض مفاصل الدولة وسلطاتِها، لمصلحة أبعادٍ أخرى تقدَّمت عليه، فإذا التراجعُ يستشري حينًا بعد حين، في الخطابِ والأداء معًا، إلاَّ من رفدَهم اللهُ بموهبةٍ ثانيةٍ من فكرٍ وضمير. ولعلّي لا أبالغُ إذا قلتُ إنَّ واحدًا من الأسباب الجوهرية في أزماتِنا، يكمنُ في انكفاء فكرةِ القانون كناظمٍ أساسيٍّ لحياة الشعوب، في مقابلِ ازدهارِ العصبيات والنعرات والعمالة لأجندات الشرّ والأفكار الجوفاء، والمثالبِ المستورَدة. هذا، مع التأكيد على القاعدة التي تعرفون أن القانون بمفهومه لا يقتصر على النصوص التشريعية وحدِها، بل هو يمتدُّ إلى الاجتهاد والفقه والأعراف والتقاليد والمعاهدات، وخاصةً إلى القيم العليا التي تُشكِّلُ القوةَ النفسية والروحية عند الناس أفرادًا وجماعات.
والمحامي حين يدافع عن حقوق موكليه، يترك القولَ الفصلَ للقضاء. أما حين يترافع في دعوى بلاده، فإنَّ التاريخَ هو الحاكمُ الذي يَجزيه الجزاءَ العدلَ، ربحًا أو خسارة. من هذا المنطلقِ، وعلى مثال القول المأثور: “ليست الأبوَّةُ أن تُنْجبَ أولادًا، فذلك مُستطاعٌ لكلِّ الرجال؛ إن الأبوةَ أن تُحسِنَ تربيةَ أولادِك”، هكذا أقول: ليست المحاماةُ في دعوى البلاد أن تقرأَ ما يُملى عليك أو يوحى به إليك من خارج التراث والحدود، بل هي الثباتُ في خصائص الهويّة المعرفية والأخلاقية التي تميِّزُ وجود الوطن وأجياله، وتحمي يومَه ومستقبلَه.
أيها السادةُ الأكارم
عبثًا يفتِّشُ الإسرائيليُّ عن نوحٍ جديد، ينقذُه من طوفان الأقصى. فسيْلُ الحقِّ الجارفُ سيعمُّ الأرض المحتلة من الجولانِ إلى النقب وهو قاب جليلٍ أو ادنى، ولن يرحمَ فُلْكًا مصنوعةً من خرافةِ الوهم الصهيوني باستمرار احتلال فلسطين. أما حمامةُ السلام هذه المرةَ، فستذهبُ إلى العالم كلِّه بغصنٍ أخضر من شجرةٍ وارفةٍ على قمّة جبل الزيتون، حيث كان المسيح يصلي بتلاميذه، وحيثُ عرَّجَ النبيُّ من المسرى إلى السماء. وهذا الكيانُ المغتصبُ المناقضُ لمعنى لبنان، صيغةَ عيشٍ وحريةٍ وقيم، لم يعد أمامه، هو ومن وراءه، سوى إعادة حساباتِه الخاطئة، علَّه يحسنُ بعد الطوفان قراءةَ مصيره. وأما نحن اللبنانيين، فعلينا التشبثُ أكثر بما يختزنُه هذا الوطنُ من ثراءِ تنوُّعٍ وغنى لقاءٍ، وأن نعملَ دائبين على الوحدةِ والتعاضدِ من أجل حماية مكامن قوتِنا وسيادتنا على برِّنا وجوِّنا وبحرِنا وثرواتِنا، وأوّلُ الطريق إلى ذلك استرجاعُ انتظام الحياة الدستورية، بانتخاب رئيسٍ للسدّةِ الأولى، يجمعُ ولا يفرِّقُ، يُطمئنُ ولا ينصاع، يقفُ ولا يخضع، يحمي الثقةَ ويحافظُ على الدستور، وأقصرُ طريقٍ إلى هذه الغاية الحوارُ الداخليُّ الإيجابي بدلًا من انتظار إراداتٍ أجنبية، وأُعلن من ههنا، من نقابة المحامين في بيروت، من عرين الحق والحريّات، أنّ تلك الإرادات الأجنبية لن يكون لها على الأحرار في ذواتِهم… أيُّ تأثير.
في يوم المحامي تكثرُ الأماني، فإنما “على قدرِ أهلِ العزمِ تأني العزائم”
كلَّ عام وأنتم والحقّ والعدل والقضاء والمحاماة بألف بخير
عشتم عاشت نقابة المحامين في بيروت وعاش لبنان.
* ألقى وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى هذه الكلمة في احتفال نقابة المحامين في بيروت بـ”يوم المحامي” اليوم بحضور سياسي وقضائي وقانوني حاشد.
“محكمة” – الثلاثاء في 2023/10/10

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!