أبحاث ودراسات

في نظام إيفاء الإلزامات المالية المتوجّبة بالعملة الأجنبية/ فرانسوا ضاهر

القاضي السابق والمحامي فرانسوا ضاهـر:
1- إن إندلاع الأزمة المالية النقدية والمصرفية في لبنان في أواخر العام 2019 قد طرح بإلحاح كيفية تصفية الإلزامات المالية المحرّرة بالعملة الأجنبية. وقد عمد القضاء في غالبه الغالب، إستناداً الى نصوص وضعية فسّرها وحدّد نطاق عملها، الى الترخيص للمدين بتسديد دينه لدائنه بالعملة الأجنبية بالعملة الوطنية على سعر صرفها الرسمي (وقد ناقشنا في قانونية هذا الحلّ في مقال سابق).
2- كما عمد في حالات محدّدة، وبعد الأخذ في الإعتبار سبب الدين (بمفهوم المادة 195 وما يليها م.ع.)، الى الترخيص للمدين بتسديد دينه لدائنه على سعر منصة صيرفة التي أنشأها مصرف لبنان، والتي إعتمدت غالباً سعر صرف وسطي لليرة اللبنانية ما بين سعر صرفها الرسمي وسعر صرفها في السوق الحرّة. كما وعمد كذلك في حالات جدّ قليلة، وبالإستناد الى سبب الدين دوماً، الى إلزام المدين بتسديد مديونيته بالدولار الأميركي الى دائنه نقداً، أي عملة ورقية دولارية.
وقد أسقط ضمن هذا الإطار القوة الإبرائية للشك المصرفي بشكلٍ تام ومطلق. بحيث لم يكن يجيز للمدين تسديد دينه لدائنه شكاً مصرفياً. على إعتبار أن هذا الشك لم يعد، إثر الأزمة المصرفية، قابلاً للقبض نقداً بكامل قيمته الإسمية.
3- كما إستقرّ القضاء على هذا المنحى الإجتهادي، طوال السنوات الثلاث المنصرمة، الى أن أحدث مؤخراً تعديلاً جذرياً على اجتهاده بالحكم الذي أصدره القاضي المنفرد المدني في جبل لبنان (جديدة المتن) الناظر في دعاوى الإيجارات، القاضي علاء بشير، بتاريخ 2024/2/27، والذي قضى، إستناداً الى ذات النصوص الوضعية التي كان قد إستند إليها القضاء سابقاً، بإلزام المدين بإيفاء كامل مستحقاته بالعملة الأجنبية الى دائنه نقداً، أي عملية ورقية دولارية. وذلك دونما التوقّف لا عند تاريخ نشأة الدين ولا عند سببه.
ما يؤشّر بأن هناك توجهاً جديداً لدى القضاء اللبناني في كيفية مقاربته وفصله لهذه المسألة، التي تنال من الإقتصاد الوطني عموماً، وتؤثّر على أصحاب الحقوق خصوصاً، وتقرّر بمصير التوظيفات المالية والإستثمارات التي قد تُضخّ لاحقاً في البلاد.
4- علماً أن المنحى الإجتهادي الذي سار عليه القضاء، في المرحلة الأولى، قد جعل الدائن يستوفي :
4/أ- نسبةً قدرها 1,68% من أصل حجم دينه الإسمي. كما جعل المدين يثري مقابلةً ويحقّق وفراً بنسبة 98,32% من أصل مديونيته. إذا ما استخرجنا تلك النسبة مما يمثله سعر الصرف الرسمي للعملة الوطنية (1507 لل./د.أ.) على سعر صرفها الحالي في السوق الحرّة (000 89 لل./د.أ.).
4/ب- أو، وفي أحسن الأحوال، نسبةً قدرها 16,8% من أصل حجم دينه الإسمي، إذا ما احتسبنا هذه النسبة على أساس سعر الصرف الرسمي الجديد لليرة اللبنانية، المعمول به بدءاً من الأول من شهر شباط 2023 على خمسة عشر الف ليرة لبنانية للدولار الواحد (15000 لل/د.أ.).
أما التعديل الذي طرأ على هذا المنحى الإجتهادي، في المرحلة الراهنة، والذي يقوم على إلزام المدين بتسديد كامل مديونيته للدائن عملة ورقية دولارية نقدية. إنما يكون مؤدّاه تحميل المدين منفرداً دون الدائن، مخاطر الأزمة المتعدّدة الجوانب التي اندلعت في البلاد بعد 2019/10/17، والتي تناولت القطاع المصرفي برمته، وجميع المودعين لأموالهم في المصارف، كذلك مدخرات ومداخيل جميع المقيمين على أراضي الجمهورية اللبنانية، وحتى غير المقيمين عليها الذين أودعوا أموالهم في تلك المصارف.
5- من هنا، كانت الإنطلاقة للبحث في مقاربة جديدة تأتي بحلٍّ لهذه المسألة، يرتكز دوماً على القواعد الوضعية، ويوصل الى نتيجة تقارب الواقع، وتوزّع المخاطر، وتحاكي، ما أمكن ذلك، مبدأيْ العدالة والإنصاف. سيما وأن نظام إيفاء الديون المرتكز على التمييز والتفرقة في ما بينها، بالإستناد الى سبب كلّ دين أو إلزام أو موجب على حدة، والذي سار عليه غالب القضاء، إنما لا يجد سنداً قانونياً حتى يصحّ إعتماده. بل هو يخالف القواعد العامة التي نصّ عليها القانون، والتي ترتبط بالإنتظام العام (249 وما يليها م.ع.). فضلاً عن أن نظام الإيفاء المذكور الذي يرتكز على التمييز والتفرقة بين الإلزامات إستناداً الى سبب كلٍّ منها، من شأنه أن يُتيح للقضاء الإستنساب والإعتباط. الأمر الذي يتعارض مع مهام القاضي التي توجب عليه التقيدّ دوماً بأحكام القانون وعدم التوسّع والتمادي في ممارسة سلطته التقديرية.
6- لذا، ذهبنا الى التمييز بين الإلزامات المالية المحرّرة بالعملة الأجنبية من زاوية تاريخ نشأتها. على اعتبار أن مثل هذا التمييز هو جائز من ناحية ارتباطه بالواقع، الذي يمكن ضبطه موضوعياً. بحيث قمنا بتوزيع تلك الإلزامات الى فئتين، وذلك حتى أمكننا تحديد نظام الإيفاء الخاص بكل من هاتين الفئتين من الإلزامات، على حدة.
6/أ- اما الفئة الأولى فهي تتكّون من المستحقات والديون والإلزامات التي يعود منشؤها الى ما قبل إندلاع الأزمة المالية النقدية المصرفية في لبنان، أي الى ما قبل 17 تشرين الأول 2019. ويدخل ضمن نطاق هذه الفئة أيضاً، المستحقات والديون والإلزامات المالية التي إستحقّت بعد هذا التاريخ، ولكنها بقيت مرتبطة بطبيعتها بمصدر نشوئها الحاصل قبله.
6/ب- واما الفئة الثانية فهي تتكوّن من المستحقات والديون والإلزامات المالية التي يعود منشؤها الى ما بعد تاريخ إندلاع الأزمة المذكورة.
7- أما السبب الجوهري الذي جعلنا نميّز بين هاتين الفئتين من الإلزامات المالية، هو أن الظروف الخارجية المحيطة بنشأتها عند تولّدها كانت طبيعية قبل تشرين الأول 2019، أي أن ظروف البلاد الإقتصادية المالية والنقدية والمصرفية كانت عادية. في حين، أنه إنطلاقاً من هذا التاريخ إستجدّت ظروف طارئة وإستثنائية غير منظورة وغير مرتقبة من فريقيْ الإلتزام، لم يكن يتوقعانها ولم يكن بمقدورهما ان يتوقّعاها. وقد أفقدتهما التوازن المالي والنقدي الذي كانا يتمتّعان به عندما تعاقدا على إنشاء تلك الإلزامات. كما كانا يتمتعان بالسيولة والملاءة اللتان شكّلتا الأرضية لإلتزاماتهما المتبادلة وحتى المتعاقبة.بحيث بات يتعيّن على القضاء أن يعالج مسألة إيفاء الإلزامات المالية، من زاوية هذه التفرقة الموضوعية، بغية التوصّل الى حلول عادلة لا تشكّل إرهاقاً فاحشاً وغير مقبول قد يلحق بأحد فريقيْ الإلتزام، أو نفعاً غير مقبول وغير مشروع أيضاً، يفيد منه فريق على حساب الفريق الآخر.
سيما وأن المناحي الإجتهادية التي تمّ إعتمادها، في المرحلتين الأولى واللاحقة، لم تولّد إستقراراً في العلاقات المالية بين الأفراد. كما وإنها لم توصل الى حلول عادلة. وكلّ منحىً من المنحيين الإجتهاديين قد ألحق ضرراً فاحشاً بفريق لمصلحة الفريق الأخر من فريقيْ الإلتزام المالي.
8- فبالنسبة للفئة الأولى من الإلزامات المالية المحرّرة بالعملة الأجنبية أي تلك التي يعود منشؤها الى ما قبل إندلاع الأزمة الوطنية الشاملة في لبنان، أي ما قبل 2019/10/17، فإنه من الجائز أن يتمّ إيفاؤها بموجب ” شيكات مصرفية ” بتلك العملة، والتي توازي قيمة نقدية، ولو متحرّكة، في السوق الحرّة (وهي اليوم بمعدّل 14%) من اصل قيمتها الإسمية (قياساً على نص الفقرتين 2 و 4 من المادة 430 ق.ت.). سيما وأن هذه القيمة النقدية تفوق غالباً ما قضى به القضاء اللبناني من أصل قيمة المديونية الأساسية.
بخاصة وأن الشيك المصرفي الذي يستصدره الساحب من المصرف المسحوب عليه، إنما تتوفّر له المؤونة الكافية في حساب الساحب المذكور، الأمر الذي يوليه، بحكم القانون، قوة إبرائية (411 و 412 ق.ت.). تلك القوة التي تُستمد من كفاية المؤونة نسبةً الى قيمة الشك الإسمية، وليس من توافر السيولة لتلك المؤونة لدى المصرف المسحوب عليه.
فضلاً عن أن الساحب لا يُسأل تجاه المسحوب لأمره عن عدم توافر السيولة النقدية الكافية لتلك المؤونة لدى المصرف المسحوب عليه. بحيث يتحمّلان بالتساوي في ما بينهما مخاطر عدم تواجد سيولة نقدية كافية للمؤونة الخاصة بذلك الشك، كما ويستفيدان بالتساوي أيضاً من وجودها الجزئي.
على اعتبار أن فريقيْ الإلتزام يتقاسمان مخاطر الأزمة التي اندلعت في 2019/10/17 ويتقاسمان ذيولها وآثارها ونتائجها التي إرتدّت على سيولتهما وملاءتهما ومداخيلهما والتوازنات التي أرسيت عليها علاقتهما الثنائية. بحيث لا يُحمَّل الدائن منفرداً، كما في المرحلة الأولى من الإجتهاد، كامل مخاطر تلك الأزمة. كما ولا يُحمَّل المدين منفرداً، في المرحلة الثانية من الإجتهاد، كامل تلك المخاطر. لأن لا يدّ لهما في وقوعها ولم يكن بإمكانهما ترقبها ولم تكن ضمن دائرة المعطيات التي ترافقت وتزامنت مع التزامهما المتبادل.
لذا، تستوفى الإلزامات المالية بالعملة الأجنبية المنشأة أو المستحقة قبل أزمة 17 تشرين الأول 2019، وحتى بعد اندلاعها، بموجب ” شيكات مصرفية” بذات قيمة أصل الدين وعملته يصدرها المدين أو يستصدرها لمصلحة دائنه. وتكون بالتالي قابلة للقبض نقداً بالعملة الأجنبية ذاتها في السوق الحرّة، بنسبة متحرّكة من أصل قيمتها الإسمية، أو بما يعادل تلك النسبة بالعملة الوطنية على سعر صرفها الحرّ.
9- اما بالنسبة للفئة الثانية من الإلزامات المالية المحرّرة بالعملة الأجنبية بعد اندلاع أزمة 2019/10/17، فإنها تستوفى بكامل قيمتها الإسمية، نقداً، بذات العملة الأجنبية أو بالعملة الوطنية على سعر صرفها في السوق الحرّة بتاريخ الدفع أو السداد. على إعتبار أن فريقيْ الإلتزام قد راعيا، بمعرض إلتزامهما، كلّ الظروف والأحوال والوضعية المالية والنقدية والمصرفية السائدة في البلاد بعد 2019/10/17 والتي في ضوئها أبرما إلتزاماتهما المتبادلة.
10- وتبقى، في كلّ الأحوال، هذه المقاربة لمعالجة المسألة المطروحة، موضع بحث ونقاش من أصحاب الإختصاص.
“محكمة” – الجمعة في 2024/3/29

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!