مقالات

وداعاً عصام كرم .. وداعاً نقيب المحاماة/جاد طعمه

المحامي جاد طعمه:
رمح المنية أصاب قامة نقابية من النوع النادر فأدمى قلوباً كثيرة .. لا الدمع سيكفكف آلام الرحيل ولا التوّقف عند محطّات المجد المتعدّدة للراحل الكبير سيجلب لنا السكون.
للموت الذي هو حقّ، هيبة، مرارة، وألم.
نحن لا نبكي النقيب عصام كرم، بل نبكي أنفسنا ونقابتنا من بعده، ففي غيابه تخفت ومضات مشعّة من نبل إنساني ومهني.
رحل النقيب عصام كرم وهو زائد في الدنيا ولم يكن زيادة عليها، فانطفأت أنوار منارة نقابية كانت ترسل للمحامين إشعاعات من العلم، الثقافة والنخوة.
بهذا الرحيل تهتزّ أعمدة الهيكل النقابي، وهو ركنه الركين وصمّام أمان القيم والمبادئ فيه.
تألّم النقيب عصام كرم لشعوره بأنّنا بتنا في زمن السقوط النقابي والردّة، فأمّ النقابات في نظره يجب أن تبقى عنواناً للمجد والإرتقاء.
النقيب عصام كرم شخصية عريقة من خامة الرجال الاستثنائيين والنادرين، فهو الوفي والمخلص للغة العربية التي يعشقها حدّ الجنون، يحمل بوجدانه بكلّ فخر همّ القضيّة الفلسطينية معتبراً أنّ مقاومة كلّ ما له علاقة بالصهيونية فرض وواجب وأنّ التبّحر بالعلم هو أفضل سبل دعم المقاومة التي يجب أن تبقى متنوّرة وموضع إجماع وطني.
فكر النقيب الراحل عصام كرم وهو المحامي الأديب والمثقّف، كان وسيبقى مدرسة متكاملة الأبعاد والزوايا، فمعه كان المرء يشعر بانتمائه إلى الديانات السماوية جميعاً، عبر الإستماع إلى تعاليم الإنجيل المقرون بتلاوات لآيات الذكر الحكيم، ومعه كان المرء يشعر بالحاجة إلى بذل الجهد للإطلاع على مختلف ثقافات العالم، شخصية شاملة ومثقلة بالإطلاع والحرص على صداقة الكتب وأداء طقوس القراءة اليومية.
نقابة المحامين في بيروت كانت دائماً وأبداً حاضرة في وجدانه، وكأنّها ابنته التي يحرص على سمعتها وعدم تعرّضها لأيّ سوء، يخشى على سمعتها ويخاف من جور القريب عليها قبل الغريب. يبذل لها الوقت اللازم للرعاية والحفاظ عليها عزيزة وحاملة لإكليل المجد المتوارث جيلاً بعد جيل.
نقابة المحامين في بيروت لا تستطيع، حسب توجيهاته الحكيمة، إلاّ أن تبقى موحّدة وعنواناً لممارسة طقوس المواطنة الحقّة كما للسمو والرفعة، نقابة منزّهة عن محاولات المسّ بادخاراتها المالية المتراكمة على مرّ السنين، نقابة قادرة على ممارسة الحساب الداخلي لكلّ سلوك مشبوه ويعتريه شبهات حول حصول عمليات استغلال أو سمسرات، نقابة تترفّع عن نسج المكائد والفبركات تجاه كلّ من يرفع الصوت ليقول كلمة الحقّ.
دائماً وأبداً كان المحامون من فوج أحباب النقيب عصام كرم، يتعامل مع من يدقّ بابه منهم كأفراد من عائلته، يحرص على بقائهم مجتمعين تحت سقف النقابة، والأولوية دوماً لحسن الظنّ بين أفراد العائلة النقابية.
مقتضيات شخصية المحامي لم تغب يوماً عن بال النقيب عصام كرم، فلا بدّ من تمتّعها بالعلم والثقافة، كما النديّة خلال التعاطي مع الجناح الآخر للعدالة. المحامي بنظره يجب أن يبقى مبدعاً ونموذجاً للإصرار والتحدّي، متمتّعاً بجهوزية دائمة لمواجهة الباطل عبر قول كلام الحقّ.
همّ النقيب عصام كرم النقابي، بات وصية بعهدة عائلة المحامين، التي كانت عائلته، وصية ذات أفكار ملهمة ومتأجّجة، نسير على خطاها ما استطعنا دون أن تضلّلنا الشعارات والحقائق الزائفة.
على المستوى الشخصي، شرّفني النقيب عصام كرم بنيل ثقته ومحبّته، كان دائم السؤال عني، كان يدرك أنّنا تحمّلنا وإيّاه مسؤولية كبرى كأعضاء في لجنة متابعة موضوع التأمين الإستشفائي لدى النقابة، وكان يتألّم للضيم الذي لحق بكلّ أعضاء تلك اللجنة دون استثناء لمجرّد رفع الصوت بثبات في قضيّة حقّ ومطالب حقّ، وكان يتوسّم خيراً بقدرة النقيب ملحم خلف على معالجة خبايا وخفايا هذا الملفّ بحكمة وحزم رغم بعض الإعتبارات العائلية لأنّه كان يثق أنّ مصلحة النقابة تسمو على كلّ الإعتبارات الخاصة.
أبدى النقيب عصام كرم إعجابه بأدائي الخطابي خلال انعقاد الجمعيتين العامتين لنقابة المحامين في بيروت في العامين ٢٠١٨ و٢٠١٩ والمضمون العلمي لما أدليت به، رغم أنّ تساؤلاتي وإدلاءاتي ظلّت من دون جواب من قبل المعنيين، قال لي يكفي أنّك قلت كلام الحقّ في المكان والزمان الصائب، هذه مواقف بطولية يحميها التاريخ طالما أنّها تتوخّى الموضوعية والإصلاح، وطالما ظلّت بعيدة عن العراضات والإستعراض.
سمح لي بتمثيله تشريفاً لي، في مناسبتين، الأولى خلال المؤتمر الصحفي الأوّل لنادي قضاة لبنان الذي كان يتوسّم فيه خيراً للبنان، والثانية خلال لقاء تضامني مع المناضل جورج عبد الله في نقابة المحامين. كنت ممتلئاً فخراً بتمثيل قامة نقابية استثنائية، فأقدّم أفضل ما لديّ، وكان حريصاً على معرفة ردّات فعل الحاضرين ويثني عليّ قائلاً “كنت قدها وقدود”.
لا أصعب من أن تنال ثقة قامة مثل قامة النقيب عصام كرم، لأنّك تدخل حينها في تحدّي مستمرّ مع الذات لتقديم أفضل ما عندك، وتكتشف مدى القدرة على التمتّع بالرحابة والأداء الرجولي الذي لا يستقيم من دون الموضوعية والتجرّد والإبتعاد عن تحويل المعارك المبدئية إلى معارك شخصية رخيصة.
النقيب عصام كرم، كلّ معاني الإنكسار أشعر بها برحيلك عنا، أرثيك رجلاً ستبقى ذكراه عطرة، شهماً شريفاً جميل الروح، وأحسد الأرض التي ستحضن رجلاً عاش مرفوع الرأس شامخاً وصاحب ضمير حيّ.
هناك سرب من دعاء صادق يصعد نحو السماء ترحّماً على أب روحي لعائلة المحامين وذكرى نقيب استثنائي، إشعاعات نورك ستبقى تضيء زوايا قصور العدل التي تحمل عبق طيبك وتاريخك المجيد، وسأحمل الراية والشعلة على قدر طاقتي ما استطعت.
يا فارساً نبيلاً ركب مصاعب الحياة حصاناً … سنشتاق إليك حقّاً … يثلج قلبنا أنّك غادرتنا إلى عدالة السماء حيث المجد الحقيقي والسؤدد.
“محكمة” – الأربعاء في 2020/3/4

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!