مقالات

اللامركزية الإدارية في لبنان: بين البلدية ومجلس القضاء (الجزء الثاني)/ سلام عبد الصمد

المحامي الدكتور سلام عبد الصمد:
توطئة: تُعتبر اللامركزية في وقتنا الحاضر، من الأُسس التي تقوم عليها الدول الديمقراطية الحديثة، ونظاماً إدارياً لتسيير شؤون المواطن بعيداً عن البيروقراطية. ولقد سبق لنا أن نشرنا دراسة عن مفهوم اللامركزية الإدارية وتمايزها عن كلٍّ من التقسيم والفيدرالية، كما واللاحصرية.
أما اليوم، فسنتناول الأساس الذي تقوم عليه اللامركزية من وجهتيْ نظر، البلدية ومجلس القضاء، حيث لكل رأي حججه وأسبابه:
وجهة النظر الأولى: اعتماد نظام اللامركزية الإدارية على مجلس القضاء.
وجهة النظر الثانية: اعتماد اللامركزية الإدارية على البلديات. (لقد وضعنا مشروعًا يقوم على البلديات كنواة للامركزية الإدارية). وتُعتبر البلدية، من وجهة نظرنا، النموذج الاوضح والافضل لتطبيق اللامركزية. فهي القاعدة والمكان الأمثل لممارسة المواطنة، وتُشكّل إطار مشاركة المواطن في تسيير شؤونه، باعتبارها على تماس مباشر مع شؤون المواطنين وانشغالاتهم.
أولاً – وفقاً لوجهة النظر الأولى، يقوم نظام اللامركزية على وجود مجلس إدارة قضاء، وإعطائه صلاحيات أعلى وأوسع من البلديات، مع الإبقاء على وجود البلديات وصلاحياتها الحالية، وهذا النظام يمكن أنْ يحمل بعض السلبيات والإيجابيات في حالة لبنان أو في أي بلد آخر.
الإيجابيات المحتملة:
1. تنويع وتوسيع القدرات الإدارية: يمكن لمجلس إدارة القضاء أنْ يُعزّز القدرات الإدارية والتنظيمية على المستوى المحلي، ويُقدّم دعمًا إضافيًا في تنفيذ السياسات والمشاريع وتقديم الخدمات. فقد يُتيحُ هذا الإقتراح تحسين التخطيط العام والتنمية المستدامة على مستوى القضاء.
2. التنسيق والتعاون الأفضل: بوجود هيكل إداري متعدّد المستويات، يمكن تحقيق تنسيق وتعاون أفضل بين المجالس البلدية ومجلس إدارة القضاء في القضايا العابرة للبلديات والمشاريع ذات الأثر الإقليمي. كما يُمكن أنْ يُؤدّي ذلك إلى تحسين جودة الخدمات المحلية واستغلال الموارد بشكل أكثر فاعلية.
3. توزيع الموارد العادل: قد يُسهم وجود مجلس إدارة قضاء في توزيع الموارد بشكل أكثر عدالة بين البلديات المختلفة. فيُمكن لمجلس القضاء أن يُسهم في توجيه الموارد الحكومية والتنموية لمناطق القضاء التي تحتاجها بشكل أكبر.
أمّا السلبيات المحتملة فهي:
1. تعقيد الهيكل الإداري: قد يُؤدّي تضافر السلطات والمؤسّسات المحلّية إلى تعقيد الهيكل الإداري وزيادة التعقيد في صنع القرارات وتنفيذها. وقد يكون من الصعب تحقيق التنسيق والتعاون الفعّال بين المجالس البلدية ومجلس إدارة القضاء.
2. الازدواجية وتكرار الجهود: قد يحدث تكرار في الجهود والموارد المخصّصة للقضايا المحلّية، حيث قد يعمل كلّ من المجالس البلدية ومجلس إدارة القضاء على مستويات متشابهة في بعض الأحيان. هذا قد يُؤدّي إلى انتشار المكاتب الحكومية والمصروفات الإضافية.
3. التضارب في السلطات: قد ينشأ صراع بين المجالس المختلفة وتضارب في السلطات المحلية، خاصةً إذا لمْ يتمْ توضيح وتنظيم الصلاحيات بشكلٍ دقيقٍ وشامل. الأمر الذي يُمكن أنْ يتسبّب في تعطيل عملية صنع القرار وتنفيذ السياسات والمشاريع المحلية.
4. عدم اعتماده من قبل بعض الدول ذات التاريخ العريق في الديمقراطية: ففي فرنسا، مثلاً كما سنرى لاحقاً، يرتكز نظام اللامركزية على البلديات بالتعاون مع التقسيمات الإدارية الأخرى Départements et Régions. وهذه التجربة أثبتتْ نجاحها.
ثانياً – الفئة الثّانية: نظام اللامركزية الإدارية الذي يعتمد على البلديات.
لا يختلف اثنان على أنّ موضوع البلديات، يندرج في سياق الحديث عن موضوع أكثر شمولية في دنيا التنظيم الإداري، ألا وهو موضوع اللامركزية الإدارية بصورتها الأكثر شهرة (وهي اللامركزية الإقليمية)، باعتبارها واحداً من الأساليب التي تخضع لها السلطة الإدارية في تنظيمها. ومن المعروف أنّ جوهر اللامركزية الإدارية الإقليمية يتجلّى في توزيع الوظيفة الإدارية بين السلطة المركزية ووحدات إدارية مستقلة إدارياً ومالياً، تُشكّل ما يُسمّى في علم التنظيم الإداري أشخاص الإدارة اللامركزية الإقليمية أو أشخاص الإدارة الذاتية.
وتجدر الإشارة إلى أنّ التشريعات الوطنية تختلف في اختيار المصطلح الذي تستخدمه للدلالة على أشخاص الإدارة اللامركزية الإقليمية، كما هو الحال في فرنسا وألمانيا ولبنان؛ وفي سورية قبل عام 1971 وغيرها. والبعض الآخر، يستخدم تعبير وحدات الإدارة المحلية كما هو الحال في التشريع السوري المتمثّل في قانون الإدارة المحلية السوري رقم/15/ لعام 1971، والذي انطلق من مبدأ وحدة التنظيم الإداري المحلّي، وألغى التنظيم الإداري البلدي. ويُمكن التعبير عن أشخاص اللامركزية الإقليمية باستخدام تعبير “البلديات” للدّلالة على كل جماعةٍ ذات طابع إقليميٍّ سياسيٍّ وإداريٍّ واقتصاديٍّ واجتماعيٍّ وثقافي (وفق تعريف المشرع الجزائري).
وفي العالم المعاصر يزداد الاهتمام بمبدأ اللامركزية الإدارية الإقليمية، نظراً لتأثّرها بالاعتبارات السياسية والنظر إليها على أنها أسلوب لتطبيق الديمقراطية في مجال الإدارة العامة من خلال اعتماد أسلوب الانتخاب في تشكيل الإدارة الداخلية للبلديات. أي أنَّ أهمية اللامركزية الإقليمية لا تقتصر على البعد الإداري (تخفيف العبء عن الحكومة المركزية)، فهذا لا شك يُعدّ واحداً من أبعادها الأساسية، غير أنّ هذا البعد الإداري لا يقارن من حيث المكانة بالبعد السياسي.
هنا بعض الأمثلة عن بعض الدول:
• إيطاليا:
تعقيد الهيكل الإداري في إيطاليا: تعتمد إيطاليا نظامًا إداريًا يتضمن البلديات والمناطق والمقاطعات الإقليمية والإقليم الاتحادي. هذا الهيكل المتعدّد المستويات، وإنْ كان يُؤدّي إلى تعقيد الإجراءات والتباين في القوانين واللوائح بين المستويات المختلفة، ولكنّه يسمح للهيئات المنتخبة بالمشاركة في الحكم وتسيير شؤون المواطنين.
• فرنسا:
تضارب السلطات: في فرنسا، تُعتبر البلديات Mairies والمقاطعات Départements والإقليم Régions جميعها جهات ذات صلاحيات محدّدة. هذا النظام المتعدّد المستويات، قد يبدو بأنّه معقدٌ بعض الشيء، ويُمكن أنْ يؤدي إلى تضارب في السلطات والصراع بين المستويات المختلفة، مما يعيق تنفيذ القرارات والتنمية المستدامة.
ولكنّه في المحصّلة، وبعد التجربة، لاقى العديد من النجاحات، وحقّق إنجازات لصالح المواطنين، من خلال إشراك الهيئات الناخبة في إدارة أمورها، وتسيير شؤونها (lois Defferre).
• ألمانيا:
ازدواجية الصلاحيات مع تناسقها: في ألمانيا، يوجد توزيع متنوع للصلاحيات بين المستويات المختلفة من البلديات والمقاطعات والولايات الاتحادية. وهذا التوزيع والتناسق بين الجهاز المركزي والإدارة المحلّية سهّل على المواطنين تلبية احتياجاتهم، كما وعلى الدولة صنع القرار وتنفيذ السياسات الإنمائية والإنتاجية في جميع أنحاء البلاد.
• سويسرا:
تنوّع الصلاحيات وتوزّعها بين المركز والإطراف: في سويسرا، تتمتّع الكانتونات بصلاحياتٍ واسعة في الحكم المحلي والإقليمي، وتُوجد أيضًا البلديات التي تتمتع بصلاحياتها الخاصة. هذا النظام اللامركزي أدّى التنسيق بين الحكومة والسلطات المحلية، والسرعة في اتخاذ القرارات المشتركة، وبالتالي النجاح في تنفيذ السياسات والمشاريع الكبرى.
بناءً على ما تقدّم، وفقاً لرأينا، تُعدُّ الإدارة البلدية نمطًا موازيًا للإدارة المركزية، وليست جزءًا منها، بل هي إدارة مستقلّة عن الإدارة المركزية. والدليل على ذلك هو أن أشخاص الإدارة البلدية (البلديات) إنما هي أسبق في نشوئها من الدولة إذ ظهرت القرية بوصفها أقدم شكل من أشكال الحياة البلدية la commune، وتمتّعت منذ نشأتها بقدر كبير من الاستقلال في مواجهة النفوذ الخارجي، وكانت مسؤولة عن كل القضايا التي تهمُّ الانتفاع بالملكيات المشتركة، والدفاع عن مصالح القرية la communauté وقمع المخالفات. وهذا التجذُّر التاريخي للإدارة البلدية، إنما يُعدَّ دليلًا كافيًا على أصالة هذا النظام واستقلاله عن النظام الإداري المركزي.
وعليه، فإنَّ البلديات هي تنظيم إداري لامركزي إقليمي يقوم على بعدين رئيسيين هما: البعد السياسي والبعد الحقوقي. ولا يمكن الوصول إلى فهم صحيح للإدارة البلدية إلا من خلال الجمع بين هذين البعدين.
1- البعد السياسي للإدارة البلدية: تتجلّى الإدارة البلدية بالمعنى السياسي من خلال قيام المواطنين بأداء الخدمات العامة بنفسهم ولنفسهم وتطوّعًا، وهي بهذا المعنى تختلف عن إدارة الخدمات العامة عن طريق موظفين رسميين. ويهدفُ هذا النوع من الإدارة إلى تقليص دور البيروقراطية، وإلى وضع حدٍّ للتباعد بين الدولة والمجتمع، وإلى تقوية شعور المواطن بالمسؤولية. وهذا يؤدي من حيث النتيجة إلى تحقيق إدارة قريبة من المواطنين، وتخفيف العبء عن الموظفين الرسميين، وتقليص نفقات الإدارة.
2- البعد القانوني للإدارة البلدية: تعني الإدارة البلدية من الناحية القانونية إدارة الخدمات العامة ذات الطابع المحلي بمسؤولية ذاتية وبعيدًا عن توجيهات السلطة المركزية، بوساطة أشخاص اعتبارية عامة وتحت رقابة السلطة المركزية. وتتميز الإدارة البلدية بالمعنى الحقوقي بأنها تُحقّق من الناحية العلمية جميع أركان اللامركزية الإقليمية وأهمها:
أ- نطاق خاص بها للتصرف: أي لها مصالح مستقلة عن المصالح القومية للدولة.
ب- أهلية قانونية للتصرف: تتجلّى بالشخصية الاعتبارية التي تقوم على الاستقلاليْن الإداري والمالي.
ج- مبدأ شمولية اختصاص البلديات لسائر أنواع المرافق العامة المحلية (مشافٍ عامة، مشاريع البنية التحتية والخدمية، نشاطات ثقافية… إلخ).
وأبعد من ذلك، تُعدُّ الإدارة البلدية من الناحية القانونية تطبيقًا من تطبيقات مبدأ الفصل العمودي للسلطات. حيث يبدو ذلك واضحًا من خلال احتلال البلديات مكانتها في الجسم الإداري للدولة واحتفاظها بصلاحيات ذاتية في اتخاذ القرار، وعلى نحو منفصل عن صلاحيات الإدارة المركزية. وبهذا تعمل الإدارة البلدية على توزيع السلطات الإدارية على المستويات الإدارية، والحد من تركيز السلطة. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، تضمن الإدارة البلدية من الناحية الحقوقية الشرعية الديمقراطيةَ لأشخاصها، وذلك من خلال اعتماد مبدأ الانتخاب العام والمباشر والحر والسّري في تشكيل المجالس البلدية.
فاللامركزية إذن تُساهُم في الحدّ من حجم المهام والوظائف التي تقوم بها السلطة المركزية، وتتقاسم الصلاحيات بينها وبين الجهاز المركزي.
مع التنويه على أنّه لا يجوز الخلط بين اللامركزية Décentralisation واللاحصرية Déconcentration ، فالأولى يُقصدُ بها الوحدة الإدارية الصّغرى المنتخبة من الشعب، بينما يُقصد باللاحصرية، تعزيز سلطات كلٍّ من المحافظين والقائمقامين، وهم بنهاية الأمر موظفين عموميين غير منتخبين من الشّعب.
وأكثر من ذلك، فإنَّ البلدية، شأنها شأن مجلس القضاء، تتوافق مع فكرة اللامركزية الادارية التي نصَّ عليها اتفاق الطائف – وثيقة الوفاق الوطني – في بند الإصلاحات الأخرى – فقرة 4، بقوله :” اعتماد اللامركزية الادارية الموسعة على مستوى الوحدات الادارية الصغرى (القضاء وما دون) عن طريق انتخاب مجلس لكل قضاء يرأسه القائمقام تأمينا للمشاركة المحلية.
كما نصّ اتفاق الطائف على وجوب “اعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً، وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحدة والاتحادات البلدية بالإمكانيات المالية اللازمة”.
وانطلاقًا من عرضنا أعلاه، نخلصُ إلى القول بأنَّ البلديات تمتلك الخصائص الأساسية للامركزية الادارية. فالبلدية أو الهيئة المحلية، هي وحدة البناء الاستراتيجي للسياسات العامة، كما أنّها وحدة بلورة هذه السياسات ووضع أسس تنفيذها، باعتبار أنّها تُساهمُ في خلق بيئة قانونية وتنظيمية جيدة. فهي تتمتع بشخصيةٍ معنويةٍ واستقلالٍ ماليٍّ وإداري، يُمكّنها من آداء الاختصاصات الموكلة اليها.
وفي الختام، إنَّ اعتماد اللامركزية الإدارية، بالرّغم من أهميته، يُحتّم تنسيقًا وتواصلًا متناسقًا بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية، تقوم على المشاركة والتعاون بعيداً عن التفرُّد والتسلُّط.
“محكمة” – السبت في 2023/6/10

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!