أبرز الأخبارعلم وخبرميديا

المحكمة الدولية للأمم المتحدة والدولة اللبنانية:إعتذروا من الضبّاط الأربعة/علي الموسوي

كتب علي الموسوي:
وجّهت المحكمة الخاصة بلبنان صفعة قوية ودرساً تاريخياً للقضاء اللبناني ممثّلاً بالثلاثي سعيد ميرزا والياس عيد وصقر صقر، ولجنة التحقيق الدولية مجسّدة بالقضاة الألماني ديتليف ميليس والبلجيكي سيرج برامرتز والكندي دانيال بيلمار على فعلتهم الشنيعة بإمعانهم في احتجاز حرّية الضبّاط الأربعة اللواءين جميل السيّد وعلي الحاج والعميدين مصطفى حمدان وريمون عازار واعتقالهم تعسفياً ومن دون أيّ سند قانوني على مدى ثلاث سنوات وثمانية شهور وهو ما يخالف القانون الدولي، ويتعارض مع العدالة الدولية.


والحقّ يقال إنّ القاضي الأسترالي دايفيد ري وبصفته رئيس غرفة الدرجة الأولى في المحكمة الخاصة بلبنان قدّم نموذجاً مثالياً عن القاضي الشجاع الذي لا يهاب أحداً ولا يخشى لومة لائم عند قول الحقّ والمجاهرة به، فتحدّث بلغة راقية لا تخلو من الإمرة والتعنيف لا مجرّد اللوم والعتب الطفيف، عن وجوب قيام الأمم المتحدة بالإعتذار علناً عمّا تسبّبت به من ظلم للضبّاط الأربعة نتيجة مسؤوليتها عن أعمال لجنة التحقيق الدولية، وأشار عليها بأن تبادر فوراً للتعويض عليهم، وكذلك فعل مع الدولة اللبنانية المسؤولة عن أعمال القضاة، لا بل عن استهتار هؤلاء القضاة الثلاثة.
وليس من السهل أن يتصدّى قاض للأمم المتحدة التي أنشأت هذه المحكمة، وأن يحمّلها مسؤولية تخاذل قضاتها الثلاثة الذين يفترض أنّهم “دوليون” ومحترفون، عن إحقاق الحقّ وقبولهم باستمرار الإعتقال التعسفي في ظلّ انعدام الأدلّة، لا بل في ظلّ انعدام الشبهات الحقيقية على تورّطهم بجريمة 14 شباط 2005، فنفّذ ميليس الأمر الدولي باعتقال رؤساء الأجهزة الأمنية تمهيداً لانهيار عناصرهم والسماح بإحكام السيطرة عليها من جديد لفريق سياسي محدّد هو “14 آذار”، ولم يحرّك خليفتاه برامرتز وبيلمار ساكناً إزاء التعسّف في التحقيق والإستمرار في الإعتقال.
ولو اكتفى القاضي ري بتعنيف القضاء اللبناني على ممارسة حجز الحرّية والإعتقال التعسفي لما كان لموقفه من أيّ أثر مهمّ على الصعيد الدولي الذي لا يثق مثل أغلبية الشعب اللبناني بالقضاء اللبناني، لكنّه آثر توسيع بيكار صفعته المدوّية لتشمل الأمم المتحدة، مع ما قد تتركه أصداؤها من تداعيات كبيرة في المحافل الدولية والعدالة الدولية حيث الأهمّية للإنسان قبل القانون.
إنتصار عازوري وكرم والضبّاط
وإنْ كان الحُكْم مخصّصاً للحديث عن متهمّين مزعومين لاغتيال الحريري فاعتبر سليم عيّاش مذنباً شريكاً وكيف يكون الشريك معروفاً والفاعل مجهولاً؟، وحسن مرعي وحسين عنيسي وأسد صبرا غير مذنبين، إلاّ أنّه توقّف ملياً عند قضيّة الضبّاط الأربعة المحقّة، وأعاد لهم حقّاً مسلوباً ورفع عنهم ثقل جريمة وتهم فظيعة كان سياسيون لبنانيون يردّدونها صبحاً ومساء وفي غير مناسبة وتصريح وخطاب، من منطلق الإتهام الجنائي لا السياسي، ولذلك فإنّ هذا الحكم الصريح والواضح يؤكّد انتصار الضبّاط الأربعة والمحاميين المقاتلين الباسلين أكرم عازوري والنقيب الراحل عصام كرم اللذين لم يعدما وسيلة لإيصال صوت الحقّ في وقت كان كثيرون يحاربونهما ويلومانهما على موقفيهما بالدفاع عمن يرونهم “جناة فاعلين”.
ميليس رئيس مخفر
وفيما كان النقيب كرم يجاهر بمقولته الخالدة: “الدليل أو إخلاء السبيل”، رفضاً منه لتخلّي القضاء اللبناني عن واجب إحقاق الحقّ وانحيازه لتنفيذ أجندة سياسية داخلية من دون دليل حسّي ملموس، كان عازوري يردّد ومن أمام قصر عدل بيروت ومنذ الإستجواب الأوّل للواء جميل السيّد في 3 أيلول 2005″ أنّ قاضي التحقيق الياس عيد ليس ملزماً بطلب المحقّق الدولي ديتليف ميليس إصدار مذكّرة توقيف بحقّ السيّد، لأنّ ميليس وفقاً للقوانين هو مجرّد ضابط عدلي كرئيس مخفر فرن الشبّاك لا يحقّ له إصدار تعليمات لقاض”.
وبعد خمسة عشر عاماً أتى الحكم الدولي للمحكمة الخاصة بلبنان ليؤكّد وبشكل قاطع أنّ عازوري وكرم كانا محقّين في موقفيهما، وهما المحاميان الخبيران في الملفّات الجنائية وتشهد قصور العدل اللبنانية على علو كعبهما وتفوّقهما على الكثيرين من القضاة الجالسين على قوس المحاكم.
ولو لم يحمل اللواء السيّد هذه القضيّة على عاتقه الخاص ويذهب بها إلى عقر دار المحكمة الخاصة بلبنان في لاهاي الهولندية ويطالب بحقّه وحقّ رفاقه، لما أمكن تحقيق هذا الإنتصار الكبير وبحكم مكتوب بلغة قانونية دولية.


القاضي ري يتصدّى
كيف جاءت صفعات المحكمة للقضاء اللبناني ولجنة التحقيق ومن خلفهما للدولة اللبنانية والأمم المتحدة؟
بالعودة إلى متن الحكم الصادر يوم الثلاثاء الواقع فيه 18 آب 2020، نجد أنّه كرّس 22 صفحة للحديث عن قضيّة الضبّاط الأربعة، بدءاً من الصفحة 2231 وانتهاء بالصفحة 2252، وعلى مدى 69 فقرة هي الواقعة بين الرقمين 13 و82، وقد جاءت تحت العنوان التالي:” “الجنرالات الأربعة” والصمت العلني للأمم المتحدة ولجنة التحقيق الدولية المستقلّة – قضية جميل السيّد”
(The “four generals” and the UN and UNIIIC’s public silence—the case of Jamil El-Sayyed)
ونقرأ في الفقرة 55 ممّا طرّزه القاضي ري باحتراف ما يلي:” إذا تركنا جانباً ميليس الذي بوضوح لم يتخذّ أيّ إجراء برأيي، إنّما كان على خليفتيه إتخاذ الإجراءات لإطلاق سراح كلّ من كان محتجزاً بأمر من لجنة التحقيق التي لم تكن تحوز أيّ دليل ضدّهم، وذلك فور افتضاح أسباب توقيفهم خصوصاً وأنّ الشاهد الملك/النجم تراجع عن شهادته(such sa formerly star witness recanting his testimony) فكان على رئيسي لجنة التحقيق المتتاليين اللذين خلفا ميليس أن يعلنا بوضوح وأمام الملأ وبصورة علنية للسلطات اللبنانية أنّ استمرار توقيف الضبّاط الأربعة يخرق القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ويتابع ري في الفقرة 56: كان على خليفتي ميليس أن يضمّنا تقاريرهما الدولية لمجلس الأمن أنّ هذه التوقيفات المستمرّة هي توقيفات تعسفية إلاّ أنّهما لم يفعلا ممّا يشكّل إخلالاً بواجباتهما.
ويوضح القاضي دايفيد ري في الفقرة 58 أنّ السلطات اللبنانية تجاهلت تماماً رأي فريق العمل المعني بالإعتقال التعسّفي في المفوضّية العليا لحقوق الإنسان في جنيف والموجّه إليها في 27 نيسان 2007 والذي حمّل بوضوح قاضي التحقيق مسؤولية التوقيفات التعسفية.
“منطقة رمادية”
ويطالعنا ري في الفقرة 59 قائلاً: في قضايا التوقيف التعسفي وحجز الحرّية لا وجود “لمنطقة رمادية”(grey area)، والمقصود أنّه لا يمكن تقاذف المسؤولية بين لجنة التحقيق والقضاء اللبناني خصوصاً وأنّ اللواء السيّد على الأقلّ منذ تقرير برامرتز في كانون الأوّل 2006 لم يعد موضع تحقيق في قضيّة اغتيال الحريري، إلاّ أنّ برامرتز لمّح إلى ذلك وأحجم عن اتخاذ موقف صريح لمصلحة إطلاق سراح الضبّاط الأربعة.
دور ميرزا غير القانوني
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى الدور غير القانوني الذي لعبه النائب العام التمييزي آنذاك سعيد ميرزا بناء لرغبة سياسية فاضحة، فرفض قرار القاضي الياس عيد بإطلاق سراح اثنين من الضبّاط الأربعة هما اللواء جميل السيّد واللواء علي الحاج، والإشكال الذي وقع بينهما في مكتب ميرزا وانتهى بنقل عيد إلى المستشفى، ثمّ الإسراع إلى كفّ يده وتعيين صقر صقر بديلاً عنه لإكمال مهمّة الإعتقال التعسفي، ولا يمكن لهؤلاء القضاة الثلاثة أن يرفعوا عن أنفسهم وصمة عار ممارسة حجز الحرّية والإعتقال التعسفي والتي تبقى علامة سوداء في مسيرتهم في الجسم القضائي اللبناني المهترئ.
وفي الفقرة 61 يقول القاضي ري إنّ الأمم المتحدة والدولة اللبنانية مسؤولتان بالتكافل والتضامن عن احتجاز حرّية الضبّاط الأربعة لأنّ الأمم المتحدة تسبّبت في اعتقالهم (عبر توصية ميليس السياسية وغير القانونية إلى عيد)، والقضاء اللبناني إستمرّ في احتجازهم من دون أدلّة لمدّة ثلاث سنوات وثمانية شهور.
خلل في عمل القضاء اللبناني
ويعرب القاضي ري عن شكّه في أن تتحمّل الدولة اللبنانية لمسؤولياتها نظراً للخلل في عمل المرفق القضائي اللبناني. وهذا الكلام القاسي من ري هو دليل كاف عن عدم اقتناع بعمل القضاء اللبناني وانعدام الثقة به، وهذا يعني أنّ الثلاثي ميرزا وعيد وصقر هم مسؤولون في الدرجة الأولى والأخيرة عمّا أصاب القضاء اللبناني من عار في قضيّة اعتقال الضبّاط الأربعة والإصرار على إبقائهم خلف القضبان تحقيقاً لمآرب سياسية مكشوفة كانت تتلاعب بالتحقيق اللبناني والدولي في آن معاً ممّا أدّى في نهاية المطاف إلى تجهيل الفاعل في اغتيال الحريري.
ويتوّج القاضي ري تعمّقه في قضيّة الضبّاط الأربعة في الفقرة 82 والأخيرة بقوله إنّه يتوجّب على الأمم المتحدة أن تتحرّك تلقائياً للتعويض على جميع الأشخاص الذين اعتقلوا لسنوات بناء على توصيات لجنتها، ويجب على الأمم المتحدة أن تعتذر علناً ورسمياً عمّا تسبّبت به من ظلم.
in these circumstances the united nations should if it has not already move to compensate those who wrongly detained for years on the basis of the recommendtions of its officials. it should formally apologise for what occurred
عازوري
وتعليقاً على انتصاره كمحام ورجل قانوني مميّز في مسألة الإعتقال التعسفي للضبّاط الأربعة، يقول المحامي أكرم عازوري لـ”محكمة” إنّ ما قاله علناً منذ 15 سنة عن موضع الخلل في هذا الإعتقال عالجه القاضي ري بتشديده على أنّه لا يوجد في مسألة احتجاز الحرّية “منطقة رمادية”، فطوال سنوات الإعتقال أحجمت لجنة التحقيق الدولية التي أوصت أساساً باعتقال الضبّاط، عن الطلب من القضاء اللبناني لوضع حدّ لهذا الإعتقال حيث كان القضاء اللبناني يتحجّج بعدم تبلّغه طلباً من لجنة التحقيق لإطلاق سراحهم.
باكستان وميليس ثان
ويضيف عازوري: هذه هي الوسيلة التقنية التي استعملت لاستمرار الإعتقال التعسفي على مدى ثلاث سنوات وثمانية شهور، مذكّراً بأنّه عند اغتيال رئيسة الوزراء الباكستانية بينَظير ذو الفقار علي بوتو في 27 كانون الأوّل 2007 في روالبندي الباكستانية طالبت المعارضة في بلادها بلجنة تحقيق دولية فأجابها الرئيس الباكستاني آنذاك برويز مشرف: لا نستطيع تحمّل ديتليف ميليس ثان” ممّا يثبت الضرر البليغ الذي ألحقه ميليس عن سوء نيّة، ومن تبعه في رئاسة لجنة التحقيق، لجهة عدم تحمّل المسؤولية، بمصداقية العدالة الدولية.
وهذا ما دفع القاضي ري إلى إطلاق ثورته الحُكْمية على ما فعله ميليس وبرامرتز وبيلمار، فتعمّد تضمين الحكم انتقادات لاذعة غير مسبوقة في تاريخ المحاكم الدولية، ستظلّ مثالاً يحتذى عند حصول أيّ اعتقال تعسفي في حياة البشرية.
“محكمة” – الأربعاء في 2020/8/19
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!