مقالات

لبنان أمام “شبح الفراغين” من أجدر بالحماية الدولة أم النصّ؟/رامي عيتاني

المحامي رامي عيتاني:
ماذا لو خلت سدّة الرئاسة بانتهاء مدّة ولاية رئيس الجمهورية دون أن يتمكّن المجلس النيابي من انتخاب الخلف، ولم يتمكّن الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي من تشكيل حكومة جديدة، وبقيت حكومته المستقيلة مكلّفة بتصريف الأعمال، هل يحقّ لهذه الحكومة المستقيلة أن تتولّى صلاحيات الرئاسة الأولى بالوكالة إلى أن يتمكّن المجلس النيابي من اختيار رئيس جديد للجمهورية، أم أنّ لبنان يتجه إلى جهنم آخر عنوانه “شبح الفراغين”؟!
إنّ موقف الاجتهاد والفقه في معظم دول العالم مستقرّ على الأخذ بنظرية الظروف الاستثنائية التي تفرض سيرورة عمل المرفق العام واستمرارية عمل المؤسّسات الدستورية، وعملاً بهذا المبدأ وتحاشياً للوقوع في الفراغ الدستوري أو فراغ الحكم، وحرصاً على سلامة الدولة وسلامة المؤسّسات والإدارات العامة، يمكن لحكومة مستقيلة أن تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية في حال الشغور، تماشياً ومبدأ الضرورات تبيح المحظورات، ويكون عندها أضعف الإيمان تسيير أحوال لا أعمال دولة منهارة من كافة الأصعدة!
ويمكن القول بأنّ الأساس القانوني للسلطات الاستثنائية هي الظروف الاستثنائية، لأنّ الالتزام بمبدأ المشروعية العادية أثناء الظروف الاستثنائية قد يؤدّي إلى أضرار بالغة بالدولة. فعندما يعترض مبدأ المشروعية ظرف إستثنائي تلجأ الحكومة إلى أعمال تخرج عن هذا المبدأ حفاظاً على سلامة الدولة وكيانها، ومع ذلك يبقى هذا الإستثناء وما يترتّب عليه من إجراءات مخالفة للقوانين صحيحاً كونه يحقّق نفس الهدف المترتّب على مبدأ المشروعية. أيّ أنّ نظرية الظروف الاستثنائية تعطي الهيئات الحاكمة سلطات واسعة في وقت الأزمة، فالظروف الاستثنائية ما هي برأينا إلّا خروج عن المبادئ العامة واستثناء من مبدأ السمو والتضحية بمصالح الأفراد بغرض حماية الدولة ورعاية مصالحها. أمّا النهوض بكيان الدولة وإزاحة الأطلال عن مؤسّساتها فهو أمر مباح ويعطي الحكومة الحقّ بأن تخرج عن النصّ باعتبار الظروف الاستثنائية تفرض أمراً أهمّ وأعمّ، لا بل أشمل لاحتواء الوضع الداهم والسعي بمختلف المجالات إلى تثبيت ركائز الدولة وإعادة بثّ الروح بمؤسّساتها الدستورية والادارية.
وعموماً، إنّ الفقه القانوني يدافع عن نظرية الظروف الاستثنائية ويعدّها توسّعاً لمبدأ المشروعية. والأفكار التي بنيت عليها هذه النظرية كثيرة وأهمّها فكرة السيادة وفكرة الاستعجال. ففكرة السيادة تعني سيادة الدولة وسلطانها في إدارة شؤونها الداخلية والخارجية وذلك من خلال إدارتها لمرافقها وخضوع كلّ من يقيم على أراضيها لأنظمتها، ومحافظتها على الأمن العام وحماية الأرواح والأموال. فإذا ما وجد خطر يهدّد هذه السيادة كان لها الحقّ في اتخاذ ما هو لازم لذلك.
أمّا فكرة الاستعجال، فتعني أن تتخذ الحكومة إجراءات سريعة دون تأخير، وإنّ الظروف الاستثنائية ظروف حالة وسريعة لا بدّ أن تسير الحكومة بذات سرعتها وخطورتها واتخاذ الإجراءات بالسرعة القصوى لدرء الخطر.
ولمّا كان من المؤكّد أنّه في حال حدوث الفراغين بدولة مهترئة الكيان، ضعيفة الأمن، رديئة المؤسّسات، منهارة الاقتصاد، أن يتهدّدها الخطر الأمني والتفلّت القضائي، لذلك ومن الأسلم والأوجب أن تكون الدولة في ظروف كهذه، قادرة على الخروج من التقيّد الحاد بنصّ وضعي والتمسك بنصّ أشبه بالظروف الراهنة والسعي حينها إلى تدارك الوضع واستباق الأحداث والركون إلى الغاية المتمثّلة في عدم تعطيل أيّ سلطة من السلطات الثلاث بصرف النظر عن الجسم الذي يديرها ويمسك بزمامها.
وبالتالي، فإنّ شروط الظروف الإستثنائية التي تمكّن حكومة تصريف الأعمال من تولّي صلاحيات الرئاسة بالوكالة كلّها متوفّرة في حالة الفراغ الرئاسي، بعد انتهاء عهد الرئيس عون وهي: قيام حالة تمثّل خطراً جسيماً يهدّد المصلحة العامة، وتعذّر اتباع الحكومة لقواعد المشروعية العادية، وأخيراً أن تهدف الإجراءات الاستثنائية إلى حماية المصلحة العامة.
فإذا ما كان صحيحاً أنّ المادة 64 من الدستور اللبناني تنصّ على أنّه “لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيل الثقة، ولا بعد استقالتها، أو اعتبارها مستقيلة إلّا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال”. إلّا أنّه يجب عدم الخلط بين ممارسة مجلس الوزراء لصلاحيات رئيس الجمهورية وبين ممارسته لصلاحياته الدستورية، الذي يبقى كما هو، سواء أكان رئيس الجمهورية موجوداً أم كان منصبه شاغراً، على أن يصار إلى الالتزام بالحالة الأخيرة باجتهاد مجلس شورى الدولة المعتمد من 1 كانون الأوّل 1969 بالقرار الشهير رقم 613، الصادر عن غرفة الرئيس عبدو عويدات وعضوية المستشارين وليم نون وميشال عبود، لجهة تحديد نطاق تصريف الأعمال من خلال التفريق بين الأعمال العادية وبين الأعمال التصرّفية. ومن خلال التفريق بين الأعمال التصرّفية العادية والاستثنائية، لأنه في هذا القرار المبدئي نجد خير تحديد وتصنيف للأعمال العادية هي تلك الداخلة في صلاحيات الوزارة المستقيلة، والتي تعني الأعمال اليومية التي يعود إلى الهيئات الإدارية إتمامها، كما نجد خير تصنيف للأعمال التصرّفية هي تلك التي لا تقضي بها العجلة والمصلحة العامة ولا يجوز من ثمّ لهذه الوزارة إجراءها.
أمّا الأعمال التصرّفية التي تفرضها ظروف استثنائية تتعلّق بالنظام العام وأمن الدولة، وكذلك الأعمال التي يجب إجراؤها في مهل محدّدة في القوانين تحت السقوط والإبطال، فيمكن للوزارة المستقيلة اتخاذها في هذه الظروف.
وعن كيفية اتخاذ القرارات عند خلو سدّة الرئاسة، فبرأينا لا بدّ من الأخذ برأي الرئيس نبيه بري الصائب الذي لا يرى في خلوّ الرئاسة ما يبرّر شلّ عمل الحكومة وجعل قراراتها رهن مشيئة أيّ وزير فيها. هذا الرأي الأقرب للمنطق صدر عنه زمن حكومة الرئيس تمام سلام، ويستند بمضمونه إلى رأي قائم على وجوب اتباع صيغة أكثر مرونة لتسيير عمل الحكومة تتلخّص في إصدار قرارات مجلس الوزراء بالنصف زائداً واحداً، أو بأكثرية الثلثين وفقاً لطبيعة الموضوع كما كان يحصل خلال وجود رئيس الجمهورية، لا سيّما أنّ حكومة الرئيس فؤاد السنيورة كانت في ظلّ غياب رئيس الجمهورية تصدر قرارتها بأكثرية ثلثي الحاضرين ولم تعتمد صيغة الإجماع ، على أن يؤخذ بعين الاعتبار أنّ الحكومة المستقيلة لا يمكنها ممارسة الصلاحيات اللصيقة برئيس الجمهورية كالعفو الخاص، ومراجعة المجلس الدستوري، ومخاطبة مجلس النوّاب عبر رسائل، وترؤس الحفلات الرسمية، ومنح الأوسمة، وغيرها.
الخلاصة من الموضوع، أنّ الدولة بمختلف تفرّعاتها هي الأجدر بالحماية من الانهيار بسبب الفراغ عن حماية نصّ مكتوب مقيّد الجوانب، باعتبار أنّنا سنكون أمام خيارين إمّا التضحية بنصّ وضعي وإمّا بدولة بأكملها بما فيها من مقوّمات ومؤسّسات وكيان.
ما يثير التساؤل حول من هو الأجدر بالحماية، الدولة أم النصّ؟!
فهل يصحّ الحال أن نقارن نصّاً بدولة، أم نحترم النصوص ونهدم الدولة؟!
“محكمة” – الأحد في 2022/10/16

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!