مقالات

نطاق صلاحيات الحكومة المستقيلة/جهاد اسماعيل

جهاد اسماعيل:
من المبادئ التي استقرّ عليها النظام البرلماني، في إطار الإبقاء على حياة الدولة ومؤسّساتها، هو أن تبقى الحكومة المستقيلة مولجة “بتصريف الأعمال العادية أو الجارية” إستناداً إلى مبدأ استمرارية المرافق العامة، وذلك حتّى تشكيل الحكومة الجديدة التي قد يطول تأليفها تبعاً لخصوصية وتعقيدات التركيبة اللبنانية، وتطبيقاً لذلك، نصّت المادة 64 من الدستور على أن “لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلاّ بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال”.
إلاّ أنّ الخلاف ما زال قائماً حول نطاق تصريف الأعمال الذي يجوز للحكومة المستقيلة أن تمارسه، ما يدفعنا إلى تحليل النصّ الدستوري وموقف الفقه والاجتهاد الفرنسي واللبناني، بغية تحديد مساحة وحدود صلاحيات الحكومة المستقيلة، وهذا ما يمكن ترجمته في السياق الآتي:
– إنّ الاطلاع على نصّ المادة 64 من الدستور، يأخذنا إلى أنّ المشترع الدستوري يحدّد النطاق الضيّق للتصريف عند استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة، إلاّ أنّه سكت عن تنظيم حدوده، ما يحتّم العودة إلى الفقه والاجتهاد، علماً أنّ هذا النصّ كان قد أقرّ في ظرف ساد فيه الاعتقاد، بعد الحرب، أن تكون مهلة تصريف الأعمال لا تتجاوز الأيّام، ولم يفترض للمشترع الدستوري، نتيجة للديمقراطية التوافقية اللبنانية والممارسات السياسية، أنّ مهلة التصريف ستفوق الأسابيع أو الأشهر.
ولعلّ من الأسباب الموجبة التي دفعت المشترع الى إدراج هذه الصيغة، هي الأزمة الحكومية التي عرفها لبنان سنة 1969 لأكثر من سبعة أشهر عقب استقالة الرئيس رشيد كرامي، حيث شهدت اتساعاً في صلاحية الحكومة المستقيلة آنذاك على صعيد التحضير لمشروع الموازنة العامة أو على صعيد انعقاد الحكومة واتخاذها قرارات داخلية وخارجية.
– عملاً بالاجتهاد اللبناني، أيّ بقرارات مجلس شورى الدولة، فإنّ معرفة حدود تصريف الأعمال يوجب التمييز بين الأعمال العادية والتصرّفية،
فالأعمال العادية تنحصر مبدئياً في الأعمال الإدارية أيّ الأعمال اليومية التي يعود إلى الهيئات الادارية إتمامها وتصريف الأعمال الفردية التي لا يمارس عليها الوزير سوى إشراف محدود. بينما الأعمال التصرّفية فهي التي ترمي إلى “إحداث أعباء جديدة أو التصرّف باعتمادات هامة أو إدخال تغيير جوهري على سير المصالح العامة أو في أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحت طائلة المسؤولية الوزارية…”.
أمّا الأعمال التصرّفية فتخرج في المبدأ وبطبيعتها من نطاق “الأعمال العادية” ولا يحقّ في المطلق لحكومة مستقيلة أن تقوم بها لأنّ هذه الأعمال تلزم مسؤولية الحكومة أمام مجلس النوّاب ما يجعل السماح لهذه الحكومة غير المسؤولة المستقيلة بإجرائها يؤدّي إلى ضياع المسؤولية وبالتالي المحاسبة.
– هناك أعمال خطيرة تضطرّ الحكومة المستقيلة إلى إتمامها كونها طارئة وضاغطة لأسباب سياسية كمقتضيات الأمن العام أو سلامة الأراضي اللبنانية أو التزامات العلاقات الدولية أو الحرب الخارجية أو لاعتبارات قانونية، فيما لو كانت الأعمال المطلوبة تستلزم اتخاذ إجراءات عاجلة تحت طائلة تهديد أمن وسلامة الدولة أو سقوط حقوقها أو بطلانها أو تجميد مصالح الدولة والحؤول دون سيرها. فتصريف الأعمال بخلاف ما يشاع ليس بالقاعدة الجامدة التي لا تتحرّك في حال توافر ظروف في البلاد تستدعي تدخّل حكومة تصريف الأعمال بغضّ النظر عن الاستقالة وهذا ما استقرّ عليه الفقه الدستوري والاجتهاد اللبنانيان، كذلك الفرنسي على أكثر من صعيد، إذ إنّ تصريف الأعمال للحكومة بعد استقالتها يمنعها من اتخاذ تدابير تصرّفية تلزم الحكومة الجديدة بأعباء جديدة، لكن لا يمنعها، سنداً للإجتهاد والفقه الفرنسيين، من اتخاذ قرارات في أعمال بدأت بها الحكومة قبل استقالتها،
كما أنّه لا يمنع الحكومة من اتخاذ قرارات تصرّفية تقتضيها ضرورات مصلحة الدولة العليا كالكوارث أو التزامات الدولة المالية كما أسلفنا الذكر، وهذا ما أكّده الاجتهاد الاداري اللبناني في قرارات صادرة عن مجلس شورى الدولة.
لذلك، لا يمكن أن تسقط الحكومة المستقيلة مسؤولياتها عن مواجهة الظروف الاقتصادية أو النقدية، على اعتبار أنّ الاجتهاد الاداري الفرنسي أو اللبناني لم يعف الحكومة من واجباتها في حالات طارئة أو كارثية على غرار ما نشهده في الآونة الأخيرة، لا سيّما في الأعمال التي بدأت بها أو تسبّبت بها، إذ بعد استقالة حكومة الحريري، ساد الاعتقاد، من أهل السلطة والرأي العام، أنّ المسؤولية ساقطة، لا سيّما وأنّ المجلس النيابي لم ينزع الثقة من الحكومة، بل كانت الاستقالة بإرادة رئيسها، والفرق واضح لجهة النتائج والتبعات.
“محكمة” – الأحد في 2019/11/24

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!