أبحاث ودراسات

مدى إمكانية حصول متضرّري الأمطار الطوفانية على تعويض من الدولة/مرام أبو درهمين

الدكتورة مرام أبو درهمين:
تُعتبر الأمطار الطوفانية عاملاً مسبّباً للكوارث الطبيعية حيث من الممكن أن تتسبّب في فيضانات وتدمير للبنية التحتية والممتلكات ، الأمر الذي يتطلّب تنسيق جهود الإدارة البيئية والتخطيط للحدّ من آثارها السلبية.
وشهد لبنان في الآونة الأخيرة هطول كميات كبيرة من الأمطار في فترة زمنية تُعدّ قصيرة، أدّت إلى العديد من الأضرار البيئية الخطيرة والإنجرافات الصخرية، إذ ضجّت مواقع التواصل الإجتماعي بمشاهد صادمة سُجلت على غالبية طرقات لبنان التي غمرتها مياه الأمطار الغزيرة فأغرقت معها السيارات والمواطنين في الشوارع، كما أغرقت السيولُ العديد من البيوت وامتلأت الطرق بالحجارة والوحول والصخور وحصلت انهيارات عدّة أدّت إلى تضرّر العديد من البساتين والأراضي الزراعية، وخسارة بعض المواطنين لأشجارهم المثمرة، هذا فضلاً عن دخول مياة الأمطار الى العديد من المطاعم والمقاهي المجاورة لمياه الأنهار وتضرّرها بشكل كامل ، بالإضافة الى ما حصل مؤخراً في مدينة الشويفات حيث تعرّض مبنيان للإنهيار بشكل كامل.
تمثّل الأضرار وما ينتج عنها من كوارث، أحداثاً مفجعة تُصيب مناطق مختلفة في العالم ، فنادراً ما نجد دولة لم تُصب بكارثة، وخصوصاً في الآونة الأخيرة، إذ شهد العالم تزايداً مطرّداً في الكوارث التي تُهدد حياة الأفراد وممتلكاتهم بشكل كبير نظراً لما ينتج عنها من أضرار جسيمة في الأرواح والممتلكات، وفضلاً عمّا يتخلّف عنها من مشاكل إجتماعية ونفسية عظيمة ، فلا يمكن في هذه الحالة تطبيق قواعد المسؤولية المعروفة في القانون المدني، بل يجب الأخذ بقواعد خاصة يمكن أن لا تكون مكتوبة ، متطوّرة ومتغيّرة بشكل يتناسب وحاجات المرافق العامة الإدارية من جهة، وتراعي حقوق وحاجات الأفراد من جهة أخرى، نظراً لتسارع وتضاعف نشاطات الدولة في مجالات تدخّلها على جميع الأصعدة، وما ينتج عنها من ظهور حالات جديدة للمسؤولية الإدارية بعد أن أبانت الأسس الكلاسيكية للمسؤولية الإدارية عدم قدرتها على تعويض بعض الحالات التي تعرّضت للأضرار ، الأمر الذي أدى الى محاولة العثور على مبادىء حديثة يمكن من خلالها التعويض عن الضحايا وعدم تركهم لوحدهم يتكبدون هذه الأضرار خاصةً مع زيادة الإهتمام العلمي بالضحايا، وظهور مفهوم علم الضحايا الذي يهتم بحماية حقوق الضحايا وضمان استيفائهم لحقوقهم وتعويضهم وإنصافهم.
هناك صعوبة في التعويض في حالة الأمطار الطوفانية، لأنها تُعتبر من ضمن الكوارث الطبيعية ذلك أن الدولة وفي اغلب الأوقات، لا تكون مسؤولة عن حدوث الكوارث، وبالتالي لا تُطبق بشأنها قواعد المسوؤلية الإداريَّة القائمة على فكرة الخطأ، كما أنّها لا تُعدّ من الأعمال المشروعة حتى تُسأل عنها على أساس المخاطر أو مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة.
ففي هذه الحالة تُطرح إشكالية قانونية أساسية مفادها مدى أحقية وقانونية مطالبة ضحايا هذه الأمطار الدولة اللبنانية بالتعويض عن الأضرار التي أصيبوا بها من جرائها، وبالتالي ما هو الأساس القانوني الذي يمنحهم هذا الحقّ؟ ومن الذي يتحمّل عبء التعويض في هذه الحالة.
تنعقد مسؤوليَّة السلطة العامة في هذا المجال على أساس الخطأ في حال تقصيرها وإهمالها وتقاعسها عن اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة للوقاية من الأمطار الطوفانية والكوارث التي تنتج عنها ، فالدولة وفي حال لم يكن بإمكانها أن تمنع الكارثة من الحدوث أو الأضرار من التحقّق، إلّا أنّه كان من واجباتها أن تقوم باتخاذ الإجراءات الوقائية التي تمنع الكارثة من التفاقم ، حيث هناك مجموعة من الإجراءات والخطوات الضرورية الواجب إتخاذها للتعامل مع الأحداث بهدف تقليل الأضرار والخسائر في الأرواح والممتلكات لأقصى حدّ ، فهي عملية طويلة تتطلّب الكثير من التخطيط والنشـــاطات وأخذ القرارات والتجربة والممارسة لتغطّي مختلف مراحل تطوّر الكارثة ، عبر رصد الكوارث المحتملة وتحديد المناطق الأكثر عرضةً لها وتحضير الخطط المناسبة للتدخّل وصولاً الى الإجراءات العلاجية والاستجابة لتنفيذ الخطط المناسبة من قبل الأجهزة المعنية وللعمل على تطويق الكارثة والحدّ من آثارها والتأهّب للمستجدّات.
وهكذا يمكن الجزم بأنَّ عدم قيام الدولة بإجراءات الصيانة العادية لقنوات الصرف الصحي ومجاري الأنهار أو وجود عيب في إنشاءاتها ، أو إصدارها تراخيص للأفراد والسماح لهم بالبناء في أماكن معرّضة للكوارث، أو تقصيرها في إصدار قرارات معينة وصولاً الى النهوض المبكر ما بعد الكارثة ، كلها أفعال تدل على وجود خطأ مرفقي يوجب مسؤوليَّة الدولة.
وتأسيساً على ذلك ، تنعقد مسؤوليَّة المرافق العامة المختصة في حال إهمالها وتقصيرها بإبلاغ الأفراد بالأخطار الناتجة عن الكوارث الطبيعية أو في إخطارهم بوجود الكارثة، حيث إنّ الإخطار عن وقوع الكارثة يُعتبر من أبرز مهمات الدولة في معالجة الكوارث، إذ إنّه يجب ان يتولى رجال الشرطة أو الدفاع المدني أو موظّفو أي إدارة حكومية مختصة، أمر إبلاغ العموم عن حدوث خطر داهم أو محدق، وتحديد مكان وقوعه ونوعه ومداه ، فيقوم العموم عندها باتخاذ الحيطة والحذر وبتجنّب الأماكن والظروف الخطرة.
كما تقوم الأجهزة الأمنية والصحية المختصة بالدور اللازم في هذا المجال. ومن أبرز الأمثلة في مجال دراستنا على الإخطار بإمكانية وقوع الكوارث، هو قيام الأجهزة المختصة بإبلاغ المواطنين بالإخطار والأضرار التي من الممكن أن تسبّبها الأمطار الطوفانية والإجراءات الوقائية التي يجب عليهم إتخاذها.
ومن الضروري الإشارة إلى أنّ مسؤوليَّة الإدارة على أساس الخطأ في مجال الكوارث، لا يمكن حصرها مسبقاً ضمن قائمة محددة، بل يمكن القول إنّها تدور في فلك الإهمال والتقصير والخطأ الذي يساعد على تفاقم الأضرار والحيلولة دون سرعة معالجة أثارها.
ولكن ومن الناحية العملية، نجد أن التطبيقات القضائية تؤكد ندرة الدعاوى المتعلقة بإقرار مسؤوليَّة الدولة بالتعويض عن الكوارث بسبب خطأ إرتكبته ، إذ نادراً ما تؤسّس هذه المسؤوليَّة على أساس الخطأ بسبب صعوبة وصف نشاط الإدارة بالخاطئ، لأنّه في أغلب الأحيان، تقع الأضرار بــسبب نشاط الإدارة المشروع ، كما أنّ تداخل نشاط عدّة إدارات، وبالتالي تعدّد الأشخاص المعنوية العامة التي تقوم بالتقصير والإهمال وخاصةً في مجال الكوارث يؤدّي الى صعوبة تحديد الخطأ، وهو ما يثقل كاهل المتضرّر الذي يقع عليه عبء إثبات خطأ الإدارة والضرر الذي أصابه ناهيك عن صعوبة إثباته للرابطة السببية بين هذا الخطأ والضرر(1)، ممّا يؤدّي الى ضياع حقوقه ودخوله في متاهات كثيرة.
وبما ان التطورات الحديثة التي لحقت بوظائف الدولة ساعدت في إعطاء حقوق للمتضرر لا ترتبط بمبدأ المسؤوليَّة بالمفهوم التقليدي، حيث لم يعد ينظر إلى الضرر على أنّه مجرّد ركن من أركان المسؤوليَّة، وإنّما ينظر الى وجوب رفعه عن المتضرّر بصرف النظر عن مصدره، وأصبح موضوع إصلاح الضرر مستقلاً عن المسؤوليَّة، وأصبحت القوانين تُركز على حق الضحية في إصلاح الضرر، وهو الأمر الذي أحدث إنقلاباً في قواعد الإلتزامات على ضوء التطورات التي أحدثها قانون التأمين والنظر الى الضرر على أنه مسؤوليَّة المجتمع ( Socialisations du risqué ) ما أدّى إلى ظهور نظام مختلط يجمع بين التأمين والتضامن الإجتماعي.
غير أنّ هذا التحوّل والتطوّر الذي لحق إصلاح الضرر ما زال يواجه بعض الصعوبات، فتحمل الدولة مسؤوليَّة إصلاح الأضرار التي تلحق بالأفراد في المجتمع، لا بدّ أن يستند على أساس قانوني موضوعي يبرّرها. كما أنّ إمكانيات الدولة المالية قد لا تكفي ويمكن أن تعجز عن تحمّل كلّ الأضرار التي قد تصيب الأفراد، فظهرت كمرحلة أولى صناديق الضمان، وكبديل مؤقت عند عجز المتسبّب في الضرر عن دفع التعويض المناسب.
إنّ منطلق التحوّل الجديد لتعويض الضرر الحاصل لأحد أفراد المجتمع، هو اعتباره مشكلة إجتماعية تستدعي قواعد العدالة الإجتماعية والعدل والإنصاف البحث عن آليات جديدة لمساعدة المتضرّر. ويمكن القول ان هذا الامر ليس بدعة، فالعديد من البلدان أقرّ ضوابط معيّنة لمساعدة ضحايا الحرب والجريمة وضحايا الكوارث الطبيعية.
وفي غياب السند النظري، سلكت معظم الدول الطريق الأسهل، وهو طريق وضع قواعد تشريعية تقرَّر مساعدة المتضرّرين من الكوارث بشكل عام وفق ضوابط خاصة، بالإضافة الى الأسس التقليدية للمسؤولية الإدارية بدون خطأ أيّ المسؤولية على أساس المخاطر والمسؤولية على أساس مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة، والتي يمكن لمتضرّري الأمطار الطوفانية والإنجرافات الصخرية مطالبة الدولة بالتعويض على أساسها بالتأكيد إذا توفرت شروطها حيث ظهر مبدأ جديد للمسؤولية الإدارية بدون خطأ وهو مبدأ التضامن الوطني كأساس حديث مكمّل للأسس التقليدية.
فالأسس التقليدية من الممكن أن تفي بالغرض في بعض الأحيان وتساعد الضحايا بالحصول على التعويض لكنّها تحتاج الى شروط قاسية تثقلُ كاهل الضحية كما تجبرها على إثبات الرابطة السببية بين نشاط الدولة ووقوع الضرر سواء أكان نشاط الدولة ينطوي على خطأ أو لا. ففكرة التضامن الوطني نظرية حديثة وجد فيها الإجتهاد القضائي والمشرّع ضالتهما المنشودة لتحميل الدولة ومؤسّساتها عبء التعويض عن بعض الأعمال والنشاطات التي لا تنطوي على علاقة ربط واضحة وظاهرة بين الضرر الحاصل للمتضرّر ونشاط الإدارة.
ويستمدّ مبدأ التضامن الوطني أهميته إنطلاقاً من ارتباطه الوثيق بموجبات الإنصاف والعدالة في ظلّ التطوّر المستمرّ للدولة بما يحمله من معاني التآزر بين جميع فئات المجتمع ومؤسّساته كضرورة لمجابهة ومواجهة مختلف الأزمات والمحن وفي جميع الحالات، يبقى تحمل الدولة للتعويض ذا طبيعة استثانية إحتياطية، كما أنّه لا يمكن الجزم بأنّ ذلك يفقر خزينة الدولة، لأنّ هذه الأخيرة تســتطيع تنويع مصادر تمويل الميزانية بما لها من إمتيازات تخوّلها فرض ضرائـب جديدة.
كما ينطلق وجوب التعويض في هذه الحالة من مبدأ متى استنفد المتضرّر كلّ الوسائل المتاحة لجبر ما أصابه من ضرر، فإنّه لا ملاذ له إلَّا بالرجوع على الدولة باعتبارها المدين النهائي والأعظم القادر على تقديم التعويض لمن لم يجد له سبيلاً آخر لتضمينه أو تعويضه.
وأخيراً، لا بدّ من الإشارة في هذه الحالة إلى أهمية إنشاء الدولة اللبنانية صناديق الضمان لتتولّى مهام أداء التعويض المناسب والعادل للمتضرّرين في حالات معيّنة كالكوارث والأعمال الإرهابية وتعويض الضحايا، ومن ضمنهم ضحايا الأمطار الطوفانية والإنجرافات الصخرية ……..، وهذه الصناديق مستقلة بعض الشيء عن القواعد التقليدية للمسؤوليَّة الإداريَّة وتعمل على جبر الضرر الذي أصاب المتضرّر والذي لا ذنب له فيه ويكون من المستحيل أو من الصعب عليه تحديد المتسبّب في إحداثه، وبالتالي يتعذّر عليه الحصول على التعويض عن طريق تطبيق قواعد المسؤوليَّة الإداريَّة التقليدية التي تتطلّب إثبات الخطأ وتحديد المتسبّب فيه ، فتأتي صناديق الضمان الإجتماعي كبديل مناسب يقوم بدفع تعويضات للمتضررين في مثل هذه الحالات تكفي لجبر الأضرار التي أصابتهم وتتمتّع هذه الصناديق بالشخصية المعنوية المستقلة والخاصة، وتعمل على تقديم التعويض للمتضرر بمجرد إثباته لحجم الضرر الذي أصابه، ودون انتظار الأحكام القضائية التي من الممكن أن يطول أمدها ، وخاصة مع تهرب الإدارة وإنكارها نسبة الخطأ إليها.
إذا كان الجانب المشرق والمضيء لمبدأ التضامن الوطني يتجلّى عن طريق الاستناد عليه كأساس قانوني حديث لإقرار مسؤولية الدولة عن أضرار الكوارث وخاصةً أنّ إعمال مبدأ التضامن الوطني وتحميل الدولة مسؤولية كلّ كارثة سواء أكانت طبيعية أو مهجنة، تصيب أفراد المجتمع وإلزامها بالتعويض يعكس وجهاً مظلماً قاتماً، لا يبعث على التفاؤل ويتمثّل بمحدودية مقدرة الدولة وعدم سعة قدراتها المالية على استيعاب هذا الكم الهائل من الأضرار وما يتبعها من تعويضات تماماً كما هو الوضع في لبنان.
كما ان حاجتها للأموال ستدفعها الى فرض أنواع عديدة من الضرائب بصور مختلفة من الرسوم ليتسنّى لها الوفاء بالتزاماتها بأداء التعويضات للضحايا والمتضرّرين، فيؤدّي ذلك بدوره الى إثارة نقمة على الدولة والتمرّد على إجراءاتها في فرض تلك الضرائب والرسوم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ لجوء المتضرّر إلى صناديق الضمان للحصول على تعويض لا يمنعه من اللجوء الى القضاء الإداري عبر رفع دعوى التعويض الإدارية للحصول على التعويض، بل القاعدة هي عدم إمكانية المتضرر الحصول على تعويضين عن نفس الضرر أيّ إذا حصل على تعويض من صناديق الضمان، لا يمكنه الحصول على التعويض الذي يقرّه له القضاء الإداري، إلا في حالة كان قيمة التعويض من صناديق الضمان لا تغطّي كامل التعويض. ففي هذه الحالة يمكنه الحصول على الجزء المتبقي من التعويض.
* مصادر ومراجع:
Conseil d’Etat, 6 / 2 SSR, du 17 janvier 1996, 146167, Recueil Lebon
وراجع أيضاً : قرار مجلس شورى الدولة اللبناني رقم 2020/360 تاريخ 2020/02/11 ، ع.ق ضد/ الدولة وبلدية طرابلس، منشور على مركز المعلوماتية القانونية الجامعة اللبنانية . http://legiliban.ul.edu.lb
وقرار مجلس الشورى اللبناني رقم 361/2019 –2020 صادر بتاريخ 2020/02/12 ، المستدعي أ.ع ضد الدولة (ممثلة بالهيئة العليا للإغاثة ووزارة الطاقة والمياه ) منشور على مركز المعلوماتية القانونية ، المرجع ذاته.
“محكمة” – الأربعاء في 2024/2/21

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!