مقالات

لا يحقّ لحكومة مستقيلة التمديد لحاكم المركزي أو تعيين بديل/جهاد اسماعيل

الدكتور جهاد اسماعيل*:
يطوي شهر تموز المقبل حقبة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وما تفرّع عنها، مع انتهاء ولايته المحدّدة في قانون النقد والتسليف، تاركاً إشكالية دستوريّة جديدة: هل يحق للحكومة المستقيلة أن تعيّن حاكماً جديداً أو أن تمدّد للحاكم الحالي؟
كثرت التحليلات في هذا المضمار، في حين أن النصوص الدستوريّة والقانونيّة، برأينا، لا يعوزها جهد للوقوف على نيّة المشرّع في إقفال الباب أمام تعيين حاكم جديد للمصرف المركزي أو التمديد للحاكم الحالي في الظروف الراهنة، للأسباب الآتية:
– أولاً: من الثابت، بحسب الاجتهاد، أن الأعمال التصرفيّة هي تلك التي ترمي إلى إحداث أعباء جديدة أو إدخال تغيير جوهري على سير المصالح العامة، وفي أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهذه الأعمال تخرج، بطبيعتها، عن الأعمال العادية ولا يجوز لحكومة مستقيلة من ناحية المبدأ أن تقوم بها، على أن تُستثنى منها التدابير الضرورية التي تفرضها ظروف استثنائية تتعلق بالنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي، وكذلك الاعمال الادارية التي يجب اجراؤها في مهل محدّدة في القوانين تحت طائلة السقوط والإبطال.
ومما لا شكّ فيه أن اتخاذ قرار التعيين أو التمديد للحاكميّة يحدث تغييراً جوهرياً على سير العمل في مصرف لبنان لما يلعبه من أدوارٍ في التأثير على الكتلة النقديّة، وتالياً على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يدرجه ضمن الاعمال التصرفيّة، ويخرجه، في آنٍ، عن نطاق التدابير الضرورية الاستثنائيّة تبعًا لمنطوق المادة 25 من قانون النقد والتسليف الّتي نصّت على أنه «بحال شغور منصب الحاكم يتولى نائب الحاكم الأول مهام الحاكم ريثما يعيّن حاكم جديد». وهذا النصّ يقودنا إلى ثلاثة أمور:
الأول، حظر أيّ شغور أو فراغ في مصرف لبنان، وبالتالي دحض نظريّة «العجلة» الّتي كانت توسّع من نطاق «تصريف الأعمال».
الثاني، صحيح أن للحاكم ولاية قانونية تبدأ وتنتهي في أجلٍ معيّن، لكن الصحيح أيضاً أن عدم التعيين في هذا المنصب أو عدم التمديد للحاكم الحالي ليس عملاً إدارياً يسقط أو يُبطل إن لم يجرِ في مهلة معيّنة، وإلا لما كان المشرّع قد افترض، أصلاً، تعذّر التعيين، خصوصاً أن المحافظة على سلامة النقد والنمو الاقتصادي، وفق المادة 70 من قانون النقد والتسليف، من المهام المناطة بالمصرف في مجمله او كلّيته، وليس فقط في شخص الحاكم المناطة صلاحياته، طيلة فترة الشغور، إلى نائبه الّذي يُدلي، أساسًا، قبل ممارسة مهامه، كنائب للحاكم، يمين القسم بالصورة المطلوبة، تماماً، من الحاكم.
الثالث، إنّ السبب المُوجب، نظريًا، لتصريف الأعمال، والوازع، في الوقت نفسه، لممارسة الحكومات المستقيلة صلاحياتها في الإطار الضيّق، يكمن في حماية مبدأ قانوني عام وهو استمرارية المرفق العام الّذي يتحقّق، أصلاً، وبقوة القانون، في المصرف المركزي، من دون تدخل الحكومة، وإلّا القول على خلاف ذلك، يبرّر للحكومات المستقيلة، من دون وجه حق، أن تمارس صلاحياتها بصورة طبيعيّة تحت شمّاعة «الاستمرارية».
– ثانياً، تنصّ المادة 18 من قانون النقد والتسليف، الفقرة الرابعة، على وجوب أداء القَسم أمام رئيس الجمهوريّة من قِبل الحاكم الجديد للقيام بوظائفه باخلاص ودقة، محترماً القانون والشرف. تُستشف من هذا النصّ، وكذلك من الواقع، برأينا، مسألتان:
الأولى، لمّا كانت صلاحيات رئيس الجمهورية عند خلو سدّة الرئاسة تناط، وكالةً، بمجلس الوزراء عملاً بالمادة 62 من الدستور، إلّا أنه لا يجوز للحكومة، مكتملة الأركان أم مستقيلة، ممارسة هذا الامر، أيّ المثول أو القسم أمامها، لأنها إمتيازٌ خاص لرئيس الجمهورية المؤتمن، وفق نص المادة 50 من الدستور، على دستور البلاد وقوانينها بموجب اليمين الدستورية فور تسلّمه سدة الرئاسة، ما يعني أن المادة 62 أوكلت الصلاحيات الرئاسية للحكومة لا الامتيازات وسواها، ما دام الشغور الرئاسي قائماً.
الثانيّة، لا يمكن التقليل من شأن «اليمين» الواجب إدلاؤه أمام رئيس الجمهورية، فهو، برأينا، شرطٌ لممارسة «الحاكم» مهامه، وبالتالي إن الشغور في سدة «الرئاسة» يُرجئ مفعول التعيين ريثما تتوفّر ظروف «اليمين القانونيّة».
وما يعزّز هذا المنحى من التحليل، هو أن المادة الثالثة من قانون رقم 243 من النظام الداخلي للمجلس الدستوري اعتبرت أن مدة ولاية اعضاء المجلس تبدأ من تاريخ أداء قسم اليمين، والأمر نفسه نجده في المادة 10 من قانون تنظيم مهنة المحاماة، حيث لا يجوز للمحامي أن يبدأ ممارسة المحاماة قبل حلف اليمين.
وهذان النصّان مدعوان للقياس على فرضيّة «الحاكمية» تبعاً لشقين:
أ – المقتضى الوارد في قانون النقد والتسليف الّذي يعطي «الحاكم» صلاحيات لا تقل اهميةً عن مهام القاضي الدستوري والمحامي، ولا سيما منها بموجب المادة 26 من قانون النقد والتسليف: «التمتّع بأوسع الصلاحيات لإدارة المصرف وتسيير اعماله، وهو مكلف بتطبيق هذا القانون وقرارات مجلس المصرف المركزي».
ب – سنداً للعرف، كمصدر من مصادر القاعدة الحقوقيّة، الذي قضى بوجوب أداء اليمين قبل ممارسة «الحاكم» مهامه.
– ثالثاً، المميّز الرئيسي للنظام السياسي في لبنان هو اعتماده النظام البرلماني الذي يقوم، في أحد وجوهه، على مسؤولية الحكومة أمام مجلس النواب، أيّ ربط ممارسة الحكومة لكامل صلاحياتها بنيلها الثقة البرلمانيّة الّتي تمتد مفاعيلها إلى عُمر الحكومة، لذلك كان من الطبيعي اقتران ممارسة سلطة الحكومة بدوام مسؤوليتها أمام مجلس النواب، ما يعني أن استقالة الحكومة او اعتبارها مستقيلة، بحسب قرار صادر عن مجلس شورى الدولة رقم 613/1969، تؤدي إلى زوال المسؤولية البرلمانية، وبالتالي وضعها خارج الرقابة السياسيّة لا القضائيّة..
تطبيقاً لذلك، من العبث، برأينا، أن يُجاز لحكومة غير مسؤولة أمام البرلمان قرار تعيين من يُناط به تنفيذ السياسة النقديّة للدولة، وهو في الوقت نفسه من أحد المواضيع الأساسيّة للفقرة الثالثة من المادة 65 من الدستور.
وقد يُرّد على هذا التحليل بأن البلاد في ظل ظروف استثنائيّة حيث تستلزم، بالضرورة، شرعية استثنائيّة، لكن هذا الاعتقاد يصطدم بأمرين:
1 – إنّ هذا التعيين او التمديد يخرج عن نطاق الظروف الاستثنائية، لأن الشرط الأساسي في هذه النظريّة، هو أن تكون تلك الظروف خارجة عن إرادة الجهة المناط بها القيام بعمل معيّن، وهذا ما لا يتوافر في الواقعة المشكو منها.
2 – حتّى تُطبّق نظرية «الظروف الاستثنائيّة» أن تكون، أيضاً، ثمّة استحالة للتصرف بطريقة أخرى غير التي سلكتها الادارة، أيّ يتعيّن على الحكومة أن تعجز بوسائلها العادية عن مواجهة هذه الظروف بحيث تضطر اضطراراً للجوء الى الوسائل الاستثنائية، وهذا يعني ان تتوافر للسلطة الادارية امكانية العمل المادي او القانوني ومواجهة الاحداث الا بما قامت به، وهذا ما يُستفاد في قرارات عديدة لمجلس شورى الدولة.
الأمر الذي يمنع الحكومة من اتخاذ قرار التعيين الجديد او التمديد، ذلك أن المادة 25 من قانون النقد والتسليف، كما أسلفنا الذكر، حالت دون الوقوع في الشغور أو الفراغ في موقع «الحاكمية».
بناءً عليه، لا يجوز للحكومة المستقيلة أن تُسقط حدود صلاحياتها أمام جنود تسوياتها، وتضرب بعرض «الحائط» الأسباب السالف ذكرها، عبر تعيين حاكم جديد للمصرف المركزي أو التمديد للحاكم الحالي.
* خبير دستوري وأستاذ جامعي في القانون العام.
* المصدر: جريدة الأخبار.
“محكمة” – الجمعة في 2023/4/21

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!