“كباش” حول اسم المحقّق العدلي لانفجار مرفأ بيروت.. والنتيجة تعيين فادي صوّان/علي الموسوي
كتب علي الموسوي:
للمرّة الأولى في تاريخ القضاء اللبناني، يحصل “كباش” بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى على اختيار قاض ليكون محقّقاً عدلياً في جريمة تمس بأمن الدولة الداخلي ويقتضي إحالتها على المجلس العدلي بوصفه أعلى هيئة قضائية جنائية في لبنان.
ففي السنوات السابقة، كان وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى يتفقان مسبقاً على الاسم الذي تفرض آلية تعيينه أن يقترحه الوزير على أن يوافق المجلس لكي يصدر مرسوم تعيينه في هذه المسؤولية الجنائية الكبيرة التي لا يستهان بها، والتعيين مشروط بهذه الموافقة المسبقة ولا يمكن لوزير العدل أن يتجاوزه بحكم النصّ، أو أن يتغاضى عنه، أيّ لا يمكن لوزير العدل أن يبادر من تلقاء نفسه إلى اختيار القاضي وتعيينه مباشرة من دون الرجوع إلى مجلس القضاء كما هو معمول به في انتقاء المفتّشين القضائيين حيث يستفرد الوزير في التعيين، وبالتالي لا مفرّ من اجتماع الطرفين أو التواصل مع بعضهما بعضاً، فيطرح الوزير إسماً مقبولاً يرضيهما ولا يكون مستفزّاً، ويسارع المجلس إلى إعلان قبوله.
أسبقيات
هذا ما حصل مع كلّ القضاة الذين تعاقبوا على ملفّات الجرائم المحالة على المجلس العدلي في السنوات الخمس عشرة الماضية، فلم يلق على سبيل المثال لا الحصر، تعيين ميشال أبو عرّاج أيّ اعتراض عند تعيينه محقّقاً عدلياً في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري فبديله الياس عيد ثمّ صقر صقر، ونتحدّث هنا عن التعيين وليس الممارسة. وقد أحسن الوزير والنائب العام التمييزي القاضي عدنان عضوم إختيار أبو عرّاج وهو يومذاك يرأس محكمة الجنايات في بيروت، فالياس عيد وكان قاضياً للتحقيق في بيروت، قبل أن تنتقل السلطة السياسية إلى فريق “14 آذار” وتختار صقر الذي كان مأخوذاً بالتنسيق الكامل مع النائب العام التمييزي سعيد ميرزا المنحاز لأسباب سياسية ومذهبية، فوقع هو بدوره في شرك اللاموضوعية، ممّا أفقده مشروعية القاضي الموثوق في أدائه وعمله.
وكذلك اختير بسهولة تامة ومن دون أيّة ممانعة أو أيّ اعتراض كلّ من:
1- القاضي نبيل صاري ليكون محقّقاً عدلياً في تفجيري البحصاص وشارع المصارف في طرابلس وكان صاري مستشاراً في محكمة التمييز، وذلك في عهدي القاضي ميرزا ووزير العدل إبراهيم نجّار.
2- القاضي رشيد مزهر في جريمة عين علق وكان في منصب قاضي التحقيق العسكري الأوّل في عهدي ميرزا والوزير شارل رزق.
3- القاضي جهاد الوادي في قضيّة “اغتصاب السلطة” التي وجّهت إلى العماد ميشال عون، وكان بهيج طبّارة وزيراً للعدل وعدنان عضوم مدعياً عاماً لدى محكمة التمييز.
4- القاضي غسّان عويدات في ملفّ أحداث “نهر البارد” وكان في مركز قاضي التحقيق الأوّل في بيروت وذلك في عهد ميرزا والوزير رزق.
5- القاضي فادي العنيسي في جريمة اغتيال المسؤولين في حزب الكتائب في زحلة نصري ماروني وسليم عاصي وكان قاضياً للتحقيق في بيروت في عهد الوزير نجّار وميرزا. وهو حلّ بديلاً عن القاضي رفول البستاني المعيّن من نجّار نفسه الذي كان يمثّل حزب “القوّات اللبنانية” في حكومة الرئيس سعد الحريري الوحيدة في عهد الرئيس ميشال سليمان.
6- القاضي محمّد صعب في جريمة اغتيال الوزير الأسبق محمّد شطح في عهد المدعي العام التمييزي سمير حمود ووزير العدل أشرف ريفي الذي اختاره باعتباره مستشاره وفرضه خلافاً للقانون، لأنّ درجته لم تكن تؤهّله وتسمح له أن يكون محقّقاً عدلياً، إذ كان في الدرجة السادسة، بينما المحقّق العدلي من الدرجة الثامنة وما فوق، في تراتبية الدرجات المعمول بها في القضاء العدلي. ولم تكن لدى صعب أيّة خبرة جزائية فهو دخل إلى القضاء أصيلاً في 24 تشرين الثاني 2007، وعمل قاضياً منفرداً في طرابلس فملحقاً بالمديرية العامة لوزارة العدل في عهد ريفي في العام 2014 ليكون قريباً منه، غير أنّ مجلس القضاء في عهد القاضي جان فهد وافق عليه موقعاً نفسه في مخالفة صريحة للقانون ومؤكّداً بذلك نزوله عند رغبة وزير العدل في ما ارتضاه من تعيين.
“مفاجأة” نجم
غير أنّه مع قضيّة الإنفجار المزلزل الذي ضرب مرفأ بيروت في 4 آب 2020 وأوقع عدداً كبيراً من الشهداء والجرحى والأضرار المادية والمعنوية والنفسية في الأرواح والأرزاق والممتلكات ولمسافة آلاف الكيلومترات، ظهر إلى العلن”خلاف” بين وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال الدكتورة ماري كلود نجم ومجلس القضاء بعدما اقترحت هي اسم القاضي سامر يونس فلقي الأمر اعتراضاً ورفضاً علنياً أدّى إلى استبعاده نهائياً، فأتبعته باسم القاضي طارق البيطار المنهمك بملفّات محكمة الجنايات في بيروت التي يرأسها منذ تشرين الأوّل 2017، ثمّ اختارت نجم قاضي التحقيق العسكري الأوّل بالإنابة فادي صوّان فسارع مجلس القضاء إلى إبداء موافقته ومن دون أدنى تردّد ليكون محقّقاً عدلياً للمرّة الأولى في مسيرته القضائية.
تسريب بهدف التشويش
ولم يكن في السابق، اسم القاضي يسرّب إلى وسائل الإعلام قبل الإتفاق على تعيينه بشكل نهائي، بعكس ما حصل هذه المرّة بين الوزيرة نجم ومجلس القضاء الأعلى غير المكتمل والناقص اثنين من أعضائه العشرة والمؤلّف من القاضي سهيل عبود رئيساً والنائب العام التمييزي القاضي غسّان عويدات نائباً له والأعضاء رئيس هيئة التفتيش بركان سعد، وروكز رزق، وسهير الحركة، وهيلانة اسكندر، وماهر شعيتو وإليان صابر بعدما استقال من القضاء منذر ذبيان وتقاعد كلود كرم.
وهذا التسريب المتعمّد وقبل أوانه وقبل الإتفاق عليه، والرامي إلى التشويش والإيذاء المعنوي، أتى أُكله لدى الراغبين باستبعاد يونس عن التحقيق العدلي، مع محاولة التصويب على أنّه “حزبي” نتيجة ولادته في بيت مُوَال لـ “حزب الكتائب اللبنانية”، فهو إبن دياب يونس مدير عام إدارة المناقصات ومحافظ البقاع والدكتور الحقوقي والمحامي المسجّل في الجدول العام لنقابة المحامين في طرابلس وصاحب كتابي”الخطابة القضائية” و”420 يوماً في البقاع”، فضلاً عن قُرْب القاضي يونس من وزير العدل الأسبق سليم جريصاتي “الحاكم بأمره” في عهد الرئيس ميشال عون، و”تعاطيه بفوقية” مع زملائه القضاة ولاسيّما قضاة التحقيق في بيروت إلى ما هنالك من أقاويل ذكرت ونشرت عن سابق إصرار وترصّد ولا تمّت إلى المهنية بصلة!
يونس المشاكس
ومن يعرف القاضي سامر دياب يونس جالساً على قوس المحكمة أو واقفاً وراء مكتبه يوم كان موجوداً في عدلية بيروت كمحام عام استئنافي أو مرافعاً أمام محكمتي استئناف الجنح والجنايات، يدرك أنّ هذا الرجل الذي نادراً ما يبتسم وإنْ فعل فلحسن حظّ من يصادفه، صلبُ المواقف ومشاكسٌ من الطراز الرفيع، وقويُ الشكيمة وصعبُ المراس وجدّيُ الكلام إلى حدّ الخطابة بلغة عربية فصحى يتقنها من بيت أبيه، وهو حازم في قراراته لكأنّه آتٍ لتوّه من ذلك الجرد الشامخ في عنفوانه والذي لا يلين، عنيت مسقط رأسه بلدة تنورين الفوقا في قضاء البترون.
المشرّع وخلاف الوزير والمجلس
ويبدو من أنّ المشرّع أغفل سهواً أو عن قصد، إيجاد معالجة قانونية وقضائية في حال حصول خلاف في وجهات النظر أو تعارض بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى بشأن القاضي المختار محقّقاً عدلياً كما حصل بشأن تسمية نجم للقاضي يونس وعدم موافقة مجلس القضاء على هذا الإقتراح الذي لا يوجد نصّ يلزم مجلس القضاء بتعليل عملية الرفض وعدم القبول، ولربّما اعتقد المشرّع صعوبة الوصول إلى هذا الخلاف بين طرفي التسمية والموافقة، فنأى بنفسه عن تحديد جهة ما للفصل بينهما، ممّا يعني وجوب الإتفاق المسبق على اسم القاضي المقترح بين وزارة العدل ومجلس القضاء قبل البوح به لوسائل الإعلام وأمام الرأي العام.
لا تأخير
ولا بدّ من التذكير بأنّه لا يوجد أيّ تأخير في تعيين محقّق عدلي مثلما أشيع خطأ من سياسيين وإعلاميين وقانونيين، ما دام قاضي التحقيق العسكري الأوّل قد وضع يده على ملفّ جريمة التفجير المشهودة والموصوفة والتي تستدعي تحرّكه تلقائياً ليأخذ دوره كما فعل القاضي رشيد مزهر عند حصول جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 ثمّ رفع يده بشكل تلقائي عند تعيين محقّق عدلي. ولكن لم يعرف لماذا نأى القاضي صوّان عن هذه الجريمة المشهودة ولم يبادر إلى استلام التحقيق فور وقوع الجرم بدلاً من النيابة العامة التمييزية؟!
ولا بأس من تنشيط ذاكرة هؤلاء عبر العودة إلى الأرشيف للقول إنّ تعيين محقّق عدلي في جريمة اغتيال الحريري تمّ يوم الإثنين الواقع فيه 21 شباط 2005، أيّ بعد مرور سبعة أيّام على دوّي ذاك العصف القاتل لروح الوطن، وبالتالي الفارق ليس بعيداً مع وجوب الأخذ بعين الإعتبار الفارق الكبير في المشهد السياسي بين اليوم وآنذاك، أيّ بين 4 آب 2020 و14 شباط 2005، وبين التضامن الوطني اليوم لأنّ المصيبة جمعت كلّ اللبنانيين بمختلف طوائفهم ومذاهبهم، وتحريك الفتنة والغريزة المذهبية آنذاك وصبّ الغضب الشعبي على جهة دون أخرى، وإصدار الأحكام واستباق نتائج التحقيق، من دون أن ننسى الفارق الكبير بين الجريمتين الواقعتين في محلّتي المرفأ و”السان جورج” من العاصمة بيروت من حيث الأسباب والدوافع والأسلوب.
بدعة طائفة القاضي والمستهدف
على أنّ الطامة الكبرى تجسّدت في ما سبق لنا في“محكمة” أن حذّرنا منه وأشرنا إليه في كتابات سابقة من وجود نزعة غير محبّذة ولا تمّت إلى القانون بصلة، ترمي إلى اختيار المحقّق العدلي من طائفة أو مذهب المجنى عليه أو عليهم، علماً أنّ هذا الأمر الطارئ غير موجود في المحاكم وقصور العدل، فلا الدعاوى تحال على قضاة التحقيق والقضاة المنفردين والهيئات الإتهامية ومحاكم استئناف الجنح والجنايات والتمييز بحسب طائفة ومذهب القاضي أو المدعي أو المدعى عليه، وكذلك الأمر في دعاوى التنفيذ والعجلة والأحوال الشخصية والإفلاس والمصارف والإيجارات والعقارية، وهذا تصرّف مرفوض ومنبوذ وليس من شيم العدالة الحقّة.
واستعيدت هذه النغمة الطائفية مع انفجار مرفأ بيروت، إذ ذهب المراهنون على التفرقة الوطنية إلى حدّ إحصاء عدد الشهداء والجرحى وتوزيعهم بحسب طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم، من دون أن يرفّ جفن الحياء لديهم.
وقد استجدّ التلازم بين طائفة القاضي ومذهبه وطائفة الشخصية أو المنطقة المستهدفة أو الواقع فيها الإغتيال أو التفجير منذ العام 2006 تقريباً بعدما كان مستبعداً بصورة نهائية ونادراً ما حصل وليس لأسباب طائفية ومذهبية وإنّما لضرورات الملفّ وقدرة وكفاءة القاضي وموافقته المسبقة والإلزامية عند مفاتحته بالموضوع.
ولا يوجد سند قانوني أو عرف يقول باختيار محقّق عدلي لكلّ جريمة أو قضيّة من الطوائف المسيحية ما دام أنّ النائب العام العدلي من الطائفة الإسلامية وتحديداً المذهب السنّي منّها، وهذه بدعة ظهرت إلى العلن بعد العام 2006 وبوشر العمل بها من قبل ذوي النزعة الطائفية التي لا تلتقي مع العدالة الجديرة بالتقدير.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه يمكن للنائب العام العدلي الذي هو حتماً وحكماً النائب العام التمييزي، لدى المجلس العدلي، أن يحضر جلسات المحاكمات شخصياً أو أن ينيب عنه أحد معاونيه من المحامين العامين التمييزيين الذين هم من طوائف ومذاهب مختلفة، وبالتالي فإنّ بدعة اختيار محقّق عدلي بخلاف طائفة ومذهب المدعي العام العدلي ساقطة ويجب على وزير العدل من أيّ طائفة أو مذهب كان أن يرفضها بمجرّد الإضطرار إلى تعيين محقّق عدلي في قضيّة أو جريمة ما.
وهكذا، كان الماروني طربيه رحمة والدرزي الراحل سهيل عبد الصمد محقّقين عدليين في جريمة إخفاء الإمام السيّد موسى الصدر وأخويه الشيخ محمّد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين وهم شيعة، والدرزي رشيد مزهر محقّقاً عدلياً في التفجيرين الإرهابيين اللذين وقعا في محلّة عين علق في المتن الشمالي حيث كان الفاعل تنظيم”فتح الإسلام” ومعظم الشهداء والجرحى من الطوائف المسيحية.
كما كان السنّي حاتم ماضي محقّقاً عدلياً في محاولة اغتيال الرئيس كميل شمعون الماروني، وصقر صقر الماروني في محاولة اغتيال مصطفى سعد السنّي، وميشال أبو عرّاج الكاثوليكي والياس عيد وصقر صقر المارونيان محقّقين عدليين على التوالي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري السنّي، والقاضي السنّي عبد الرحيم حمود في جريمة اغتيال الماروني إيلي حبيقة، والدرزي نديم عبد الملك في جريمة اغتيال الرئيس رينيه معوّض الماروني وطنوس مشلب الماروني في قضيّة محاولة اغتيال الرئيس سليم الحصّ السنّي. والأمثلة كثيرة ولا حصر لها على الإطلاق، مع لفت النظر إلى أنّ المتضرّر الأكبر من سيل هذه الجرائم هو الوطن لبنان وليست هذه الطائفة أو تلك.
صوّان بإيجاز
بحسب السجّلات الرسمية الموجودة لدى “محكمة”، فإنّ القاضي فادي جوزف صوّان من مواليد طرابلس في 10 أيلول 1960، دخل إلى معهد الدروس القضائية في 5 كانون الأوّل 1985 وتخرّج فيه أصيلاً في 3 تموز 1990 وشغل مواقع قضائية عديدة منها:
• قاضي تحقيق في لبنان الشمالي.
• قاضي تحقيق في جبل لبنان في العام 2003، بموجب المرسوم رقم 10084 الصادر في 12 أيّار 2003.
• قاضي تحقيق عسكري منذ العام 2009، وشغل مركز قاضي تحقيق عسكري أوّل بعد استقالة القاضي رياض أبو غيدا في 22 تشرين الأوّل 2018 كونه الأكبر سنّاً بين زملائه القضاة الموجودين هناك.
والقاضي صوّان في الدرجة 20 في التراتبية القضائية(بلغها في 3 تموز 2020) ومتأهّل من القاضي منى صالح، ويدرّس في جامعة الحكمة مواد قانونية منها “تاريخ القانون” و”النظرية العامة للقانون المدني/ الموجبات والعقود) مع أعمال تطبيقية.
ويأمل الشعب اللبناني المفجوع أن يتوصّل القاضي صوّان إلى الحقيقة الكاملة في ملفّ انفجار مرفأ بيروت قبل أن يحال على التقاعد في 10 أيلول 2028 خصوصاً وأنّ هناك إشارات كثيرة قد تساعده في مهمّته الوطنية، فهل يتخطّى “شياطين السياسة” حيث تكمن دوماً في التفاصيل!
“محكمة” – الخميس في 2020/8/13
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.