مقالات

الإصلاح السياسي والعدالة المرجوة/دايانا عزيز

بقلم دايانا ج. عزيز*:
لبنان، البلد الديمقراطي المبني على المحاسبة والمساءلة، يعاني من معضلة لا يمكن حلّها إنّما معالجتها قدر الإمكان. تلك المعالجة لا تتمّ عبر تعديل بسيط في الدستور أو القوانين أو اتهام اتفاق الطائف أو ما يعرف بوثيقة الوفاق الوطني بشكل رئيسي، إنّما معاناته متأتية من وجوده في جوار جغرافي استبدادي أو دكتاتوري أو في طور التحوّل الديمقراطي، وعقلية التبعية الطائفية السائدة في المجتمع في ظلّ نظام سياسي مبني على التعددية الحزبية والطائفية.
لبنان، هذا البلد الصغير المستضعف في ظلّ نظام معولم ، أرض خصبة تجتذب الصراعات الخارجية وساحة حرب اقتصادية مبرمجة ومدمّرة من قبل الدول العظمى التي تستغل نقاط ضعفنا وتحركنا من خلال أمراء الطوائف . ففي لبنان دويلات داخل الدولة، الأعراف تتقدّم على الدستور والمحاصصة تتغلغل في مختلف إدارات الدولة ومؤسّساتها خاصة في توزيع المقاعد في المجلس النيابي وفي وظائف الفئة الأولى.
الإصلاح ممكن أن يشمل الإدارة، القضاء، الوضع المالي والاقتصادي للدولة، تفعيل سلطة الرقابة على مختلف مؤسّسات الدولة .. وكمدخل لكلّ إصلاح يجب أوّلاً معالجة مشكلة الطائفية المتجذّرة في الدولة ومؤسّساتها النظرية والتي تعدّت فكرة الايديولوجية أو العصبية لتصبح قاعدة سياسية متفشّية في أرجاء الدولة ومتحكّمة بالقرارات السياسية والمالية والإدارية والقضائية، ناهيك عن فشلها في إنماء الشعور الوطني والعيش المشترك وتأمين الاستقرار السياسي، فالمشكلة تكمن ليس في الميثاق أو الدستور إنّما بالحكمية أيّ أشكال التطبيق والممارسة، من صورها توافق النخبة entente interélite على حساب القاعدة القانونية .
إنّ مبدأ علمانية الدولة لا يعني الانفصال المتبادل أو التنافس بين الدولة والدين، بل التعاون في سبيل المصلحة العامة وتحقيق العدالة والتنمية الإنسانية، إذ نلاحظ وللأسف الشديد، عند الأزمات أو الاستحقاقات الوطنية زيادة في العصبية الطائفية وتقديم المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة.
غالباً ما نرى زعامة الطوائف تنحصر في أقلية معيّنة أو شخصيات معيّنة تكون رموزاً وتستحوذ على السلطة داخل الطائفة الواحدة فتعمد إلى تطبيق قاعدة التخصيص أو “الكوتا” بشكل موحش لصالح الزبائنية بعيداً عن الكفاءات، كما وتتغلغل يدها لتصل إلى حدّ خرق مبدأ فصل السلطات الذي يفترض أن لا تكون الحكومات مجالس نيابية مصغرة وأن يكون للقضاء استقلاله الإداري والمالي على حدّ سواء .
كثرت فضائح القضاء المسيّس في الآونة الأخيرة وأحدثها ابتداع مركز قضائي جديد لم ينصّ عليه القانون وبالتالي التسويق لإمكانية إلغاء أو تعديل قانون بمجرّد قرار إداري باطل يمكن الطعن فيه أمام مجلس شورى الدولة خاصة وأنّه لا يحقّ لوزير العدل أن يحدّد صلاحيات المحقّق العدلي التي يحدّدها فقط القانون، فتعيين محقّق عدلي رديف ، لأسباب يقال إنّها إنسانية إنّما باطنها سياسي بامتياز، إلى جانب محقّق عدلي أصيل هو تعدٍّ على القانون وعلى مبدأ سرّية التحقيق الابتدائي!
إنّ المحقّق العدلي الأصيل ما زال موجوداً بانتظار البتّ بطلبات ردّه المقدّمة من قبل من تحوم حولهم “الشبهات” في ملفّ تفجير المرفأ، وما زاد الأمر تعقيداً هو امتناع وزير المالية عن توقيع مرسوم تشكيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز الذي لولا هذا الامتناع لما وصلت الأمور إلى حدّ استحداث مركز محقّق عدلي رديف من الممكن أن يحدث تشابكاً بالصلاحيات والآراء خاصة وأنّ قاضي الأصل هو قاضي الفرع ، ومزيداً من التعقيدات علماً أنّ هذا الأخير ليس بمنأى عن ورود طلبات ردّ بحقّه تعيد الملفّ إلى نقطة الصفر!
في اجتماع له أعلن مجلس القضاء الأعلى موافقته بالإجماع على تعيين محقّق عدلي رديف، إنّما لم يتخذّ قرار بالتعيين أو التكليف من قبل وزير العدل وبموافقة مجلس القضاء .
في المبدأ يتألّف مجلس القضاء من ١٠ قضاة، إنّما حالياً هنالك ثلاثة قضاة غائبين والتصويت سينحصر في ستّة قضاة لأن القاضي السابع وهو مدعي عام التمييز، إختار التنحّي عن ملفّ تفجير المرفأ ، خاصة وأنّ علاقة قربى تجمعه مع أحد المشتبه بهم في الملفّ المذكور، وعند التعادل فإنّ رأي الرئيس هو الحاسم.
لا بدّ من أنّ وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى قد استأنسوا بالأحكام العامة التي ترعى أحوال قضاة التحقيق ووظائفهم، تحديداً المادة ٥٢ أ.م.ج في فقرتها الثالثة، التي أجازت للرئيس الأوّل لمحكمة الاستئناف انتداب قاض عند وجود مانع (قانونياً كان أم لم يكن) يحول دون قيام قاضي التحقيق بوظيفته، وذلك في ظلّ غياب تام لأحكام مماثلة في النصوص التي تعنى بالمجلس العدلي وهنا نذكر المادة ٣٦٦. أ.م.ج. التي لم تنصّ على إمكانية انتداب قاض يحلّ محلّ الأصيل أو يعاونه.
كما هو معلوم، فإنّ التشكيلات القضائية تصدر بمرسوم يوقّع عليه كلّ من رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة وكلّ من وزير العدل والدفاع والمالية، وإنّ أيّ إمضاء من الممكن أن يعرقل تلك التشكيلات التي غالباً لا تراعى فيها الكفاءات والأقدمية والتي تعمد إلى سيطرة الطبقة السياسية وتحكّمها بمفاصل القضاء.
وما يجعل القضاء أكثر عرضةً للضغوطات السياسية، انعدام الاستقلال المالي حيث إنّ بإمكان وزير المالية وبشخطة قلم أن يقتطع من معاشات القضاة في ظلّ غياب ضمانة دستورية تكفل تلك الاستقلالية المالية، وبالتالي استقلال وحياد القاضي .
العدالة الإجرائية حقّ للمدعى عليه أو المشكو منه كما هي حقّ للمدعي بإقامة دعواه والسير بها دون أيّة عراقيل، إلّا أنّ الواقع العملي أثبت أنّ الحصانات السياسية والنيابية باب للمماطلة وفرار من يتمتّعون بها من العدالة. فرئيس الجمهورية والوزراء لا يمكن اتهامهم إلّا من قبل المجلس النيابي في الجرائم المنصوص عنها في الدستور ولا يحاكمون إلّا أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي لطالما كان “ديكوراً” في لبنان، كما أنّ للنائب بالإضافة للحصانة الشاملة حصانة مؤقّتة تمنع ملاحقته جزائياً أثناء دورة الانعقاد إلّا بإذن من المجلس النيابي وهذه الحصانة لا تسقط حتّى في حالة إعلان حالة الطوارئ لأنّها بحمى الدستور خلافاً للحرمة الشخصية المعترف بها لكلّ فرد والتي جعلها الدستور بحمى القانون.
بالنسبة للمؤسّسات المصرفية، فلم تسلم من شرّ السياسة حيث نلاحظ سيطرة لعدد لا بأس به من اللاعبين السياسيين على القطاع المصرفي. من تداعيات ذلك حصول أكبر عملية سرقة موصوفة لأموال المودعين داخل المصارف التي توقّفت عن دفع موجباتها وبالتالي تعرّضها لإعلان إفلاسها .
في السنوات الماضية، كان اقتصاد لبنان ريعياً وليس منتجاً، بمعنى أنّ الفوائد العالية نسبياً التي كانت تقدّمها المصارف اجتذبت رؤوس الأموال حيث انهالت الودائع، فعمدت المصارف إلى إقراض مصرف لبنان من أموال المودعين وهذا الأخير أقرض الدولة الموصوفة بالفساد بفوائد سخية، بدلاً من استثمارها في مشاريع منتجة تحرّك العجلة الاقتصادية، فالتدقيق يجب أن يتمّ ليس فقط في سجّلات مصرف لبنان، إنّما بالمالية العامة أيّ “الصندوق الأسود” لجميع الوزارات لمعرفة كيف صرفت وأين تبخّرت الأموال؟
وما زالت أزمة المصارف تتصاعد وتيرتها في الشارع اللبناني خاصة بعد رفض قانون “الكابيتال كونترول” الذي لم يُطرح أصلاً بشكل جدّي والذي لا فائدة من تطبيقه كون مبالغ مالية ضخمة قد تمّ تهريبها للخارج، بالإضافة إلى انهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي دون وجود أيّة حلول مالية منعاً للإستنسابية والأخبار التي تحوم حول تحميل المودع جزءًا من الدين والخسائر بغية النهوض مجدّداً عقب الإنهيار الذي أوصلتنا الطبقة السياسية إليه.
بناءً على كلّ ذلك وبسبب الأزمة الاقتصادية الراهنة التي يمرّ بها الشعب اللبناني والتي جعلت شريحة كبيرة من اللبنانيين يعيشون فقراً مدقعاً، في ظلّ الزبائنية والتزلّف والتذلّل إضافة إلى التعدّيات الصارخة على أبسط الحقوق، كثرت الهجرة غير الشرعية إلى الدول الغربية حيث يتمّ التهريب لقاء مبالغ مالية باهظة عبر زوارق مطاطية أو قوارب صغيرة تفتقر إلى أدنى حدّ من السلامة في رحلة محفوفة بالمخاطر .
* كاتبة وباحثة قانونية.
“محكمة” – الجمعة في 2022/9/16

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!